صفحات العالم

ماذا يعني أن نكون أخطأنا في شأن سوريّة؟/ سامر فرنجيّة

كتب الفيـلسوف الأميـركي مايـكل والزر مقـالـة على مدوّنة المجلة اليسارية «ديسنـت» بعنوان «هل أخطأنـا في شأن سـوريّــة؟» (٣٠-١٠-٢٠١٣)، يعيد النظر فيها بموقفه الرافض للتدخّل العسكري، منطلقاً من اختلاف الوضع السوري عما كان في العراق. (ترجم النصّ ماهر الجنيدي على مدونته).

فالواقــــع السوري، عند والـــــزر، يعاني «بؤساً وشِدّة خانقين»، يفـــوقان ما حـدث في العراق، وهـذا من «دون أي مـشاركة لافـتـــة مــن جانب الـــولايات المتحدة». ويعود والزر بهذا الاستنتاج إلى النقاشات التي أحاطت بموضـوع الضـربـة، ليـخلص إلى أنـه رغم عدــــم التــدخّل، فـ «الكارثــة حلّت بــسوريّــة على نطاق أكبر». وهنــا المعــــضلة التي تفرض سؤالاً أخلاقـيـاً وفــق مؤلف «الحروب العادلـــة وغير العادلة»، وهو:«ماذا لو أننا لم نبق بعيدين؟».

ليس لوالزر جواب على هذا السؤال، لكنّ مجرد طرحه يفرض عدداً من الملاحظات، قد يكون من الصعب تقبّلها على اليسار الغربي، الذي بقي، رغم اختلافاته، موحداً في رفضه استعمال القوة ضد النظام.

وملاحظة والزر هي أنّ الحل الديبلوماسي لأزمة الأسلحة الكيماوية لم يكن ممكناً لولا «تهديد الولايات المتحدة بمهاجمة سوريّة»، ما يجعل الكلام عن حل تفاوضي صعباً من خارج «التدخل الأميركي القوي». لم يختتم والزر موقفه بمطالبة اليسار بتبني مسألة التدخّل العسكري، فهو ليس متأكداً من جدواه، بل طالب بمجرّد التفكير بأنّ يكون هذا اليسار أخطأ التقدير تجاه تلك المسألة.

كان والــــزر جزءاً ممـــن عارضـــوا التدخّل العسكري في سورية، وما زال يعارضه. غير أن معارضته الحالية باتت أكثر تردداً أو تواضعاً. فهو يتساءل في مقالته ما إذا كان في وسع تدخــــل مبـــكر أن يفضي إلى وضع أقل سوءاً مما هو اليوم، مضيفاً «وهل يوجــد أسوأ مما هي عليه الأمور الآن؟». «أو ربما لا»، يعود ويكتب والزر، «وحتى لو كانت الحجج جيدة قبل عامين، فمن غير المؤكد جذرياً أنها ستكون منطقية اليوم». ليس لدى المقالة حل للمعضلة السورية، وهذا ما يجعلها لحظة متقدّمة على النقاشات التي سادت منذ بضعة أشهر وتميزت بوضوح لا يبرره الواقع.

إذاً ليس لدى من حدّد معايير الحرب العادلة ما يقدّمه للموضوع السوري أكثر من الاعتراف بأنّ الأمور لا تلخّص بمواقف اليسار المعتادة. فأهمية مداخلة والزر ليست في إجاباتها، بل في اعترافها بأن هناك درساً في فشل التعاطي مع الموضوع السوري. فقد باتت سورية خليطاً بين تجربة إسبانيا في الثلاثينات وتجربة رواندا في التسعينات، وهما من التجارب التي غيّرت الأمور في حظوظها وفشلها.

هذا الكلام ليس موجهاً للثوار السوريين، بل ليسار غربي انقسم بين موقف إنساني عاجز و»تشبيح» فعال، وهو يطالبه اليوم بإعادة التفكير في الشأن السوري.

لتساؤلات والزر الأميركية صدى عربي، حيث حالة الضياع والاعتـــراف بالفشل باتت واقعاً لا مهرب منه. فأصبح من المستحيل تجاهل أن الواقع السوري خرج عن ثنائية النظام والشعب وسهولتها، مهما حاول بعضهم إرجاع «داعش» وانتهاكات الثوار إلى النظام لإراحة ضميرهم. كما بات من الصعب تخيّل خاتمة للمأساة السورية، بعدما انتهى الحل العسكري، داخلياً أو دولياً، فيما غدا الحل التفاوضي مستحيلاً. ومن منظور والزر الأميركي، يبدو هذا الانسداد في الأفق فشلاً للمنظومة الدولية. أما عربياً، فالواقع الراهن واقع ثوار من دون ثورة وضحايا من دون جدوى، وهذا يفرض أسئلة مختلفة الطابع.

فعلى رغم انسداد الأفق السياسي، هناك صورة أخرى للثورة السورية، لا تدخل في إطار حسابات التدخّل الدولي وعدله أو الثورة السورية ونتائجها. هذه الصورة هي صورة أطنان من التضحيات الشخصية والعذابات والبطولات، القليل منها مؤرشف على الإنترنت وأكثرها بات لحظات بلا تاريخ. وهذا الخزان من المآسي الإنسانية يجعل ختام والزر، أي الاعتراف بالفشل والمطالبة بالنقاش، صعباً على من لم يوفّر مسافة من الأحداث، تخوله الاعتراف بأنّ ليس هناك ما يمكن المرء فعله من أجل الثورة السورية.

في كتاباته اللاحقة، تطرّق والزر إلى مسألة النقد السياسي وشروطه، رافضاً فكرة النقد من «لا-مكان» والذي يعاين الوضع بتجرّد العالم أو المنظّر الكوني، مفضلاً النقد الآتي من مكان المجتمع وزمانه، أو ما يسميه النقد «المتّصل» أو «المرتبط». فالاعتراف بفشل الثورة السورية وتحويلها إلى موضوع للبحث نابعان من نقد من «لا-مكان»، يستطيع القفز فوق علاقات الواقع وارتباط الناقد به ليعاينه بتجرّد. هذا ضروري، على رغم أنّه لم يوفّر لوالزر الوضوح أو الأجوبة عن المعضلة.

النقد المرتبط بالثورة لن يوفّر أيضاً وضوحاً أو سهولة، لكنه يضع المعضلة في مكان مختلف، يتواجه فيه الاعتراف بفشل الثورة مع استحالة الاعتراف بفشل ضحاياها. قد يكون موقف كهذا مجرّد استمرار للنزيف السوري بغية إرضاء بعض ما ترسّب عن نظريات خلاصية حول انتصار الضحية في آخر المطاف، أو عدم تقبل مسؤولية دعم سيرورة أدّت بالواقع إلى ما هو عليه. لا بد أنّ يكون الأمر هكذا. غير أنّ البديل، أي الاعتراف بأن الضحايا ذهبوا من دون جدوى والمهجرين من دون عودة، وكل التضحيات باتت بلا طعم، اعتراف أصعب. أزمة نقد كهذا أنّه ليس هناك ما يناقش بعد الاعتراف، مجرد صمت.

المناقشة التي يدعو إليها والزر خطوة شجاعة في ظل هذا اليسار الأميركي. لكن هناك مناقشة أصعب، عالقة بين قطبي الاعتراف بلا جدوى الماضي والعناد على حساب المستقبل، وكلاهما لن يوضح صورة الحاضر، ولن يجمّل ما سبق وما سيلي.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى