صفحات سوريةميشيل كيلو

ماذا يعني فشل مهمة أنان؟


ميشيل كيلو

بسبب حجم الصعوبات الهائل، الذي يقف في وجه مهمته ويهدد بتقويضها في أي وقت، يحتاج مبعوث مجلس الامن والجامعة العربية الخاص كوفي أنان إلى دعم منسجم ومتناسق: دولي واقليمي وعربي وسوري داخلي، لأن مهمته ستكون مرجحة الفشل، إذا ما تناقضت المواقف داخل كل طرف من هذه الأطراف أو في ما بينها، علما بأنها أطراف متناقضة ومتصارعة بما فيه الكفاية: في مصالحها وأهدافها ورؤاها، ولأنها تتبنى خيارات وطرقا متضاربة ومتعارضة للحلول أو اللاحلول، التي تقترحها لأزمة تبدو سورية داخلية، لكنها تحولت منذ استخدم النظام الحل الأمني في معالجتها، إلى معضلة عربية واقليمية ودولية مستعصية، ويزداد استعصاؤها من يوم ليوم ومن ساعة لساعة، فلا يكفي لحلها ما يمتلكه أنان وفريقه من مؤهلات رفيعة، وخبرات مشهود لها في حل النزاعات، وتصميم مؤكد على التصدي لها كمشكلة تلتقي عندها وفيها تناقضات وحسابات متشابكة قابلة للاصطدام بعضها ببعض في اي وقت، تستقطب اهتمام العالم وتثير مخاوفه في آن معا.

ولعل الصعوبة الاولى التي واجهها أنان كانت موقف النظام السوري من الحل السياسي الذي هو أساس وهدف، وهو حل كانت المعارضة الداخلية قد تقدمت به عند بداية الأزمة، ثم تبنته جامعة الدول العربية اساسا لمبادرة قامت بها، قبل أن يعتمده مجلس الأمن هدفا لإعلان رئاسي حول بنودها إلى مهمة كلف أنان بتطبيقها، في مسعى أخير يستهدف تفادي الحرب الأهلية في سوريا، كما قال هو نفسه قبل زيارته الأولى إلى سوريا بوصفه مندوب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، وأمين عام الجامعة العربية الدكتور نبيل العربي. في هذه الزيارة، ابلغ الرئيس بشار الأسد أنان رفضه التجاوب مع مهمته، عندما أخبره أن بندها الأول الذي ينص على وقف إطلاق النار لن يكون ممكن التحقيق قبل القضاء على «العصابات المسلحة» الناشطة في البلاد. بما أن الباب السوري أغلق بهذه الطريقة، ولأن إغلاقه يضع العالم أمام معضلة كبرى تتصل بالبديل الذي يجب عليه اعتماده كي ينفذ قراره في سوريا، ولأن هذا البديل ليس سهل الإيجاد أو متفقا عليه بعد، بسبب الصراع المحتدم دوليا حيال الشأن السوري، بادر أنان إلى فتح الباب الدولي على الأزمة، عندما توصل بسرعة نسبية إلى برنامج حد أدنى وافقت دول مجلس الأمن جميعها عليه، أخذ صورة إعلان رئاسي مشترك يعني إقراره نوعا من وضع سوريا تحت إشراف دولي محدود، يتجسد في وجود مراقبين أممين لوقف إطلاق النار، تم تعريف مهامهم ووضع آلية محددة لعلاقة المجلس معهم، على أن يفدوا تباعا إلى سوريا، ويتوزعوا على المناطق الملتهبة، ويشرفوا على سحب الأسلحة الثقيلة منها وإعادتها إلى ثكناتها، قبل الانتقال إلى تطبيق بقية بنود الاعلان: من إطلاق سراح المعتقلين، إلى السماح بحرية التظاهر السلمي، إلى دخول وسائل الإعلام الحر إلى سوريا، وصولا إلى تنظيم مفاوضات بين النظام وجميع أطراف المعارضة لاقامة نظام جديد تم تعريفه بدقة هو: نظام انتقال إلى الديموقراطية.

… واليوم، ومهمة كوفي أنان تتعرض لتحديات محلية وإقليمية وعربية ودولية متعاظمة، تجعل نجاحها مستبعدا رغم ما يبديه الرجل وفريقه من حرص عليها ومهارة في متابعتها ورغبة في الإبقاء على وظيفتها، ورغم أهميتها كمهمة تستهدف إنقاذ سوريا من حرب أهلية ستكون مريرة وطاحنة بصورة مرعبة إلى أبعد حد، فإن فشلها في ظل استمرار الحل العسكري السوري وتصاعد المقاومة المسلحة ضده، يعني أمرين:

– أن نهج الحل السلمي للازمة السورية قد انتهى إلى فشل تام، وأنه لم يعد له أي حامل داخلي أو إقليمي أو عربي او دولي ذي شأن، وأن نهايته تطرح على العالم أحد خيارين: الانسحاب من الصراع الدائر في سوريا وترك النظام يحسم الأمور بما يطيب له ارتكابه من مذابح، مع ما يعنيه هذا التحول الخطير في التعاطي مع المشكلة السورية من عجز يفضح تدني قدرات النظام الدولي وهشاشة مؤسساته وقواه، التي ستكون قد تدخلت جميعها بالتتابع في الأزمة، لكنها أخفقت في إجبار نظام ضعيف وفقير نسبيا على الامتثال لأية شرعية إقليمية أو دولية، وفي إلزامه باحترام حقوق الإنسان والعهود والمواثيق الدولية الناظمة لعلاقات الدول مع مواطنيها. يعني فشل أنان نهاية نمط كامل من التعامل السياسي / السلمي مع الأزمة السورية، اعتمده العالم في التعاطي معها منذ بدايتها، قام على منح النظام الفرصة تلو الفرصة للتوصل إلى حل داخلي متوافق عليه لها، لكنه تعنت ورفض مثل هذا الحل، وأصر على العنف وسيلة وحيدة للتصدي لمطالب وصفها رئيسه ذات يوم بـ«المحقة والمشروعة».

بنهاية النهج السياسي السلمي، سيجد العالم نفسه في مواجهة مأزق دولي خطير ستغذيه دون شك خلافات دوله الكبرى وتحديات النظم الإقليمية المتصارعة، إلى جانب سياسات النظام الأمنية، التي قامت منذ بداياتها على استدراج الخارج إلى الانخراط المباشر في الصراع أو الانسحاب التام منه. فماذا يمكن للعالم أن يفعل أمام هذه المعضلة غير مواصلة الفرجة على ما يجري من مذابح واقتتال يصير متبادلا بصورة متعاظمة ويتحول تدريجيا إلى حرب أهلية ضارية، علما بأن الفرجة ليست في مثل هذه الاوضاع حلا دائما أو مقبولا أو قابلا للعيش، أو أن يتدخل بصورة مباشرة في الأحداث، مع إدراك أن تدخله لن يكون في ظل التطور الجديد غير عسكري ومباشر وعنيف، بما أن استعادة النهج السياسي / السلمي لن تكون ممكنة إلا إذا كان هذا سيتجاوب هذه المرة مع مطالب النظام وطريقته العنيفة في حل الأزمة، وسيقطع مع نمط النهج الآخر، الذي اعتمدته المعارضة والمبادرة العربية وأقره إعلان مجلس الأمن الرئاسي، وهو تفاوضي / حواري. هل سيقبل العالم نمط الحل الرسمي باعتباره الحل السياسي الجديد؟. أعتقد أن هذا سيكون مستبعدا، وأنه سيخلي الساح لنهج آخر، غير سلمي وعسكري وعنيف ومباشر، مع ما سيعنيه في حال بادر إليه أحد الأطراف الدولية بمفرده من صراع خارجي وداخلي ستنحاز فيه القوى المتصارعة إلى هذه الجهة أو تلك من جهتي الداخل السوري، وما قد يسببه من إنتشار محتمل للنزاع إلى بلدان الإقليم والمنطقة الأخرى، التي لا يقصر النظام اليوم في استفزازها، لاعتقاده أنها لن تستطيع الانخراط لفترة طويلة في صراع تجهل نتائجه، ضد حلفاء نظام دمشق الإقليميين، وأنها تخشى ما قد ينجم عنه من عنف لا يستبعد أن يمتد إلى داخل أراضيها، حيث يمكن أن يستمر لفترة غير قصيرة.

تنبع خطورة التحول الى ضرورة بلورة رد غير سلمي من واقعتين:

– أن جهات دولية مهمة ومقررة بدأت تتحدث عن فشل مهمة أنان، وانها تجد نفسها في مواجهة سؤال البديل، الذي لن يكون بالتاكيد سلميا أو تفاوضيا / حواريا، وسيفتح تطبيقه أبواب جهنم على بلادنا التي استنزفها وأرهقها حل السلطة الأمني، وأوصلتها سياساته إلى حافة الانهيار، بالنتائج المأساوية التي ترتبت عليها داخليا بالدرجة الأولى، ثم عربيا ودوليا.

– أن جهات سياسية سورية منظمة بدأت حملة شعواء على أنان ومهمته وعلى الجامعة العربية ومبادراتها، وطالبت الأمين العام للأمم المتحدة بإنهاء المهمة التي كلف مجلس الأمن عنان بها، تارة بحجة ان عدد المراقبين يثير شبهة التواطؤ مع النظام، واخرى بذريعة أن شيئا لم يتحقق فعليا على الأرض مما انتدب المبعوث الأممي / العربي نفسه ومعاونيه لتحقيقه .

لا أريد شخصيا أن تفشل مهمة أنان. أريد بالأحرى أن يكثف جهوده ويسرعها كي يقيم حضورا دائما للمراقبين المدنيين والعسكريين في مناطق سورية واسعة، ويفرض رقابة فعالة على أية جهات تطلق النار، ويحصل على دعم سياسي ودعم دولي قاطع ويتخطى ما لديه اليوم، يمكنه من تنفيذ بنود مهمته باعتبارها سلة واحدة وليست بنودا متفرقة لا صلة بينها، يعني تنفيذ بعضها إرجاء تطبيق بعضها الآخر أو التخلي عنه .

بلغت الأزمة السورية نقطة فاصلة من تطورها، سيكون إعلان فشل كوفي أنان في إيجاد حل لها نذير شؤوم بالنسبة إلى جميع أطرافها، لان ما بعد اعلان الفشل لن يبقى الوضع مثلما كان عليه أو قبله، بينما سيحتم التخلي عن النهج السياسي في حل الأزمة إلى إدخالها في طريق عسكرية محفوفة بمخاطر يصعب اليوم رؤية نتائجها، وإن كان من المؤكد أنها لن تشبه أي شيء سبق لأية أزمة في المنطقة أن مرت به، بما في ذلك أزمة العراق، التي لم تشارك في جانبها العسكري قوى أوروبية غربية مهمة ولم تشارك بها روسيا أيضاً، في حين يرجح أن تنخرط جميع الأطراف العربية والإقليمية والدولية في الصراع المقبل، ما أن يتحول الى تدخل عسكري خارجي يشارك فيه القريب والبعيد من المهتمين بالمنطقة ومصيرها والمتصارعين عليها، نظرا لأهمية الرهانات الاستراتيجية التي ترتبط بسوريا، دولة وموقعا ورمزية ودورا قائما ومحتملا، من الرهان على احتواء الربيع العربي وكبح طابعه المجتمعي / التغييري، إلى الرهان على القضاء على المحور السوري / الإيراني، إلى الرهان على تقويض دولة سوريا ومجتمعها وتهديد وحدتهما، واخيرا، إلى الرهان على جعل إسرائيل سيدة المشرق لأجيال كثيرة قادمة، وجعل الخليج ونفطه آمنين وخارج متناول اي تحد حقيقي .

هل يفكر من يعملون لافشال مهمة كوفي أنان الانقاذية بهذه النتائج المخيفة، وهل يدركون أن لا بديل لها غير حرب أهلية ستنتهي بتدخل خارجي لا مهرب منه، وهل هم غافلون عن ذلك أم يعملون له بوعي وتدبير؟

تقف سوريا اليوم أمام أسابيع حاسمة ستقرر مصيرها السياسي لعقود طويلة قادمة. ونجد انفسنا في مواجهة لحظة انعطاف يقف وطننا وشعبنا أمامها، تملي علينا أعلى قدر من الشعور بالمسؤولية، وأرفع درجة من التفكير العقلاني، وتلزمنا باعطاء النهج السلمي ما يحتاج إليه من فرص، وبمنحه أعظم التأييد، وبمساعدته على النجاح، لأن لنا مصلحة حياتية في نجاحه، وإلا فشل وفقدنا السيطرة على قضيتنا وانهار كل شيء !

كاتب سوري وناشط سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى