صفحات العالم

ماذا يفعل الاستبداد من دون ذريعة القضية الفلسطينية؟!/ سمير الزبن

 

 

طوال عقود الصراع العربي ـ الإسرائيلي، شكلت القضية الفلسطينية تحدّياً رئيسياً أمام العالم العربي مجتمعاً، وأمام كل دولة على حدة. وبحكم مركزيته دخل هذا الصراع في المكونات الداخلية للدولة القطرية العربية، وتم توظيفه في إطار الصراع الداخلي على السلطة، سواء كانت هذه الدولة قريبة من إسرائيل أو بعيدة عنها. وعلى مدى هذه العقود بسبب الانشغال الدائم للسياسة العربية بالقضية الفلسطينية، لم يعد من الممكن تصوّر العالم العربي من دون قضية فلسطينية، فهي القضية التي تم التغطية من خلالها، لا على السياسات الداخلية الملتوية فحسب، بل تم من خلالها التغطية على جرائم داخل الدول القطرية أيضاً، وكانت الذريعة لسلطات الاستبداد العربية في سحق السياسة داخل مجتمعاتها، واسكات كل تنوع سياسي داخلها، وكل مرة تحت شعار مركزية الصراع مع إسرائيل.

لم تكن هذه النظرة، نظرة السلطات الرسمية العربية إلى القضية الفلسطينية فحسب، بل شملت هذه النظرة كذلك المعارضات العربية، والكثير من المثقفين العرب، فالجميع انشغل بالصراع المركزي، الذي اعتبر «صراعاً وجودياً» بين العرب وإسرائيل. وإن على كل قوة سياسية عربية أن تحدّد موقفها بوضوح من القضية الفلسطينية، وأن تكون فاعلاً مباشراً في هذا الصراع، وبالتالي هي جزء مكوّن من القوى المصطفة (نظرياً) في الصراع مع إسرائيل، مصطفة في الصراعات الداخلية القطرية (عملياً). مما يعطيها الحق أن تأخذ ما شاءت من المواقف، وأن تتدخل في الشؤون الفلسطينية، بشكل لا يمكن أن تتدخل فيه في دولة عربية أخرى، على قاعدة أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. وفي السنوات الأخيرة لم تعد القضية الفلسطينية، قضية العرب، وحدهم، بل باتت قضية العالم الإسلامي بوصف فلسطين «وقف إسلامي» على حد تعبير القوى الإسلامية الفلسطينية، وغيرها.

في إطار هذه النظرة الاستخدامية للصراع العربي ـ الإسرائيلي من قِبل السلطات الاستبدادية العربية أو المعارضات أو المثقفين أصحاب الأصوات العالية، يُعطى الفلسطينيون دوراً بوصفهم طليعة الصراع مع إسرائيل، والمتراس الأول الذي يجب أن يظل قائماً أبد الدهر، لأن الصراع صراع لا نهائي، والفلسطينيون وقوده، لذلك فإن سلطات الاستبداد العربي مستعدة لمقارعة اسرائيل حتى آخر فلسطيني، أما آلة قمعها من جيش وشرطة، فوظيفتها داخلية، قمع شعوبها، وليس المساهمة في التصدي لإسرائيل. وبحكم المكانة الكبيرة للصراع، ليس هناك مبرر لحله، فأي حل سيكون في مصلحة إسرائيل لأن ميزان القوى مختل لصالحها، وهو ما سيعكس نفسه على أي حل، مما يعطي إسرائيل مكاسب جديدة، ويدفع باتجاه تنازلات فلسطينية عن «حقوق تاريخية لا يحق لأحد التنازل عنها»، وبذلك تصبح الدولة الفلسطينية هي تسوية لمصلحة إسرائيل كيفما تم النظر إليها.

هذه نظرة لصراع مطلق لا يمكن أن ينتهي إلا بزوال أحد الطرفين، وهذه النظرة ليست نظرة سياسية، فالسياسة هي التي تتعامل مع الواقع، لا التي تضع مطلقات يجب الوصول إليها. والنظرة الواقعية للدولة الفلسطينية، تنطلق أساساً وبحكم المعطيات القائمة، من أنها دولة تُولد – هذا إذا وُلِدَت – في سياق صراع، وهناك صعوبات كأداء أمامها، فهي لا تولد في سياق تحرير يفرض على احتلال، تولد على أثره دولة كاملة السيادة نتيجة انتصار تاريخي، ومن مفارقات الدولة الفلسطينية، أنها تأتي – إذا أتت – في سياق هزيمة عربية وفلسطينية، ولكن هذا لا يقلل من أهميتها بوصفها «ستكرّس التراجع في آلية توسع المشروع الصهيوني«، الذي لم يعد قادراً على التوسع لأسباب ذاتية. وتؤكد رغم الهزيمة التي أصابت الفلسطينيين والعرب «بأن الشعب الفلسطيني نجا من الإلغاء«. فجوهر المشروع الصهيوني يقوم على نفي وإنكار وجود الشعب الفلسطيني، وفي سياق التسوية القائمة تم الاعتراف جزئياً بالشعب الفلسطيني.

إن إقامة هذه الدولة سيُرسّم خروج الصراع العربي الإسرائيلي خارج النطاق الميداني، وستطرح بالتدريج أسئلة وإشكاليات جديدة تواجه بشكل خاص السلطات الاستبدادية العربية، ومن ثم التيارات السياسية التي تغطت طويلاً بالقضية الفلسطينية، ولكنها أيضاً ستضع إسرائيل أمام أسئلة وإشكاليات جديدة، وستختبر مدى قدرة هذا المجتمع على تصفية مكوناته العدوانية، فالمشكلة الفلسطينية ليست سؤالاً عربياً فحسب، بل هي أيضاً معضلة داخلية إسرائيلية. ورغم كل التعقيدات التي تحيط بالعملية على المستوى العملي، وعدم قدرة إسرائيل على الحسم في هذا الشأن، فإنها على المستوى النظري على الأقل قابلة للتحقيق. ولا شك في أن قيام الدولة الفلسطينية التي سيكون ميلادها عسيراً، له الكثير من الإيجابيات، ولكن أيضاً له سلبية سيكون لها آثار مدمّرة على ايديولوجيات وتكوينات فكرية وتكوين نفسي استوطنت العالم العربي، ربّى نفسه خلال عقود على ديمومة القضية الفلسطينية، وبعد حل هذه المشكلة، إذا أمكن تحقيقه، سنجد أنفسنا أمام فراغ، لا يعرف بعضهم كيف يملؤه، فقد كانت القضية الفلسطينية نوعاً من حل، للكثير من المشكلات العربية، وكانت حلاً نموذجياً للاستبداد العربي، في تكريس سلطات الطغيان، واحتجاز المجتمعات العربية، واحتجاز مستقبلها، لذلك كانت شعارات القضية الفلسطينية الكاذبة، الكنز الذي وجده الاستبداد العربي في تبرير كل سياساته الوحشية القمعية والدموية في مواجهة شعبه، ولا نزال نشاهده اليوم في تبرير تدمير وتشريد وقتل السوريين بذريعة الصراع مع اسرائيل. ماذا يفعل الاستبداد العربي اذا فقد القضية الفلسطينية هذه الذريعة التي دفعت ثمنها الشعوب العربية، ولم تؤذ اسرائيل على الاطلاق؟!

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى