ماذا يفعل الوقت بالثورة السورية؟ يضعفها أم يعزّزها؟
دلال البزري
روتْ صديقتي السورية عفاف القصة التالية: “يوم الجمعة هو يوم التفجير “الارهابي” الاسبوعي في حيّ الميدان الدمشقي… لذلك، تحولت ساحته الى مربعات أمنية كثيفة، حواجز مسلحة كل مترين، رجال أمن ومخابرات مدجّجين بالسلاح. طبعاً في الميدان يقع مسجد، ولا أحد في دمشق يصدق مسألة “الارهاب” هذه؛ والجميع يعتقد بأن هذه التفجيرات مقصودة، ولها أهداف…
“في هذا اليوم بالذات، الجمعة الماضي، قرر عمي شفيق، الساكن في الميدان، أن يأخذ زوجته وأولاده الثلاثة للعداء في أحد المطاعم الشهير بكبابه المشوي. وذلك بعدما ألحّوا عليه كثيراً، فهم زهقوا وضاقوا ذرعاً بقعدة البيت هذه التي لا تنتهي. ركب إذن عمي وعائلته السيارة وساروا بضعة امتار متجهين نحو المطعم. لم يصلوا الى ربع مشوارهم حتى أوقفهم حاجز أمني، صوَّب أفراده سلاحهم نحوهم جميعا، وهم يكرّرون على عمي بهستيريا:
“وين رايح؟ وين…؟! وكل العائلة معك؟!”.
” عمي الذي ألِف، وبسرعة يُحسد عليها، التوتر الأمني في العاصمة، ردّ عليهم بهدوء انه آخذ العائلة الى مطعم “كذا” في الساحة، فهم اشتاقوا الى الطعام اللذيذ، والى الفسحة…. الخ. كان يستفيض بالشرح، كأنه يصرّ على إلفته هذه، على تكيّفه المجنون… رجال الأمن الذين على الحاجز أذهلهم رواقه، ربما استفزهم، وبالتأكيد حرّك شيئا في عقلهم. إذ بادر أحدهم وصرخ في وجهه:
“شو ما بتسمع الاخبار؟! ما بتعرف شو عم بيصير..؟!”.
“ردّ عمي بمزيد من الهدوء انه لا، لا يعرف… لم يسمع. طبعا كان يعرف، ولكنه في هذه اللحظة كان من مصلحته، هو وعائلته، أن يبدو ساذجاً، أبلهاً، أن لا يتورّط معهم… فما كان من الجندي نفسه إلا ان صرخ في وجهه:
“شو الظاهر ما تحضر إلا تلفزيون “الدنيا؟”،
“وهي القناة الأسدية، التي تروّج ليلاً نهاراً بأن شيئا لا يحصل في سوريا، وان “كلو تمام، كلو تحت السيطرة ضد السلفيين الارهابيين”. ثم تابع الجندي بلهجة غاضبة وصوت عال:
“قناة “الدنيا” هيدي… نسيها! لغيها من راسك! حفاظا على سلامتك وسلامة عائلتك، ما تحضر إلا قناة “الجزيرة”، لا قناة “الدنيا”. منها بتعرف الأخبار الصحيحة، وبتعرف شو عم بيصير بالشام!”.
هذه قصة من بين عشرات القصص روتها لي عفاف اثناء زيارتها القصيرة الى بيروت. استوقفتني هي بالذات. ربما لأنها تجسيد حيّ لما يمكن للوقت ان يفعله بالسوريين في ثورتهم الفريدة هذه: “تمرير الوقت”، “الوقت ليس لصالح أحد”، “إعطاء الوقت للقتل أو التفاوض”، “تأخر الوقت”… الوقت حاضر كما لم يحضر من قبل. ليس علينا سوف تتبع أثر مروره على الثورة، كل هذه الايام، كل هذه الشهور: ماذا فعل بالناس؟ وبثورتهم؟
قصة العم شفيق تعطيك مؤشرات، ولو ضئيلة: أولها ان العنف والتوتر والموت والعذاب والتشريد، الآتي كله مع الثورة، صار عند بعض المواطنين من الامور النافلة، شبه الطبيعية، التي لا يتوجب على الحياة ان تتوقف بسببها. المؤشر الثاني هو انه حصل أمر ما في عقل النفر الواقف على الحاجز، والذي يفترض ان النظام حشى عقله بكل الأكاذيب الممكنة، ها هو يرشد مواطن الى قناة “عدوّة” و”متآمرة” على النظام الذي يقتل الناس من أجله، ورفاقه الجنود يسمعونه، وكأن ما يقوله عادي، طبيعي.
بالأمثلة الصغيرة، اليومية، العادية، يمكننا الخلوص الى ان للوقت أوجهاً متعددة، سلبية وايجابية. لائحة هذه الأمثلة المصغرة مفتوحة على مزيد من الوقت، على صفحات من الروايات صاحبة مؤشرات أخرى إضافية، لا نحتاج إلا للوقت، اذا رغبنا بالتقاطها وفرز معانيها.
الآن لنأخذ الموضوع بالمكبّر، فماذا نرى؟ ماذا اعطانا امتداد وقت هذه الثورة؟ الموت والدمار… كما نعلم. نقول الأسد أخذ مزيداًً من والقت يعتقد بأنه يحتاجه، مثلما يحتاج الى الذخيرة، ليقضي على جسد الثورة وروحها. في هذا الوقت نفسه، تزداد وتيرة الموت والدمار، فتتصاعد معها الطائفية والأسْلمة والعسْكرة؛ تلك الخطوط الحمر التي دعت الثورة الى عدم تجاوزها في بدايتها. مع وقت آخر، يستفحل الموت، وقد يبلغ عدد الشهداء المليون، كما في ثورة الجزائر ضد فرنسا الكولونيالية، أو الثلاثة ملايين، كما في ثورة الفيتكونغ ضد أميركا الامبريالية. والمعلوم ان الثورات التي قدمت تضحيات خارقة، تليها عادة كوابيس من العنف والقمع والاستبداد. الجزائر وفيتنام ما بعد ثورتهما المجيدة، وقعتا في نقيض ما أحيتاه من آمال.
وللوقت مفعول آخر أيضا: انه يشجع الباحثين عن أدوار على المتاجرة بقضية الثورة المحقة. تماماً مثلما حصل مع قضية فلسطين: دامت عقودا، وشجعت عدالتها المزمنة راكبي الأحصنة الرابحة على التلاعب برصيدها حتى الثمالة. هذا هو الحاصل الآن بالنسبة الى ما صار قريباً من ان يسمّى “القضية السورية”، قضية الديموقراطية وإسقاط الاستبداد، بعد قضية فلسطين العادلة. طبعا يمكن لأهل سوريا أو فلسطين ان يعيشوا أبأس ما في هذه الدنيا من حياة. ولكن قضيتهم هي في أحلى حالات الغواية للباحثين عن الادوار الفاتنة. أنظر الى عدد الشخصيات السورية وحدها التي امتطت قضية الشعب السوري، من أمثال عبد الحليم خدام ورفعت الأسد، ومؤخرا أيضا نوفل الدواليبي. أنظر أيضاً الى الذين يناصبون العداء لثورة الشعب السوري، باتوا يرفعون قضية فلسطين بوجهها، يهربون اليها، يلجأون اليها، يتذرعون بها، ليحتموا من تهمة العداء لحريات الشعوب. آخر المآثر، حملة النائب البريطاني جورج غلاوي، الذي ينظم حملة فك الحصار عن غزة، انطلاقا من ميناء اللاذقية، حيث قصف النظام السوري اللاجئين الفلسطينيين عقابا على مشاركتهم في تظاهرات الاحتجاج ضده: قضية فلسطين، العادلة، بوجه قضية سوريا، العادلة ايضا. عسى ان لا تدوم القضية الأخيرة قدر دوام الأولى…
ولكن للوقت أيضا وجه آخر: الوقت حرر، وهو في طريقه الى تحرير المزيد من السوريين، في عقلهم. الوقت أعطى للنظام مجالا للقتل، ولكنه في الآن عينه اعطى للمواطن السوري الفرص العديدة لملاحظة إمعانه في القتل؛ فامتدّت الثورة الى أبعد القرى عن المركز. امتدّ القتل، فتمدّدت الثورة. بدأت طرفية هامشية ريفية، ثم زحفت شيئا فشيئا نحو المركز؛ في بعض اللحظات من اشتداد هذه الديناميكية الطرفية، بالتشييع والتضامن والعدوى الثورية… بدت الهوية السورية كأن الوقت يحرثها من أطرافها وحتى مراكز قلبها.
الوقت يستنزف طاقة السوريين على التحمّل والاستمرار، ولكنه يسمح لهم، أو ربما يرغمهم على اختراع طُرق وسُبل وأطر لم يعهدوها أيام الاستبداد؛ يرغمهم على المبادرة احيانا تحت وطأة موت أو حياة. يطلق العنان لمخيلتهم، لسخريتهم، لمواهبهم المدفونة، لمهاراتهم ومعرفتهم. الوقت يصدّرهم الى العالم، يحول وجوههم وأسماء بلداتهم وقراهم وشعاراتهم الاسبوعية… الى شيء مألوف. من متابعة الشعارات وحدها، تفهم كم يتطور حسهم السياسي مع الوقت، كيف يتابعون ماذا يحصل في بلدهم وفي العالم اجمع؛ فقط لأن العالم كله يلعب الآن في ساحتهم.
مع الوقت بالتالي، تشك الثورة بنفسها، تلاحظ عيوبها، تنقد نفسها، تتشذّب، تعرّي أساطيرها، تطور رؤيتها، أو تعدلها، أو تغذيها بالتجربة المباشرة، تبلور أجندتها، تبتكر أطرا جديدة، تتمرن، تتعلم بعدما قتل النظام شبابها الأول، بعدما دمر أطرها الاولى، تلك التي اشعلت الثورة… مع الوقت ايضاً، يطلع الشعب السوري، كأنه قادم من أعماق بركان نام عقودا من الدهر، راكم خلالها خبرة دقيقة في أقنعة الاستبداد وأحابيله وأفخاخه. من بعده، صار يمكنك القول، “السوريون قبل الثورة والسوريون من بعدها”. الوقت الذي امدّت به هذه الثورة غيّرهم، صاروا شعبا آخر، يستحق بجدارة حياة أخرى. وذلك ليس بفضل أحد آخر غير الذين يشكلون وقود هذا الوقت، أي أعمار السوريين وخراب بيوتهم وانسداد سُبل عيشهم.
المستقبل