صفحات الثقافة

ماركيز.. ساحر أميركا اللاتينية/ حسن داوود

 مايزال غابرييل غارسيا ماركيز قابعاً في المستشفى بمكسيكو سيتي بعد أن كان نقل إليه يوم الخميس الفائت. لم يُدخَل أبداً إلى غرفة العناية الفائقة، قال أحد المقرّبين إليه، لكن مع ذلك أجرت الصحف، في العالم كلّه كما يبدو، تغطية للحدث، متهيّئة لتحضير ملفّات كانت قد أعدّتها عنه. من الصحف هذه ما ذكرت أنّ كتابه “مئة عام من العزلة” كان أكثر الكتب، باللغة الإسبانية، انتشاراً بعد الكتاب المقدّس. منها ما ذكرت أنّ ماركيز أهم كاتب في اللغة الإسبانية بعد سرفانتس صاحب “دون كيشوته” الذي يعدّه النقاد المؤرّخون العمل الروائي الأول، المؤسّس لفن الرواية. أما في ما يتعدّى مكانة ماركيز في البلدان الناطقة بالإسبانية فقد ترجمت “مئة عام من العزلة” إلى لغات العالم الكثيرة وقد ذكر أنّه قد بيع منها ما يقرب من خمسين مليون نسخة.

 قبل روايته هذه، التي صدرت في العام 1967، كان قد كتب قصصاً وتحقيقات صحافية وأعمالاً روائية بينها “عاصفة الأوراق” التي، بحسب قوله في أحد الحوارات، لم تحقّق شهرة بين القرّاء، وكذلك كان حال كتاباته الأخرى، إلى حين صدور “مئة عام من العزلة”. كانت هذه الرواية قاطرة لأعماله السابقة واللاحقة، فقد لقيت النجاح المدوّي من فور صدورها، بل إنّ شهرتها بلغت الأوساط الأدبية في العالم قبل وصولها إليها. ألوف، بل ربما عشرات ألوف المقالات كُتبت ممجّدة مخيّلة كاتبها المبدعة، الجامعة للخيال الأدبي بالحاضر السياسي لبلدان أميركا اللاتينية كلّها، وليس لبلده كولومبيا وحده. في سنة 1982 أشارت لجنة “نوبل” إلى ذلك عند منحه جائزتها قائلة إنّ “الخيالي والواقعي متّحدان معاً في عالم مخيّلته الثري، العاكس لحياة قارّة ونزاعاتها”.

 وكان من أهمية الرواية أن طبعت حقبة كاملة من الكتابة الروائية، وغير الروائية، بطابعها. ما أُطلق عليه “الواقعية السحرية” نقلته الرواية من مقرّه في أدب أميركا اللاتينية إلى العالم، وخصوصاً منه العالم الثالث. هنا، في أدبنا العربي، أخذت “مئة عام من العزلة” الرواية العربية إليها، فكانت رواية السبعينات والثمانينات العربية، بل وحتى مطالع التسعينات، شديدة التأثّر بها، إلى حدّ أنّه بدا من الصعب أن تعود المخيّلات العربية من بعدها إلى سابق عهدها، بحسب ما كتب روائي لبناني ساخراً في إحدى الدوريات الأدبية.

 وقد أفاض ماركيز في تفسير المصادر التي كوّنت واقعيّته السحرية. قال في أحد الحوارات أنّ ما دفعه إلى أن يروي بحسبها هو سماعه لجدّته مرّة تروي وقائع خرافية لكن كلّ شيء كان صحيحاً واقعياً مع ذلك، ولم تتغيّر سحنتها فيما كانت تروي بل ظلّ وجهها محتفظاً بتعبيراته ذاتها. أحد الأمثلة التي يذكرها عن ذلك هو قولها ذات مرّة إنّ الدهّان الذي جاء للعمل في المنزل لن يغادره إلا بعد أن يملأ البيت بالفراشات. في “مئة عام من العزلة” استخدم ماركيز مشهد الفراشات مالئة البيت في ماكوندو، وهي فراشات صفراء بحسب ما علّق بنفسه قائلاً إنّه أدخل اللون من أجل أن يكون ذلك حقيقياً وروائياً في الوقت نفسه.

 كثيرة هي النصائح التي ظلّ ماركيز يوجّهها لكتّاب الروايات، كما للصحافيين أيضاً كونه عمل في الصحافة لمدّة ناهزت الثلاثين سنة ولم يغادرها إلا بعد أن بات مردوده من الروايات كافياً لعيشه. وفي المقابلات التي كانت تُجرى معه كان يدخل في تفاصيل أعماله، مبتعداً عن السياسة التي، في حياته الشخصية الصحافية والشخصية، وكذلك في المنحى الذي تذهب إليه رواياته، لم يكن بعيداً أبداً عنها. من ذلك صداقته المستمرة مع فيديل كاسترو وكذلك مع رؤساء وزعماء في أميركا اللاتينية. وفي مذكّراته التي صدرت من أعوام قليلة، وقد ترجمت إلى اللغة العربية في جزأين، جمع تفاصيل كتابته مدمجاً إيّاها بقصّ ما يتصل بحياته الشخصية، كأن يكتب مثلاً إنّ كتابته لـ”مئة عام من العزلة” خطرت له بعد أن ذهب مرّة مع أمه، وكان في الثانية والعشرين، إلى بلدة طفولته أركاتا، والتي كان قد غادرها وهو في عمر الثماني سنوات (وهذا على غرار إرجاعه محطّات فاصلة من حياته وكتابته إلى حوادث مفردة جرت له. من ذلك مثلاً قوله إنّه أخذ واقعيّته السحرية عن جدّته وقوله مثلاً إنّه أدرك أنّه وُلد ليكون كاتباً من لحظة ما قرأ الجملة الأولى من كتاب المَسخ لكافكا). قال في وقت لاحق إنّه لم يكن محتاجاً إلى التأليف لكي يكتب، إذ كانت الأشياء مرئية هناك في أركاتاكا (التي أبدل إسمها بماكندو في الرواية) كما لو أنها متهيّئة لأن تنتقل بنفسها إلى الورق. وهو لم يتوقّف عن إسداء النصح للكتاب بقوله إنّ عليهم أن يكتبوا ما عاشوه، ذاكراً كيف أنّه لم يخترع شيئاً من التخيّل وحده.

كتابه “خريف البطريرك”، الذي ترجم إلى العربية مباشرة بعد صدور ترجمة “مئة عام من العزلة” لم يلق الاهتمام ذاته، لا هنا ولا في بلدان العالم. بصوره الخيالية المفرطة كان قد أحدث ما يشبه أن يكون تحدّياً للمخيّلات الأدبية التي سبقت، لكنّ أثر الكتاب لم يدم طويلاً، إذ بدا معه أن الرواية تحتاج إلى أن تروى متسلسلة مترابطة الوقائع. لكن كتبه الأخرى، وكلّها فيما أحسب نُقلت إلى العربية وبينها “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” و”الحب في زمن الكوليرا” و”وقائع موت معلن” و”ذاكرة عاهراتي الحزينات” إلخ.. لاقت إقبالاً وإعجاباً يكاد يقارب ما حقّقته “مئة عام من العزلة”.

 ما زال ماركيز حاضراً بقوّة في المشهد الروائي في العالم. لم تتوقّف المطابع عن نشر كتبه على رغم ذهاب كتّاب أميركا اللاتينية الجدد، ومنذ سنوات، إلى الاحتجاج على ما رأوا فيه الحضور الثقيل الطاغي للأدب السحري الذي، مع دوام النسج على منواله، يتحوّل إلى أن يكون هويّة أدبية واجتماعية لأبناء القارّة، راغبين في الانصراف إلى ما هو أكثر إقناعاً والتصاقاً بالواقع. لا أعرف إن كان هذا الاحتجاج قد تعدّى الآن الرفض الأوّلي أم أنّ أعمالاً قد أنتجت بحسبه، مقاربة ما حقّقه تيار الواقعية السحرية الجارف.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى