صفحات الرأي

ماركيز “وسعيد” ومسألة المركزيّة الأوروبيّة/ حازم صاغية

 

مع رحيل أديب كولومبيا وأمريكا اللاتينيّة الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، يطيب للمتأمّل أن يقيم نوعاً من التوازي بين البروز العالميّ الذي أحرزه، والذي بدأ مع صدور كتابه الشهير “مئة عام من العزلة”، في أواخر الستينات، والبروز المشابه للمثقّف الأمريكيّ، الفلسطينيّ الأصل، إدوارد سعيد، مع صدور كتابه “الاستشراق”، في أواخر السبعينات.

فالقاسم المشترك بين الاثنين، على اختلاف حقليهما، إنّما يتجسّد في مناهضتهما، كلّ بطريقته، المركزيّة الأوروبيّة في التأويل كما في الإبداع. فلئن رأى سعيد، مستخدماً معادلة ميشيل فوكو في السلطة والمعرفة، أنّ في تلك المركزيّة سلطة وطريقة في النظر تزيّفان الشرق، بل تخترعانه من عدم، فقد قدّم ماركيز واقعيّة “سحريّة” تناظر الواقعيّة الواقعيّة للرواية الأوروبيّة.

ذاك أنّ أسماء أونوري دو بلزاك وفيودور دوستويفسكي وليون تولستوي وغوستاف فلوبير وإيفان تورغينيف وتيودور فونتين وغي دو موباسّان وأنطون تشيخوف وإميل زولا، وغيرهم من كتّاب روس وفرنسيّين وألمان صنعوا الرواية الأوروبيّة، كانوا المؤسّسين لذاك التقليد الأوروبيّ الذي يرادف بين الفنّ الروائيّ والواقعيّة.

لكنّ ما فعله غارسيا ماركيز ببعثه السحر المحلّيّ، بخرافاته وطقوسه، هو ما دفعه إدوارد سعيد عن “الشرق” وردّه إلى أفعال المستشرقين وتهويماتهم المفترضة. وهذا مع ملاحظة أنّ الاثنين اختلفا في موضعة السحر والحكم القيميّ عليه: فإذ رفعه الأديب الأمريكيّ اللاتينيّ سلاحاً في وجه “الغرب”، فقد زعم الناقد الأمريكيّ – الفلسطينيّ أنّه كان سلاح “الغرب” في وجهنا.

على أيّة حال، فحقبة أواخر الستينات – أواخر السبعينات، التي توّجتها الثورة الخمينيّة في إيران التي حملت نظريّة “الخصوصيّة”، إنّما أوجدت البيئة الصالحة لظهور تلك المحاولات. فهي سجّلت التخشّب البريجنيفيّ للشيوعيّة كبديل “أمميّ” عن الرأسماليّة، والسعي إلى بدائل أخرى تستوحي التاريخ والقيم المحلّيّة وترفعها عالياً. وفي هذه الغضون كانت الانتصارات التي تحقّقت في فيتنام وجنوب شرق آىسيا ضدّ الولايات المتحدّة الأمريكيّة، قد عزّزت هذا الاعتداد بالقوميّ والمحلّيّ.

أمّا أميركا اللاتينيّة، وهي الأبكر في حساسيّتها حيال “يانكيّي” الشمال، فكانت المنطقة الأسبق في تلمّس تلك التحوّلات: ذاك أنّ الثورات والانتفاضات “الطبقيّة” التي سبق أن استدعاها نجاح الثورة الكوبيّة إنّما ذوت تباعاً. فقد قُتل، مثلاً، أرنستو تشي غيفارا في بوليفيا في 1967، وانهارت محاولته الجديدة في حرب العصابات، كما صُفّيت حركة توباماروس المدينيّة في الأوروغواي في أوائل السبعينات…

في هذه الغضون كان الغرب نفسه، حيث بدأ “الصواب السياسيّ” و”النسبيّة الثقافيّة”، يسجّل نشأة ظاهرات أقلّ طبقيّة، وأكثر جماعاتيّة وقطاعيّة. فقد اندفعت إلى الصدارة نضالات ومطالب الأقلّيّات الإثنيّة والنساء والطلاّب، وكان الكتاب الإنجيل لتلك الحقبة عمل هيربرت ماركيوز الشهير “الإنسان ذو البعد الواحد” الذي حرم “الطبقة العاملة” ريادة العمل الثوريّ. في هذا المعنى، بدا أنّ “الغرب” يرتدّ على نفسه ويتحمّس لمن يرتدّ عليه في “الشرق”، بل يشجّعه ويكافئه.

لقد بيعت ملايين النسخ، ولا تزال تباع، من كتابي “الاستشراق” و”مئة عام من العزلة”، لا سيّما الثاني. وهما كانا ولا يزالان يُتداوَلان في أصقاع الأرض جميعاً وبلغاتها كلّها تقريباً. لكنّ القاسم المشترك الثاني بين الكتابين المذكورين أنّ ذاك “الغرب” إيّاه هو الذي صنع هذين الكتابين على ما صارا عليه، إذ هناك تحوّلا كتابين عالميّين. (كم هو قويّ هذا الغرب وكم يزداد قوّة بنقده ذاتَه وبدعوة “الآخر” إلى ممارسة هذا النقد وبالاحتفال بذاك النقد؟).

وثمّة، فوق هذا، قاسم مشترك ثالث: فإذا صحّت المقدّمة التي أوجزتها الأسطر أعلاه، جاز لنا التساؤل: إلى أيّ حدّ جاء النجاح الهائل للكتابين بفعل تفوّقهما ككتابي أدب وتاريخ، وإلى أيّ حدّ جاء ذاك النجاح من السياسة؟

والراهن أنّ الجواب سيكون أسهل في حالة سعيد (الذي أظهر أكثر من باحث أخطاءه الكثيرة)، ممّا في حالة ماركيز، حيث محاكمة الأدب أعقد دائماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى