صفحات الرأيغازي دحمان

مارك سايكس وفرنسوا جورج بيكو.. أبوا الحداثة المشرقية/ غازي دحمان

 

رغم أنهما شكلا الشماعة التي علقت عليها كل كوارث هذا الحيز الجغرافي من العالم، إلا أن الوقائع تثبت، يوماً بعد أخر، أن المنطقة الواقعة جنوب البحر المتوسط وشمال الجزيرة العربية، لم تشهد إنجازاً عصرياً واحداً في تاريخها، سوى الإنجاز الذي صنعه كل من الدبلوماسيين، البريطاني مارك سايكس، والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، وبفضل إنجازهما ذلك، صار لشعوب تلك المنطقة كيانات دولتية ورموز وحيثيات، والاهم أنهم حصلوا على فرصة تاريخية للالتحاق بالعصر الحديث.

ماذا فعل الرجلان؟ عملا على مبدأ «قدم التسعة لتأكل العشرة»، فبالتأكيد أنهما انطلقا بالدرجة الأولى من مراعاة مصالح دولهما ذات الطبيعة الإمبريالية الاستعمارية، ووضعا خريطة للمنطقة تراعي هذا المعطى بالدرجة الأولى، غير أن شروط إنتاج تلك المصلحة تطلبت تأسيس البيئة القادرة على إنتاج الفائدة المرجوة، وبخاصة أنهما كانا يعملان في فضاء لا يملك أياً من مواصفات الدول العصرية، إلا اللهم سوى سكة حديد الحجاز المخصصة بالدرجة الأولى لنقل الحجاج إلى مكة، وبعض الطرق غير الصالحة سوى لنقل محاصيل القمح والتمر، وعوائد الجباية إلى المتروبول المركزي في استانبول.

باستثناء ذلك، لم يكن ثمة عناصر أخرى يمكن الاستناد عليها لتأسيس بنية دولتية حديثة، فلا بنى سياسية واضحة ولا كوادر مهيأة لإدارة الدول، ناهيك عن واقع اجتماعي مغرق في التقليدية، ويقوم على الأساس القبلي في عملية ضبط وإدارة الصراعات الداخلية، وعمليات توزيع الثروات، بشكل لا يمكن أن يؤسس لعملية تنموية شاملة. وما حصل أن الإدارة الاستعمارية تكفلت بتأسيس البنى اللازمة لتحقيق أهدافها في استغلال البلاد المستعمرة، ومن هذه البنى تشكلت النويات الأولى للدولة الحديثة في سوريا والعراق والاردن، ربما باستثناء لبنان الذي كان على تواصل مع الحضارة الغربية، وعرف أشكالاً معينة من الدولة، منذ دولة فخر الدين المعني الثاني وحتى «متصرفية» جبل لبنان».

لم يكن في تلك المنطقة، وفي ذلك الزمان، ما يوحي بإمكانية صناعة دولة ترث إمبراطورية الاستعمار التركي المديد، كان هناك بعض الأفكار التي تتحدث عن ضرورة إحياء اللغة العربية، في مواجهة عملية التتريك الواسعة، التي انتهجتها الإدارات العثمانية المتأخرة، لم ترق في مجملها الى وضع تصورات نظرية عن شكل الدولة المراد تأسيسها ولا حدودها أو علاقاتها الخارجية، ولا حتى شكل نظام الحكم المراد إتباعه. كان هناك أيضا جملة متناثرة من جمعيات ونوادي ينطبق عليها صفة الصالونات، أكثر من كونها تكوينات حزبية محتملة. وحتى الدولة التي شكّلها الملك فيصل في دمشق، لفترة زمنية قصيرة، لم يكن في واردها تأسيس البنى الإدارية والسياسية اللازمة، بقدر ما انصبت جهودها على اجتياح العراق وإخضاع قبائله لحكمها، فيما يبدو أنه استعادة للحكم الأموي بعد قرون طويلة من نهاية تلك الدولة!

وثمة من يساجل في هذا المضمار بأنه كان هناك نواة جيش حديث، وكان مقدراً له قيادة الدولة الوريثة للاستعمار التركي، خصوصاً وأن ذلك الجيش كانت له مساهمة حاسمة في إنهاء الاحتلال التركي المديد، عبر مشاركته في فعاليات الثورة العربية الكبرى! لكن أليس ذلك اجتزاءً للعناصر المكونة لسياق عام وأوسع؟ ألم تحصل الثورة العربية الكبرى في سياق إعادة ترتيب مناطق النفوذ في العالم، في إطار حرب كونية كبرى؟ وهل شكّل الجيش العربي أكثر من فرقة، كان هدفها الأساسي إضفاء الشرعية على عملية إعادة التموضع الاستعماري الكبرى، التي كانت تقودها في ذلك الحين الجيوش الفرنسية والبريطانية!

حسناً، ربما يلزم لمعرفة مدى الفارق بين الواقع الحاصل والواقع المتخيل، العبث بتاريخ الأحداث واللجوء إلى تمرين تجريبي، يقوم على أساس أن الأمور سارت بشكل طبيعي، ولم يتدخل سايكس وبيكو ويضعا لمساتهما الشيطانية على خريطة المنطقة، ولم يقع تاليا الاستعماران الفرنسي والانكليزي، فما المسار المتوقع للأحداث في ذلك الزمان؟

الجواب الطبيعي، وعبر إعادة استقراء الواقع الحاصل في ذلك الوقت، انتشار الحروب القبلية على نطاق واسع، إما بسبب الرغبة في الاستحواذ على السلطة، أو لسبب الهيمنة على الموارد، وهذا حدث طبيعي في بيئة قبلية مغلقة، لا تعرف سوى الولاءات الضيقة، ولا شك أن تطورات هذه الصيرورة ستنتهي، وبعد الوصول إلى حالة من الإنهاك، إلى نوع من التوافقات على نمط معين من تقاسم الثروات، ضمن الإطار الجغرافي الذي يجمع تلك المكونات، من دون أن يعني ذلك إمكانية لتأسيس دول عصرية، ومن دون حصول ذلك التصادم التاريخي مع الحضارة الغربية.

ولعلّ الشاهد على ذلك، أن مكونات المنطقة وتشكيلاتها السياسية لم تستطع تطوير النموذج الذي وضعه سايكس وبيكو، رغم زوال التأثيرات الاستعمارية لأكثر من نصف قرن من الزمان، وهي فترة كانت كافية لنقل مناطق شاسعة في آسيا وأميركا اللاتينية إلى دائرة الحداثة والفعالية، فلا هي انتقلت إلى الشكل الوحدوي الذي ظهر أنه لم يكن سوى خطابة إنشائية ذات استعمالات سياسية آنية، ولا هي طوّرت أنماطاً تنموية في السياسة والاقتصاد لتغيير حال البلدان التي تحكمها؟

كتب المفكر الباكستاني حمزة علوي أن الدولة في العالم الثالث هي صنيعة الاستعمار، وكثيرا ما كانت تفسيرات تلك العبارة مقلوبة، حيث تمحورت تفسيراتها على حدود الدولة وأيديولوجياتها، ومدى اندماجها بالنظام العالمي، لكن المؤكد أن التفسير الحقيقي لتلك المقولة هو أن البنى التحتية والفوقية للدولة، في العالم الثالث هي صناعة غربية، باعتبارها وليدة النمط الرأسمالي السائد، ووليدة الحداثة، وفي واقعنا المشرقي فإن الشيء الوحيد الحديث هو ما رسمه سايكس وبيكو.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى