مارك ستراند: حيث كلُّ ما يحدثُ يدوم
ترجمة جولان حاجي
اليد القذرة
(بعد كارلوس دروموند دي أندراده)
يدي قذرة.
عليَّ قطعُها.
من العبثِ غسلُها.
الماءُ عفِن.
الصابونُ رديء.
لن يرغي.
اليدُ قذرة.
إنها قذرةٌ منذ سنوات.
اعتدتُ إبقاءَها
بعيداً عن الأنظار،
في جيبِ بنطلوني.
ما ارتابَ أحدٌ بشيء.
جاءني الناس،
راغبين في المصافحة.
كنتُ أرفض
واليدُ المخبَّأة،
كبزاقةٍ سوداء،
تتركُ أثرَها
على فخذي.
وآنئذ أدركتُ
سيّان
استخدمتُها أو لا.
القرفُ لم يتغيّرْ…
آه! كم مِن الليالي
في أعماقِ المنزل
غسلتُ تلك اليد،
فركتُها، لمّعتها،
حالماً بتحوُّلها
إلى ألماسٍ أو كريستال
أو حتى، في النهاية،
إلى يدٍ بيضاء بسيطة،
يدِ إنسان نظيفة،
بوسعك مصافحتُها،
أو تقبيلُها، أو الإمساكُ بها
في إحدى تلك اللحظات
حين يتبادلُ شخصان الاعترافات
دون التفوُّهِ بكلمة…
وليس لي
إلا يدٌ لا تشفى،
بليدةً وشبيهةً بسرطان البحر،
تفتح أصابعها القذرة.
وكانت القذارةُ وضيعة.
لم تكن وحلاً أو هُباباً،
أو الوسخَ المقسَّى
لقشرةِ جرحٍ قديم،
أو عَرَق
قميصِ عامل.
كانت قذارةً حزينة
مجبولةً من الغثيان
ووجعِ الإنسان.
لم تكن سوداء؛
فالسوادُ نقيّ.
كانت باهتة،
قذارةً رمادية باهتة.
يستحيلُ
العيشُ مع هذه
اليد الضخمة الملْقاة
على الطاولة.
اسرِعْ! اقطَعْها!
قطِّعْها إرباً
وارمِها
في المحيط.
بمرورِ الوقت، مع الأمل
وأشغالهِ المعقَّدة
ستأتي يدٌ أخرى،
نقيةٌ، شفافة كالزجاج،
فتثبِّتُ نفسَها إلى ذراعي.
المرعب حدثَ منذ قليل
ينحني الأقرباء، محدِّقين مترقّبين.
يبلّلون شفاهَهم بألسنتهم. أحسُّ بهم
يحثّونني. أمسكُ بالطفلِ في الهواء.
أكوامُ زجاجاتٍ مكسورة تتلألأ تحت الشمس.
تعزفُ فرقةٌ صغيرة ألحاناً عسكرية قديمة.
على موسيقاها تضبطُ أمي خبطاتِ قدمها.
يقبّل أبي امرأةً تظلُّ تلوّح
لشخصٍ آخر. هناك أشجارُ نخيل.
التلالُ منقَّطةٌ بأشجارِ اللهب برتقالية الأوراق، وغيوم
عالية هادرة تتحرّك وراءها. «استمرّ أيها الصبي».
أسمع أحدهم يقول، «استمر».
أظل أتساءل إن كانت ستمطر.
تدْلهمُّ السماء. ثمة رعد.
«اكسرْ ساقيه». تقولُ إحدى عماتي،
«الآن أعطِه قبلة». أقومُ بما يُقال لي.
تتمايلُ الأشجار في الريحِ المدارية الكئيبة.
لم يصرخِ الطفل، لكني أتذكّر تلك الآهة
حين وصلتُ إلى رئتيهِ الضئيلتين ونفضتُهما
في الهواء لأبعدَ الذباب. ابتهجَ الأقرباء
توقّفت إثر تلك المرة…
الآن، عندما أردُّ على الهاتف، شفتاه
وراء السمّاعة؛ عندما أنام، يتجمعُ شعرَه
حول وجهٍ ألِفْتُه على الوسادة؛ أينما بحثتُ،
أجد قدميه. هو ما تبقّى من حياتي.
البيت في القرية الفرنسية
(إلى إليزابيث بيشوب)
كان في حقلٍ منحدر
قائماً وحده،
أبيضَ
بمصاريعِ نوافذ وحوافّ
خُضْر،
وسطحهُ متعدّد الميول
يضفي عليه مظهرَ
مخزنِ حبوب
صغير.
في الطقسِ الصحو
كنتُ أستطيع أن أرى
فوكس بوينت من الرواق،
عبْرَ الخليجِ
حيث الصيّادون،
كما قيل لي،
بسطوا
صيدَهم من التونا
على رصيفِ الميناء
وانهالوا بسواطيرهم
على بطونِ
الأسماكِ العملاقة.
كنتُ أحدّق
في جزيرةِ ويدج
حيث كانت النوارسُ تحوم
فوق صغارِها
في حلقاتٍ صاخبةٍ لا تكتمل؛
وفي كوخِ ألبرت هابلي
المبنيِّ فوق الماء، والهابطِ فيه؛
وفي رصيفِ بوتولييه
المحمَّلِ
ببراميلَ من ماءٍ شديدِ الملوحة
وشِباكٍ سيصلحونها.
جلستُ
مع جدّتي،
وعمّتي وأمي،
نحن الأربعة نتأرجح
على الكراسي، مراقبين
الطريقَ الضيقَ الموحِل
بحثاً عن علامة
للطفل
الأسود أوستن
الذي أقلّه أبي بالسيارة
إلى البلدة وكان سيعودُ به.
لكن الطقس
لم يكنْ صافياً معظم الوقت
وكلُّ ما أمكننا رؤيته
كان ملاءاتٍ من المطرِ البارد
تتدافعُ يميناً وشمالاً،
فيخفقُ معطفُ البحر
داكنُ الخضرة،
والريح
تعصفُ بالحقل وتمهّده،
مرسلةً إلى الرّواق
هبّات من الرذاذِ المالح
كانت تحملُ
رائحةَ السمك
وذلك ما بدا لنا،
عفنَ الخليجِ كلّه،
بينما ظللنا نراقبُ الطريق.
الصباح، الظهيرة، الليل
-I-
واخضرار الصباح، وتراكم الغيم، وحاجباي
لم تمسَسهما، ولن تمسَّهما أبداً، نسائمُ الألوهية.
ذلك بالغ الوضوح، على الأقل بالنسبة إليّ، لكني البارحة لحظتُ
شيئاً طافياً يظهرُ ويختفي بين السحب، شيئاً شبيهاً بطائر،
لكنه يشبه رجُلاً أيضاً، بدلتهُ سوداء، وذراعاهُ ممدودتان.
فحسبتُ هذه العلامة تدلّ على كوني مخطئاً. ثم استيقظتُ،
وعلى سريري سقط ظلُّ المستقبل، وعلى الأنقاضِ السائلة
للبحر في الخارج، وعلى قواقعِ المباني عند حافةِ الماء.
هبّت غيومٌ مسرِعة، تلوي الأشجار، وتمهدُ الحقول. بقيتُ في السرير،
متأملاً عبورَها. ما كان سيحدثُ لا يزالُ ينتظر فرصةَ حدوثه.
-II-
لا شيء مما أخبرتْنا به أطالسُ النجوم لنترقّبه أو مما قالت
الخرائطُ إننا سنجده، لا شيء هيّأنا لما اكتشفناه.
كنا نجهدُ في أعماقِ الظهيرة العديمة الظلال،
بينما تنامُ ريحٌ غريبة بين الأغصان، وأوراقٌ ميتة
تصير غباراً في الشوارع. ليست لنا مدنُ الضوء،
ولا أصيافُ الترفِ الطويلة؛ لأن الوصول مثلنا، بعد
وقتٍ طويل أفقدَ الوصولَ معناه، للعيشِ بين الأضرحة، على أبّهتها،
لم يكن أقربَ إلى النهاية، ولا أبعدَ عن حيث بدأنا.
-III-
هذه الليالي التي تتلاشى ألوانُها الوردية والأرجوانية،
يداعبُ حرُّها الغريب جلودَنا حتى ننام ونضلّ طريقنا إلى أمكنة
تمنّينا على الدوام ألا نصلَ إليها ــ الأعماق
حيث لا شيءَ يزهر، حيث يدومُ كلُّ ما يحدث
إلى أبد الآبدين. نتعرّق ونتوسّل كي يُطلق سراحنا
نحو النهارِ الآتي في أوانه، ونهلعُ عند فكرة
عدم الوصول إلى هناك أبداً، مرغَمين على أن نطفو منسيين
في بحر منتصف الليل حيث تُلمَح كلَّ ألف عام سفينةٌ، أو بجعة،
أو سابحٌ غريق نجتْ مخيّلته من قدَره، يسبح
كي يثبتَ ــ لا لأحدٍ بعينه ــ كم كانت زائفةً حياتُه.
بلا عنوان
أما قصيدةُ المعبودة التي تسلّلتْ إلى جيبك،
وكان مستهلُّها، «لا أنقطعُ عن التفكير بنا، نحن الأعلى من الإنسان،
وكيف نطيرُ في الأرجاء، قائلين «هاي، أنا كذا وكذا، فمَن أنت؟»»
فقد انقضت سنوات منذ أن اكترثتَ بقراءتها. لكن الآن،
في هذا الضوء البنفسجي كالخزامى تحت ظلالِ الصنوبر، يبدو
الوقتُ مناسباً. غبارُ عشق والمزقُ السوداء للصُّوَر
على الصفحة هي كلُّ ما يتبقّى. وكانت جميلةً
والقصيدةُ، فكّرتَ آنذاك، جميلةٌ مثلها.
تترمّد الخزامى. الغيومُ تختفي. أين
هي الآن؟ وأين ذاك الصبي الذي كان يقفُ لساعات
خارج منزلها، ليعلمَ متأخراً للغاية أنّ هناك على الدوام
شيئاً يوشك على الحدوث، تماماً في اللحظةِ التي لا يُجدي فيها حدوثهُ أبداً؟
الأمُّ والابن
يدخلُ الابنُ غرفةَ الأمّ
ويقفُ إلى جوار السرير حيث ترقدُ الأمّ.
يعتقدُ الابنُ أنها تريد إخباره
بما يتوقُ إلى سماعه ــ إنه ولدُها،
ولدُها دائماً. ينحني الابنُ ليقبّل
شفتَي الأمّ، لكنَّ شفتيها باردتان.
هو ذا دَفنُ المشاعرِ يبدأ. الابن
يلمسُ يدَي الأمّ للمرةِ الأخيرة،
ثم يلتفتُ فيرى وجهَ القمر المكتمل.
ضوءٌ رماديٌّ يسقطُ على أرضِ الغرفة.
لو كان بمستطاعِ القمر أن يتكلّم، فماذا سيقول؟
لو كان بمستطاعِ القمر أن يتكلّم، فلن يقولَ شيئاً.
اسمي
ذات مرة، عندما كان السهل أخضرَ ضارباً إلى الذهبيّ
والأشجارُ التي يطليها القمر بنورهِ المرمريّ سامقةً كأنصابٍ تذكارية طازجة
في أريجِ الهواء، والريفُ كلُّه ينبض
بصريرِ الحشرات ووشوشاتها، استلقيتُ على العشب،
فأحسستُ أن المسافاتِ العظيمة تتفتّحُ فوقي، وتساءلتُ
ماذا سأصيرُ وأين سأجدُ نفسي،
فأحسستُ للحظةٍ، ولو كنتُ بالكاد موجوداً،
إن السماءَ لي، شاسعةً بعناقيدِ نجومها، وسمعتُ
اسمي كما لو للمرة الأولى، سمعتُه
كما يسمعُ المرءُ الريحَ أو المطر، لكنه خافتاً كان وبعيداً
كأنه لا يرجعُ إليّ بل إلى الصمت
الذي جاءَ منه وإليهِ سيعود.
* قصائد الشاعر الأميركي مارك ستراند المترجمة هنا مأخوذة من مجلد أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت العام الفائت، قبيل وفاته عن عمر ناهز الثمانين سنة؛ يتضمن أحدها، «البيت في القرية الفرنسية»، العديد من الإشارات إلى أمكنة طفولته الأولى في كندا.
ترجم ستراند العديد من الشعراء إلى الإنكليزية، مثل كارلوس دروموند دي أندراده ورفائيل ألبرتي، وكتب عن إدوارد هوبر ورسامين آخرين، وأنجز العديد من لوحات الكولاج، كما ألّف عملاً قصصياً إضافة إلى قصص للأطفال خلال العقد الذي انقطع فيه عن كتابة الشعر بين عامي 1980 و1990، حين فقد الإيمان بما كان يكتبه من قصائد، على حد قوله.
كرّس ستراند مجموعته الأخيرة «لامرئي تقريباً» لقصائد النثر، وذكر في أحد الحوارات الأخيرة معه، معلقاً على ما يقال حول غرائبية قصائده الأولى وسوداويتها وهوسها بالذات، قائلاً إنه قد كتب أثناء لعب الورق إحدى أشهر قصائده، وهي «أسباب للانتقال» المنشورة في الستينيات (مطلعها «في الحقل،/ أنا غياب الحقل./ هذه هي المسألة/ دائماً./ حيثما أكون/ أنا المفتَقَد»). الغياب لدى ستراند صنو الوجود، هو الذي كتب في أعماله المتأخرة: «الصوت السريّ للوجود يقول لنا/ إن مكان اختفائنا هو مكان حضورنا»، لكن «لمَ نبدو إلى الآن منتظرين شيئاً سيكون ظهورهُ تلاشيَه؟».
كلمات
العدد ٢٧٦٤ السبت ١٢ كانون الأول ٢٠١٥
(ملحق كلمات) العدد ٢٧٦٤ السبت ١٢ كانون الأول ٢٠١٥