ماريو فارغاس لوزا في بانتيون “لابلياد”: لا أؤمن بالأدب النخبوي!
التقديم والترجمة: بول شاوول
الروائي البيروني الكبير ماريو فارغاس لوزا (نوبل)، دخل الى حرم «البانتيوم» أي الى «البلياد» الى جانب كبار الأدب والفلسفة والشعر والمفكرين.
يوصف بأنه مؤلف الروائع، وقد خصصت له «لابلياد» مجلدين يضمان جانباً واسعاً من أعماله الروائية. بلغ الكاتب الثمانين، ليكون أول كاتب أجنبي (غير فرنسي)، انضم الى «بانتيوم» العظماء في حياته.
وقد تأثر بعدد من الكتّاب أمثال كامو، وبانيول، وتولستوي وسارتر، وفلوبير، وميغو، وبالفلسفة وبالصحافة. «هناك نقطة مدهشة تظهر بين الروايات المختارة في «لابلياد»: كل مرة، ينجح فارغاس، في اختيار أشكال جديدة من السرد، من دون أن يقع في الغموض.
أجرت معه مجلة «لاماغازين ليترير» حواراً طويلاً اقتطفنا بعض أجزائه المهمة.
[ مكتبة «لابلياد» «معبد» كل كاتب منذور للتكريم في اللحظة التي تدخل فيها إليه، بمَ تحس؟
[ اكتشفت «لابلياد» في شبابي، عندما كنت لما أزل ولداً يدخل الى جامعة سان ماركوس في ليما لدراسة الآداب والقانون، كنت أريد تعلم الفرنسية، متأثراً بقراءاتي وأنا في المراهقة، والتي غمرتني بالمغامرات والأعاجيب… كجول فيرن، وألكسندر دوما وفكتور هيغو، وتحت تأثيرها، كما العديد من شبان أميركا الجنوبية، فكرت بأن باريس هي عاصمة الثقافة والفنون، وفي انه في فرنسا تتفجر التيارات الأدبية والفنية التي سادت العالم. فكرت أن على كل شخص يسعى الى تغذية عالمه الأدبي أو الفني أو الثقافي أن يعيش التجربة الفرنسية لكي يكون في طليعية المعرفة والابداع… ولهذا تعلمت الفرنسية…
[ متى بدأت بقراءاتهم وبلغتهم أي الفرنسية؟
– بعد ستة أشهر من تعلمي اللغة الفرنسية وعندها اكتشفت في مكتبة «الاليانس» الفرنسية في ليما، مجموعة «لابلياد». ومن خلالها تمكنت من قراءة بلزاك وروجيه مارتن دي غار، وزولا، وفونتين، وكثيراً من الكلاسيكيين والمعاصرين الذين جعلوني أكتشف مدى غنى الأدب الفرنسي: بودلير، ريبو، فلوبير، ستاندال، بروست. ومنذ تلك الفترة وخلال مجمل سنواتي الكتابية، حلمت بفكرة تمكني يوماً ما، بمعجزة، أن أدخل في عداد هؤلاء العظماء الذين تضمنتهم لوائح «لابلياد».
وأقول هنا، وبلا أي تردد أن أجمل يوم في حياتي ككاتب، كان في برشلونة، عندما أراني رسالة من انطوان غاليمار كتب فيها «أزفت الساعة لإدخال فارغاس لوزا في لابلياد». حتى، بعد ذلك، عندما أخبرت بأنني نلت «نوبل» للأدب، لم أشعر بمثل تلك السعادة.
[ كل الروايات المختارة هي الى حد كبير مبدعة، تعرض أفكاراً معقدة وتروي أحياناً قصصاً واسعة جداً. لكنها تبقى، مع هذا، قريبة التناول. أهذا مهم بالنسبة إليك؟
– لطالما اعتقدت بأن الأدب يجب أن يدرك جمهوراً عريضاً من القراء. من دون التخلي، بالرغم من ذلك، عن التماسك، والنضارة والصراحة بحثاً عن تقنيات جديدة لتعابير جديدة. لكني لا أؤمن بأن يختزل الأدب أو ينحصر في مجموعة من النخب لا يفهمون سوى بعضهم ويحسون بأنهم أعلى وأسمى من القارئ العادي. صحيح أن الأعمال الأدبية الكبيرة تصل شيئاً فشيئاً الى القراء، كما في «بحثاً عن الزمن الضائع» لبروست أو «يوليس» لجويس، لكننا مع هذا نعيش اليوم عصراً صعباً، حيث ينافس التلفزيون الأدب، وحيث أن على الكتاب ان يصارعوا ويقاوموا لمنع الشاشة من دفن الكتب.
وأظن أن ذلك يؤدي الى دفع الكتاب الى محاولة أخذ الاعتبار بالقارئ العمومي، مستخدمين تقنيات وتعابير، من دون التخلي لا عن عمق الفكرة والابتكارات الشكلية، لوضع كتابات في المتناول. هذا ما فعله كبار الكتّاب، منذ هوميروس الى فلوبير، ودانتي وكافكا ومونتين وصولاً الى فوكنر. وإذا كان مصير الأدب أن يموت، فعلى الكتاب، من جهتهم أن يقتلوه.
[ خضت في كل أنواع الرواية، السخرية (السروال والزائرات)، والرواية التاريخية (حرب نهاية العالم)، والبوليسية (من قتل بولومينو موليرو..) من أين تأتي هذه الطاقة التي تجدد إبداعك؟
– القصص التي أريد سردها هي التي تحدد الأنواع. وليس العكس. وتولد المواضيع، عموماً، من التجارب، التي ولأسباب ما تزال غامضة بالنسبة إليّ، تقود الى نوع من الحلم هو من القصص وتفرض هذه القصص أحياناً، عملاً من البحث، ومعالجة معقدة ومكثفة وأحياناً أخرى تتطلب القصص نبرة كوميديا خفيفة مع كمية لا بأس بها من السخرية.
أحياناً، تؤدي بي العقدة لاستخدام طرائق القصة البوليسية، أو إضفاء مسحة من الغموض على السياق لجعلها مقبولة. وأخيراً، فالشخصيات، بالنسبة إليَّ، والمواضيع، هي التي تحدد الشكل الفني. لكن، وفي مجمل الحالات، أحاول تجنب الغموض من أجل الغموض، لظنّي، أن احدى الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها بعض كتاب عصرنا، هي اعتقادهم أن الغموض يعني العمق.
[ لكنك، وعكس ما تقول، فغالباً ما أشرت الى أن أهمية «لذة النص» كما يراها رولان بارت والذي تابعت بعض دروسه..؟
– يبدو لي الكلام على المتعة صحيحاً، بالمعنى الروحي والمادي للكلمة، بالنسبة الى الأدب. فقراءة بحث لمونتين، أو رواية «مدام بوفاري» (لفلوبير)، أو «المركب السكران» لرمبو، فمثل هذه النصوص تثرينا بالقدر الذي تثرينا بمرتبة صداقة كبيرة وحب كبير، وتملأنا بالأوهام والمشاريع، وتوسع آفاقنا الحيوية والفكرية، وتوفر لنا هذا الانطباع بأن الحياة تستحق أن تعاش.
[ مالرو
[ اندره مالرو كمثقف جذب اهتمامك..؟
– مالرو أحد كبار كتاب القرن العشرين الذين لم يحتفل به بما يكفي بسبب الأفكار السياسية الجاهزة. بالنسبة إليّ، لا أني من تكرار ان روايته «الوضع الانساني» هي من أكبر روايات القرن العشرين، وان الرهافة التي كتب فيها عن الفن، والسياسة والأدب، جعلته كاتباً «كلاسيكياً» في حياته. وأريد هنا أن أؤكد ابتكاره ونضارته في أفكاره وكتاباته السياسية، والتي هي لآلئ أدبية. وأتذكر هنا منهما اثنتين حرّكتا فيَّ انفعالاً ما زلت أحتفظ به في ذاكرتي حتى الآن: خطابه الذي ألقاه أثناء نقل رفات جان مولان الى «الباتيون». وخطابه الآخر الذي ألقاه في «اللوفر» تكريماً لكوربوزيه…
[ الليبرالية
[ وأنت أيضاً كنت ضحية «الأنا، الجاهزة المسبقة؛ أخذ عليك دفاعك عن الليبرالية، في الوقت الذي بدا هؤلاء المنتقدون أقل قسوة من التزامات ماركيز بالكاستروية، ماذا يوحي لك ذلك؟
– منذ زمن بعيد، يسيطر اليسار على الحياة الثقافية. وفي حالات عدة، كان لذلك تأثير مفسد على الكتاب والفنانين، الذين، ولكي لا يجدوا أنفسهم مهمشين، كانوا يتبنون المواضيع اليسارية ولو كانت نقيضة حساسياتهم الفنية. وهذه الظاهرة، وبكل أسف، تكرر اليوم في عالمنا الثالث وفي البلدان المعتبرة الأكثر ثقافة وحضارة.
[ يتابعك القراء الاسبان بانتظام في جريدة «إلباييس» حيث تعبّر عن مواقفك حول الانتخابات الاسبانية، وحول نهاية «الشافية»، أترى من أجل ممارسة سلطة مقارنة بسارتر وكامو؟
– على الرغم من كون الأدب رسالتي، ولا أبادله بأي شيء في العالم، لم أحب أبداً فكرة انغلاق الكاتب في غرفته مستسلماً روحاً وجسداً لمتخيلاته. فالصحافة بالنسبة إلي، كانت دائماً (بدأت بممارستها منذ كنت مراهقاً) طريقة تجعلني على تماس مع التاريخ الذي يتكون، مع الأخبار، مع كل ما هو ما بعد الأدب، التاريخ الحي، فالصحافة، وعبر تجاربي، هي الينبوع الذي أغرف منه قصصي، لأن المخيلة لا بد أن تأخذ مستنداً هو المعيش اليومي والتاريخي…
[ تدافع في مقالاتك، وباستمرار، عن ليبرالية ذات وجه إنساني. أيٌّ من شخصيات رواياتك نموذج يجسّد هذه الليبرالية؟ أهو فيليسيتو ياناكي، الوجه المركزي في «البطل السري«؟
– فكرة جيدة اعتبار أن فيليسيتو ياناكي، رب العمل المتواضع في رواية «البطل السري» هو ليبرالي، وإن لم يكن يعرف ذلك في الواقع، فهو صنع نفسه بجهده الخاص فقط، ولا يرتاب سوى من الدولة، لأن في البلاد الذي يعيش فيها ويعمل، فالدولة، بدلاً من أن تشجعه تضع العراقيل، في كل مكان، دونه وتحاول استغلاله. وبرغم ذلك كله فهو يؤمن بالقانون ويحترمه، ويعتبر أن السوق هي أفضل طريقة لتنظيم المجتمع ليتوفر فيه الثراء والعمل. وذلك عكس بعض المذاهب السياسية، وخصوصاً الإيديولوجية، فالليبرالية تتعامل مع العنصر الانساني وتقبل باستمرار برهان الحقيقة، أو نفاق الأفكار.
[ بعد كل هذه «التكريسات»، أي أفق ترى يفتح لك؟
– لطالما قلت، خصوصاً اليوم، وأنا على عتبة الثمانين، ما كان يسميه سان جون برس «أوج العمر«، أو («العمر الكبير») الذي أريد فيه، أن أستمر كاتباً حتى النهاية.. ما من شيء يبدو لي أحزن من كتّاب يموتون وهم احياء: أي يبدأون في اجترار أنفسهم، ويفقدون حس المجازفة في اجتراح طرق جديدة للرواية، ويسردون ما لم يتجرأوا اطلاقاً على سرده، وخلق الشكل، والبنى والرموز، وأظن أن كاتباً ما زال يتمتع بحد أدنى من الوضوح، عليه كواجب أن يبذل المستطاع وحتى المستحيل، لكي لا يصبح وهو حي، وقبل أوانه، تمثالاً.
[ ومع كل هذه التكريمات، ألا تخاف أن تحنط وفي حياتك؟
– أتمنى ألا تحنط أعمالي في دخولي الى «لابلياد» وما تؤول إليه، لا يتعلق بي. آمل ككل الكتّاب، أن يصاب جزء على الأقل من كتاباتي بالشيخوخة، وتستمر في ايجاد قراء بين الأجيال المقبلة.
وإذا صح ذلك، فالقراء سيكتشفون، لدى قراءتهم قصصي، ان عصرنا كان في الوقت ذاته رائعاً ورهيباً، عصراً من اليوتوبيات الناقلة، باسمها تعرض ملايين الناس للعذاب والموت. وعصرنا جمع التطور العظيم في العلم والتكنولوجيا التي دفعت مقاومة المرض والجهل، ولكن في الوقت ذاته اخترعت أسلحة فتاكة من شأنها اعادة البشرية الى أزمنة الكهوف أو استئصالها نهائياً، عصر امّحت فيه الحدود، حيث وسائل التواصل جعلتنا معاصرين لكل ثقافات الكرة الأرضية، وحيث أن الشياطين القديمة التي حسبنا انها اختفت، كالتعصب والعنصرية، والارهاب، ظهرت من جديد لتملأ العالم دماً وجثثاً.
[ بوصفك ليبرالياً، عاشقاً لفرنسا وفكر التنوير، هل حلّلت العمل الاجرامي في 13 تشرين الثاني؟
– لطالما كان الارهاب موجوداً، ولكن على عكس ما كان في الماضي، فتطور الأسلحة وفّر للإرهابيين، تكرار المذابح الفظيعة، كما حدث في فرنسا مؤخراً. الخبر الجيد أن الإرهابيين الإسلاميين لن يكسبوا الحرب، وسيبقون دائماً أقلية متعصبة، تجعل من تخلفهم عن الزمن، مجرد «هامشيين». لكن الخبر السيئ، انه لا يمكننا تدميرهم تماماً، والنتيجة أن العالم المتحضر سيبقى في قلبه هذا القدر من المآسي والوحشية المتأتية من التعصب الذي رافق الحضارة كظل.
المستقبل