مازلنا واقفين حيث صوّرنا محمد ملص
إيلي عبدو
التنقيب عن الهزيمة خارج كتب التاريخ، بعيدا عن تبادل التهم وتحميل المسؤوليات، يصبح كشفا شديد الضرر، خاصة إذا اقترب من كل واحد منا وتسلل إلى الدواخل حيث ترفرف راية بيضاء خفية، تظهر آثارها في سلوكياتنا.
هكذا يمضي محمد ملص، يتجرأ علينا لينبش ما أستقر فينا من قهر وألم وحزن.
يعيدنا إلى البداية، حيث السؤال عن الذات كان تهمة فيما صراخ الجماعة يعلو بعنف وغضب لا عقلانيين.
سينما ملص تعيد لنا ما سرق منا في لحظة ما. بتحديد أكثر، ما تركناه عرضة للسرقة في زمن التحولات والاحتمالات المفتوحة. يكاد فيلم “الليل” أن يكون مطهرا للذوات الخائبة، يعيد سرد مرحلة أتعبت تاريخنا ومخاضاتها لم تنتج سوى القهر.
أبطال الفيلم يشهدون بانسياب على الزمن، لكن المخرج لا يريدنا نحن مشاهديه أن نشهد على زمننا الخائب، ونمضغ حاضرنا بمآسيه و كوارثه. يريد أن يحرك ما فات من تاريخ ليدين الحاضر ويحرضنا على فهمه.
سأل الطفل أباه ” ليش ما تركتني أطلع بالمظاهرة؟ ” يجيبه والده “بكرا بس تكبر بتعرف”. الطفل يظل صغيرا في الفيلم لكن كوارثنا تكبر على إيقاع جواب الأب، ونصبح صامتين نصفق لقهرنا ونهتف له بشغف الجبناء.
الأب يشتم جاره، يقتحم منزله، يريده أن يطفئ الراديو الذي يذيع خطاباً خشبياً، يريد أن يسكت صوت القوة الوهمية الكاذبة “يا ولاد الكلب روحوا حاربوا اليهود”. ذالك الأب يعود من الحرب أكثر وعيا ونضجا من صديقه الذي يظل أسير أوهامه وكلّما خرجت مظاهرة خرج معها.
فارس الحلو يكتفي بنفسه كإنسان أكتشف مبكرا وجها أخر للعدو، لكنه سرعان ما دفع ثمن هذا الاكتشاف، حيث تحضر أجهزة الأمن إلى منزله ليلا، تصفعه وتركله وتشتمه بعنف يشبه عنف الخطاب الذي تمثله.
الصورة في الفيلم تتحرك ببطء، ملص يتمهل كثيرا في شرح الأثر الشخصي للأحداث الكبرى. يريد لشخصياته أن تتشرب الأحداث نفسيا، فرسمه لخريطة المجتمع تنوعت لتلحظ ردات الفعل المختلفة على الحرب و كيفية التعامل مع التحولات.
لكنه يذكرنا دائما أن الخراب بما يحمل من عمومية هو بطله. سرد التاريخ وعكس نتائجه على ذوات وأفراد، يجعل الكاميرا حزينة تلتقط المشهد من زاوية تثير الألم. ثمة اندماج واضح بين الصورة و الحدث الذي تخبر عنه. خاصة أن الحدث هو نحن، باستعادة موجعة لما مررنا به.
تاريخ كاريكاتوري لا يثير الضحك فقط، لكن يجعله أكثر احتمالا للتعامل بعقلانية مع ملهاة كنا أبطالها من حيث لا ندري. فنحن لم نقع ضحيتها كما يشيع البعض، الضحية عادة تخضع لشروط القوة وعنفها وعسفها، أما نحن فأنتجنا هذه الشروط وأيدناها ورفعنا القبضات بإصرار نضالنا لأجلها.
بالمزاح والتسلية صنعنا مستبدينا. كأننا كنا نلعب الغميضة لنختبئ إلى حين بالاستبداد، لنغافل إسرائيل ونهزمها. لكننا بقينا مختبئين إلى الأبد، و جحورنا اتسعت لتشمل جامعاتنا وشوارعنا وثقافتنا وأسرنا وأيامنا الرتيبة.
في 2003 ظهر جحر الفضيحة، مكان اختباء صدام حسين. لعل هذا الجحر بظلامه إجابة واضحة لفيلم الليل الذي قال فيه محمد ملص تاريخنا المخزي .
الفيلم لم ينته لحظة موت فارس الحلو الذي أنهكته الحروب، كان كل مرة يذهب مع الفدائيين للحرب ضد إسرائيل يعود فيجد البيئة صارت أكثر خصوبة للاستبداد.
أراد ملص أن ينهي الفيلم بطريقة أكثر قسوة، ترك الطفل وأمه يقفان أمام نصب العسكريتاريا التي سيطرت على كل شيء.
لماذا مازلنا جميعنا واقفين هناك؟