صفحات مميزة

ماضٍ كالسيف باقٍ كالحبّ


 ياسر الزيّات

لم أكن أظن أن العام الماضي سيمضي. لا أظنه مضى أصلاً. ربما ما زال هنا، يفتح الباب لمن بعده فحسب. عبقُه البطولي لم يتبخّر. الصبح لم يزل يتنفّس بنفْس الكبرياء. الانتعاش المعاش كل يوم على نشرات الأخبار مستمرّ. كيف مضى؟ أظنه وَلَدَ عاماً جديداً. أو لعلّه كَبِرَ. على أية حال، هو ماضٍ، كالسيف، ولكن باقٍ كالحبّ.

قال لي: كن جميلاً كأهازيج حرية، رءوماً كعلَم مدمّى، شامخاً كمظاهرة مليونية، جسوراً كخنساء عربية، كريماً كنهرٍ معمِّر، أبيّاً كعربة خضار…

وقال أيضاً: لا تشتروا مَلِكاً دون العصا معهُ \ إن الملوكَ لأنجاسٌ مناكيدُ!

جملة مسلمات

علمني 2011 أن الخوف من المستقبل انتحار، وأن الخوف من استمرار الماضي هو الخوف المبرَّر الوحيد. أن الموت هو الموت جباناً، وأن الشجاعة صكّ خلود.

علمني أن ما يلمع ليس دائماً ذهباً، وأن الذهب لا يلمع دائماً، وأن السكوت ليس من ذهب على الإطلاق. علمني أن البركان قد يسمى مملكةَ صمت قبل أن يثور، أن قوة الظالم وهمٌ وضرباته محضُ محاولة لتثبيت الوهم، أن كل من يتعالى سافل، أن الثمار الفاسدة تسقط حين تسقط من ضمير المزارع، أن اجتثاث الزهور لن يوقف مدّ الربيع، أن ملوك الملوك أو ملوك الغابات قد يمسخها الله جرذاناً حين يقرر الناس، أنه لا رجولة ولا أمن في الكائنات الخائنات المسمّاة رجال أمن، أن هولاكو قد يسمي نفسه صلاح الدين، أن السائرين إلى عين جالوت لا يعرفون داحس والغبراء، أن أعداءنا كانوا أربعة لا ثلاثة: التجزئة والتخلف والتبعية و… الاستقرار!

شكراً لتونس. ما زال يواسي نفسه المخلوع، بأن شعباً نبيلاً هو الذي أزاحه لا نذلٌ مثله. شكراً لمصر. كانت الوصية للشعوب أنْ لا تصادموا حكامكم، فصارت للحكام أنْ لا تصادموا شعوبكم. شكراً لليبيا. لا يحلّق الشعب إلا حين يهوي الطاغية. شكراً لليمن. كلما اخترع التاريخ مستحيلاً جاء من يخترع التحطيم. شكراً لسوريا. الأرض التي تشرب من نهر “العاصي” لا تطيع الأوامر.

كل احتلال عدوّ

شكراً لسوريا مرة ثانية. شعبها أدرى بمن يستحق المقاومة.

علمني 2011 أن كل احتلال عدو، وأن سارق العرش محض غاصب غاشم، حتى لو تكلم بلغتنا أو صلى صلاتنا أو قال لنا كلاماً جميلاً. كل مستبدّ عدوّ، وكل سلطة شرعيتُها مدرعاتُ العسكر ساقطة، اليوم أو غداً. ولكل احتلال عملاء ينتفعون من وجوده ويتنطّعون على ضحاياه المضطهدين. ولكل احتلال مستوطنون لا يهمّهم من الشأن العام سوى نرجسية العيش. ولكل احتلال خصوم يقاومون غطرسته، لا يرون في وعيده مثبّطاً للهمم، ولا في وعوده مسكّناً للألم، فيواصلون النضال والتضحية، على أملِ نصرٍ يؤمنون به، يفكّك الظلم وينهي المعاناة اليومية.

ذاك المنظار “الفلسطيني” يفسر لي كثيراً ما يحدث في بلاد الشتاء العربي (عواصف ما قبل الربيع): دبابات، انتفاضة، شهداء، حرية، سجون، مفاوضات، صمود…. طويلٌ خندق الثوار دائماً، ولكنه إجباري، وذو نهاية مشرقة.

هذه الأيام هي ذكرى حرب أليمة جرت قبل سنوات على غزة، وهذه الأيام تشهد الآن حرباً أليمة أخرى تجري على حمص ومدن سورية أخرى. لا يختلف المشهدان كثيراً: مقاومة وجيش احتلال، مقاومة وجيش احتلال.

أما أولئك الذين يمدحون حكم المجازر في سوريا ويسبون حكم المجازر في فلسطين فمخلوقات غريبة فعلاً! أيرون فرقاً حقاً بين دبابة إسرائيلية تحتل طولكرم ودبابة سورية تحتل درعا؟ أما أنا فلا أرى فروقاً كثيرة. حتى حين أقرأ أشعاراً عن فلسطين أراها جميعاً تشيد بالسوريين من حيث لا تدري. يمكنني أن أقول عن سوريا نفس ما قاله عن فلسطين إبراهيم طوفان وتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم ومريد البرغوثي وغيرهم.

“أيها المارّون بين الكلمات العابرهْ \ منكمُ السيفُ ومنّا دمُنا \ منكم الفولاذُ والنارُ ومنّا لحمُنا \ منكم قنبلةُ الغازِ ومنا مطرُ \ منكم دبابةٌ أخرى ومنّا حجرُ \ وعلينا ما عليكم من سماءٍ وهواءْ \ فخذوا حصّتكم من دمنا \ وانصرفوا… آن أن تنصرفوا… فاخرجوا من أرضنا \ من برنا من بحرنا من قمحنا من ملحنا من جرحنا من كل شيءٍ واخرجوا من مفردات الذاكرهْ \ أيها المارّون بين الكلمات العابرهْ”

يسقط يسقط حكم العسكر!

كل الطغاة يخافون الأغنيات، ولعلنا كتب علينا مواجهتهم واحداً واحداً. ما سبقَ شعرٌ قيل في جنود الاحتلال الإسرائيلي، ويُقال في جنود أيّ احتلال آخر.

سيسجل التاريخ أن عام 2011 كان بداية نهاية حكم العسكر في بلادنا، أي حكم الاستبداد المسلح.

من آل عثمان إلى آل الأسد، مرورا بالريّس والعقيد والجينيرال والمشير… لم تقدم لنا الجيوش سوى الظلم والتقهقر والجهل، وتقديم “التصدي للخارج” على تحصين الداخل والاهتمام به. وها هي بعض الجيوش العربية تقود اليوم خريفاً مضاداً على ربيعنا العربي المجيد.

رحم الله الكواكبي رحمة واسعة، كم يستحق الحياة!

“ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمّة أو التَّمكُّن من إغفالها إلاّ وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة الاستبداد، وبعد أنْ تتمكَّن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة. وهما أكبر مصائب الأمم وأهمّ معائب الإنسانية، وقد تخلَّصت الأمم المتمدُّنة -نوعاً ما- من الجهالة، ولكنْ بُليت بشدة الجندية الجبرية العمومية، تلك الشّدة التي جعلتها أشقى حياةً من الأمم الجاهلة، وألصق عاراً بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد، حتَّى ربَّما يصحّ أن يقال: إنَّ مخترع هذه الجندية إذا كان هو الشّيطان فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أنْ ينتقم! نعم، إذا ما دامت هذه الجندية التي مضى عليها نحو قرنَيْن إلى قرن آخر أيضاً تنهك تجلُّد الأمم، وتجعلها تسقط دفعة واحدة. ومن يدري كم يتعجب رجال الاستقبال من تَرَقِّي العلوم في هذا العصر ترقِّياً مقروناً باشتداد هذه المصيبة التي لا تترك محلاً لاستغراب إطاعة المصريين للفراعنة في بناء الأهرامات سخرة، لأنَّ تلك لا تتجاوز التّعب وضياع الأوقات، وأمّا الجندية فتُفسد أخلاق الأمّة، حيثُ تُعلِّمها الشّراسة والطّاعة العمياء والاتِّكال، وتُميت النّشاط وفكرة الاستقلال، وتُكلِّف الأمّة الإنفاق الذي لا يطاق… وكُلُّ ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم: استبداد الحكومات القائدة لتلك القوَّة من جهة، واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخرى”.

من يرى أن هؤلاء العسكر قد يحرّرون من فلسطين شبراً فليسارع إلى أقرب مغسلة وليغسل عينيه سبع مرات عسى يزول العمى! أصلاً لا تحلم القدس بضابط يحتلّها. هي أجمل من حلم قبيح كهذا. القدس تحلم بفارس نبيل يدخلها باكياً ويمسح عن وجهها حزن الستين سنة. العسكر المتوفر حالياً مُعيب، وحكامه آخر من يستحق المجد.

علمني 2011 أن بلادي ليست بلادي، ووطني ليس وطني، وشعبي ليس شعبي… ولكن بلادي لمن صانها، ووطني لمن أحبه، وشعبي ملك نفسه. على المعاتيه المهووسين بالتملك أن ينقرضوا.

زهرةٌ طفلةٌ تنمو فوق جبل مهجور أجملُ عندي من قصر متكبّر يطلّ على العاصمة، وفقيرٌ كافحته الحياة يحرق نفسه احتجاجاً على ظلم ذوي قرباه أعظمٌ من غنيّ أخرقَ أغرقَ الطرقاتِ بصورته البلها، وكلمةٌ عذبةٌ تكتبها أنامل المشتاقين أشدُّ وطنية من عسكريّ ملأ عمره وعمرنا صراخاً في وجه العدو.

شكراً لتونس مرة أخرى، وإلى الأبد.

..

مدوّن سوري

http://yalzaiat.wordpress.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى