مايا أنجيلو؛ الشعر يولد من الخطر/ ديمة الشكر
آراءمايا أنجأن الشعر يأتي في عمر الطفولة. ولعل السنوات الثلاث بين عمري العاشرة والثانية عشرة، هي الأكثر تواترًا غبّ الإلهام الأولي. كذا فإن غالبية الشعراء والشاعرات، إن سُئلوا عن زمن قصيدتهم الأولى، لما ابتعدت الإجابات عن زمن السنوات الثلاث تلك. ربما السرّ كامن في وقوعها في منطقة خاصة: قبل حافة المراهقة بقليل، وبعد جنوح الخيال الطفولي بقليل. وربما بسبب هرمونات ما، تجعل من احتدام المشاعر وتيقظ الوجدان رافعة للكلمات المنتقاة والمرصوفة بطريقة غريبة: قصدًا وعفوًا في الآن نفسه.
العلاقة بين الشعر والطفولة معروفة موصوفة، لا أسرار عنها تقريبًا، فهي الدهشة والخيال والاندفاع والشجاعة والتهور والخبث والمرح وحب اللعب معًا.
بيد أن أمرًا واحدًا يطيح بهناءةِ سبر العلاقة تلك بين الشعر والطفولة، ويُلزم بواقعية لا أوهام تدانيها. إنه الشعور بالخطر في زمن الطفولة. الشعور بالخطر يشحذ طائفة من المشاعر: الخوف والحذر، واستعمال العقل للخروج من ورطة ما، أو الهروب من وضع معقد، وضع آلية للدفاع، وتفاصيل أخرى من الصعب سبرها.
تلقي تلك اللحظة بظلالها القاتمة والمعتمة على الروح، إذ تفضح هشاشة الكائن، وتعلّمه المجابهة، ولو عن طريق الحيل، تضيء وتظلم في الوقت نفسه. وبالطبع فإن شعراء وشاعرات أقلّ وأصغر سنًا من فئة الـ (9-12) أعلاه، خبروا تلك اللحظات، التي تقدح على ما يبدو زنادًا غامضًا، فيه الوهم والحقيقة معًا.
فمن لا يتذكر تلك اللحظة آن وصفها محمود درويش؟ حين هدّده مدير المدرسة بطرد أبيه من العمل إن أعاد الكرة وكتب قصيدة “وطنية”؟
أمرٌ مشابه، وقصة استثنائية، تبدو أقرب إلى الأمثولة وقصص الجنيات، تلك التي حصلت مع الشاعرة (وكاتبة ومخرجة وممثلة وراقصة وناشطة سياسية) الأميركية مايا أنجيلو.
كانت مايا في السابعة من عمرها، حين اغتصبها صديق أمّها. خبّرت الصغيرة أخاها. سُجن المغتصب مدة، ثم وُجد مقتولًا. فكّرت الصغيرة أن كلامها أدّى إلى القتل، هكذا يفكّر الأطفال، ومن السهل إشعارهم بالذنب، إذ إن الثواب والعقاب حاضران بقوّة في عالم الطفولة.
ابتكرت مايا حيلة دفاعية لدرء الشعور بالخطر الذي انفلتْ عند لحظة اغتصابها واستمر؛ كذا قررت أن تخرس طوعًا مدة خمس سنوات. ثمّ أطلّ العام الثاني عشر إذن، وتكلمت؛ شعرًا بالطبع.
الناظر في سيرة حياتها، والقارئ لقصائدها، لا يسعه إلا الشعور بقوّة الكلمات وتأثيرها النبيل.
ثمة شجاعة وإصرار ينضحان باستمرار من كلّ ما كتبته. بسيطة وعميقة في آن معًا، مايا. لا دهشة إذن، أنها التي حازت أرفع الجوائز والأوسمة، ودخلت قلوب النخبة والعامة في المجتمع الأميركي المعقد والمتكلف والصعب والمتعدد. اختارها بيل كلينتون يوم تنصيبه لتقرأ شعرها، وألهمت إلى حد كبير المغنية الشهيرة المثيرة للإعجاب والجدل، مادونا. بدا غريبًا أن مغنية البوب التي توحي بأنها لا تُقهر، وجدت في كلمات مايا كل سند وسكينة، في لحظات الضعف والشعور بالظلم.
مايا ذات الأطوار الغريبة في طقوس الكتابة، والدقة في التعبير، اختارت دربًا خاصّة، قصيدتها لا جنس لها، لكنها غير منبتة أبدًا عن جذرها الأنثوي، مما يوسع من منظورها، ويزيد من إشعاعها وتوهجها.
ومايا أيضًا، هي التي كتبت سيرتها سبع مرات، من دون أن تبدو معجبة بذاتها. صحيح أن حياتها استثنائية (سراءً وضراءً)، لكن حتى وهي تقول عن نفسها إنها امرأة استثنائية، تبقى أدنى إلى عشبٍ متواضع، شيء نادر لا يعرفه إلا الشعراء الحقيقيون.
ربما كان السبب وراء ذلك، “واقعيًا” كأن يكون نابعًا من إعجابها بلغة التعبير في الكتب المقدّسة. وقد يكون سببًا لغويًا، كما في نظرتها إلى اللغة: “صدقًا أحب اللغة، لما قدّمته لنا، كيف أتاحت لنا شرح الأمل والمجد، الاختلافات الرفيعة وهشاشة وجودنا، ثم أتاحت لنا الضحك، وأن نظهر فطنتنا”. لا تفسير لامتزاج الموهبة بالدأب أصلًا.
وقد لا يكون من سبب، لكل ذلك المزيج المرهف والقوي؛ يتخمّر في سنوات الطفولة، يطلّ برأسه في عمر مبكّر، يشعل الخطرُ شرارَته، وبكلمات بسيطة يدخل إلى كل القلوب.
ضفة ثالثة
أنهضُ من جديد/ مايا أنجيلو
ربما تدوّن اسمي في التاريخ
بأكاذيبك المرّة، الملتوية،
ربما تمرّغني بالتراب
لكن مع ذلك، كما الغبار، سأنهض.
أتزعجك وقاحتي؟
لماذا يلفّكَ الغمّ؟
لأني أسير وكأني أمتلك آبار نفطٍ
تضخُّ في غرفة المعيشة.
تماماً مثل الأقمار ومثل الشموس،
بثقة المدّ والجزْر،
تماماً مثل الآمال تنبثق عالياً،
سأنهض من جديد.
أتريد أن تراني محطَّمةً؟
مطأطأةَ الرأس كسيرةَ العينين؟
منهارةَ الكتفين كقطرات الدمع.
وقد أنهكني بكائي الحنون.
هل يهينك كبريائي؟
لا تأخذها على محمل الجد
لأنني أضحك وكأني أمتلك مناجم ذهبٍ
مطمورة في حديقتي الخلفية.
ربما تُطلق عليَّ كلماتك،
ربما تجرحني بعينيك،
ربما تقتلني بكراهيتك،
مع ذلك، كالهواء، سأنهض.
هل تزعجك جاذبيتي الجنسية؟
أتراها تأتي بغتةً
إذ أرقصُ وكأني أمتلكُ ماساً
عند التقاء فخذيّ؟
من أكواخِ عار التاريخ
أنهض
عالياً من ماضٍ شرّشَ في الآلام
أنهض
أنا محيط أسود، جيّاشةٌ وفسيحة،
دفّاقة وحبلى ألِدُ في المدّ والجزر.
تاركةً ورائي ليالي الخوف والرعب
أنهض
آتية بالهدايا التي أعطاها الأسلاف،
أنا حلم وأملُ الـمُسْتَرَقِّين.
أنهض
وأنهض
وأنهض.
مسّني ملاك
نحن، الغرباء عن الشجاعة
منفيّون من المسرّة
نسكنُ متكوِّرين في قواقع العزلة
إلى أن يغادرَ الحبُّ معبدَه القدسيّ العالي
ويأتي ليصبح في مرمى أنظارنا
ليُطْلِقَنا إلى الحياة.
يصلُ الحبُّ
وفي قطاره تأتي النشواتُ
ذكرياتُ المتعِ الآفلة
وتواريخ الوجع العتيقة.
ومع أننا جسورون،
يحطّمُ الحب أغلالَ الخوف
الذي كبّل أرواحنا.
نحن مفطومون عن ترددنا وجبننا
في النضرة الآتية من وهج الحبّ
نُقْدِم على الاستبسال
ثم سرعان ما نجد
أنّ الحبَّ يكلِّف كلَّ ما نحن عليه
وما سنكونه.
رغم أنه ليس أكثر من الحب
الذي يُطْلِقنا أحرارا.
لا تَنَازُل
حبيبي،
في أية حيواتٍ أو برارٍ
عرفتُ شفتيك
ويديك
وضحكك الجريء
الماجن.
انغماساتك التي
أحبها حتى العبادة.
ما الذي يضمن
أننا سنلتقي من جديد،
في عوالمَ أخرى
ذات زمن آتٍ غير منظور.
أغالِبُ توقَ جسدي.
ومن دون الوعدِ
بلقاء عذبٍ آخر
لن أتنازلَ وأقبَلَ بالموت.
مؤرَّق
يحدث في بعض الليالي أن
يمثّل النومُ دورَ الحييّ
والمنعزل والمترفِّع.
وكلّ الأحابيل
التي أوظفها كي أحظى
بجدواها إلى جانبي
تبوء بالفشل كما الكبرياء الجريح،
وما هو أكثر إيلاماً.
المترجم: ترجمة أحمد م. الأحمد
ضفة ثالثة