ما الذي بقي من «ثورة روج آفا»؟/ بكر صدقي
بين كرد تركيا، وبخاصة لدى الحاضنة الاجتماعية ـ الثقافية لحزب العمال الكردستاني، كانت هناك حماسة جارفة لما أسموه بـ«ثورة روج آفا» تذكِّر بحماسة اليسار العالمي للثورة الكوبية أو المقاومة الفيتنامية. والمقصود بها هو سلطة الأمر الواقع لحزب الاتحاد الديمقراطي وجناحيه العسكريين «وحدات حماية الشعب» و«وحدات حماية المرأة»، التي أقيمت، في المناطق ذات الغالبية الكردية شمال سوريا وشمالها الشرقي، في أعقاب انسحاب النظام الطوعي من عفرين وكوباني، وبقائه في جيوب أمنية محدودة في القامشلي ومدن أخرى في منطقة الجزيرة.
سادت تلك الأجواء الرومانسية، أيام حصار كوباني (خريف 2015) من قبل مقاتلي تنظيم داعش، والمقاومة الطويلة التي أدت إلى تحرير البلدة منهم، بعدما أحالها القصف إلى خرابة. يمكن القول، بلا مبالغة، إن الإدارة الذاتية التي أقامها الفرع السوري للكردستاني، في مناطق سيطرته الميدانية، ومقاومة كوباني، شكلتا محور الدعاوة الإيديولوجية لحزب العمال الكردستاني وواجهته السياسية، حزب الشعوب الديمقراطي، في البيئة الاجتماعية الكردية في تركيا. فأطلقت الأغاني وأقيمت المهرجانات الشعبية في أجواء احتفالية.
فكما شكلت الإدارة الذاتية في «روج آفا» النموذج العملي «الناجح» للفكرة التي اقترحها عبد الله أوجالان، نظرياً، من أجل المناطق الكردية في تركيا، ألهمت مقاومة كوباني الشبان الكرد الغاضبين، في جنوب شرق الأناضول، الذين حفروا الخنادق وأقاموا نقاط تفتيش متحركة، في مواجهة القوات الحكومية التي هاجمت المدن الكردية ودمرتها، في الحرب الداخلية التي استمرت عاماً كاملاً. بل إن بعض البلديات المحسوبة على الحزب الكردي قد أعلنت عن إقامة إدارتها الذاتية. وهي خطوات دفع كرد تركيا ثمنها غالياً، قتلى ونازحين واعتقالات طاولت نوابهم في البرلمان.
لا يغير من هذا الواقع أن الحكم التركي الذي اتخذ من تلك الخطوات «الانفصالية» ذريعة لشن حرب تأديبية على أهالي المنطقة الكرد، كان قد عقد العزم، منذ أشهر، على قلب الطاولة على شريكه المفترض في الحل السلمي، حزب الشعوب الديمقراطي، وقلبها فعلاً في أعقاب انخفاض نسبة التصويت للحزب الحاكم في انتخابات حزيران 2015، ودخول الحزب السياسي الكردي البرلمان، للمرة الأولى، بنحو 80 نائباً باتوا كالشوكة في حلق الحكومة.
بعد تلك التطورات المأسوية تراجعت الحماسة الكردية لـ«ثورة روج آفا» في تركيا، وحل محلها شعور بالإحباط، عبر عن نفسه في تململ متصاعد من تركيز الاهتمام السابق على كوباني وروج آفا على حساب المشكلات الداخلية لكرد تركيا في مواجهة الحكومة التي ازدادت تشدداً وشوفينية باطراد، وتحالفت مع الحزب القومي المتشدد لتطبق أجندته.
وهكذا تفاقمت هذه الديناميات وصولاً إلى عملية غزو عفرين ـ درة تاج «ثورة روج آفا» ـ من قبل الجيش التركي وحلفائه من الفصائل الإسلامية السورية التي تشكلت في الأصل لتقويض نظام الأسد، ثم تحولت إلى محاربة الكرد، تاركة مواقعها على جبهات القتال في إدلب وريف حلب الشمالي لتلتحق بالجيش التركي في غزوته العفرينية.
الواقع أن الدعوات الرومانسية الصاخبة بشأن ثورة مزعومة قوامها وأساسها انسحاب طوعي للنظام الكيماوي من المناطق الكردية، ليتفرغ لتدمير المناطق الخارجة عن سيطرته، لم تنطل على كرد سوريا في يوم من الأيام، بل تعاملوا مع الحزب ووحداته العسكرية كسلطة أمر واقع فرضت عليهم من غير أخذ رأيهم. لا يقلل من ذلك أن الحزب يتمتع بنفوذ شعبي واسع، ويتم الالتفاف حوله حين تتعرض المناطق الكردية لهجوم من خارجها، بوصفه القوة الوحيدة المؤهلة لحمايتها. ففي وجه آخر لهذا النفوذ نرى الخدمات التمييزية التي يقدمها الحزب لمن يناصرونه، حباً أو نفاقاً، على منهج حزب الله مع قاعدته الاجتماعية الشيعية في لبنان، في وقت تسود فيه الندرة في السلع والخدمات في كل المناطق السورية، وتحتكر سلطة الأمر الواقع النفاذ إلى الموارد الحيوية كالحبوب والمشتقات النفطية وغيرها. ولا يمكن، بأي حال، تصور رضى الأهالي عن تجنيد أبنائهم إجبارياً في صفوف وحدات الحماية لزجهم في حروب لا تعنيهم ولم يستشاروا بشأنها، أو مصادرة أملاكهم إذا غادروا المنطقة اضطراراً، أو فرض الرسوم والأتاوات على الأهالي، دع عنك معاناة الأحزاب الكردية غير الموالية لسلطة الأمر الواقع التي تعرضت لاضطهاد هذه الأخيرة طوال السنوات السابقة، وفرضت عليها سلطة الأمر الواقع الحصول على تراخيص لمزاولة أنشطتها.
في غضون ذلك اغتر الاتحاد الديمقراطي بتحالفه مع الأمريكيين وعلاقاته الطيبة مع الروس، القوتين الدوليتين الأبرز في السيطرة على أشلاء سوريا السابقة، فتمادى في تقدير قوته الذاتية، ووسع مناطق سيطرته لتشمل قرى ومدنا ذات غالبية عربية، أو عربية بالكامل كحال تل رفعت مثلاً في ريف حلب الشمالي، وطرد سكان بعضها ووضع سكان بعضها الآخر تحت سلطة احتلال بلغت به الوقاحة أن فرض اللغة الكردية على مدارسها، كأنه يريد الثأر لفرض اللغة العربية على السكان الكرد طوال تاريخ سوريا الحديث. فاستعدى العرب على الكرد، وخلق شرخاً يصعب ترميمه بين الجيران. إلى درجة أن بيئات عربية كاملة شمتت بالغزو التركي لعفرين وهللت لما يسمى بالجيش الحر الملتحق بالجيش التركي، في سابقة تؤسس لأحقاد اجتماعية جديدة.
على رغم المقاومة التي واجهت الغزو التركي، في الفترة الأولى، يبدو أن الكفة بدأت تميل، ميدانياً، لمصلحة الغازي التركي. صحيح أن التوازنات الدولية الهشة في سوريا، والتجاذب الأمريكي ـ الروسي، قد لا يسمح بابتلاع تركيا لمنطقة عفرين، على المدى البعيد، لكن أنقرة ستخرج على الأقل بشريط حدودي لمصلحة «أمنها القومي» المزعوم، وستتفهم حليفتاها واشنطن وموسكو ـ «هواجسها الأمنية».
وذهبت أدراج الرياح محاولة «الاتحاد الديمقراطي» استدراج النظام الكيماوي لنجدتها في عفرين، بوضع قواته في مواجهة الجيش التركي. فقد فضل النظام، وبدفع من إيران، إرسال ميليشيات شيعية لم تتردد أنقرة في قصفها. لتصبح المناطحة إيرانية ـ تركية بلا توسطات.
ما زالت معركة عفرين مستمرة، ولا يمكن التكهن بمآلاتها. لكن حلم كرد تركيا المتمثل في «ثورة روج آفا» انتهى قبل الأوان. أما كرد سوريا فلا صديق لهم غير الجبال، على ما تقول مأثوراتهم القديمة.
٭ كاتب سوري
القدس العربي