ما الذي حدث و يحدث في الرقة –مقالات مختارة-
مصير معتقلي الرقة غامض/ لبنى سالم
فتحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) المدعومة من التحالف الدولي على الرقة، عاصمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ملف المغيبين في سجون التنظيم أو الذين خطفهم عناصره. يبلغ عدد هؤلاء 7419 معتقلاً ومغيباً من مختلف مناطق سورية وفقاً لتقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، من بينهم 2500 معتقل من أبناء الرقة وفق ناشطين من المدينة.
ضمت الرقة أكبر سجون ومقرات التعذيب التابعة للتنظيم، والتي بلغ عددها 8 سجون على أقل تقدير، بالإضافة إلى المعتقلات السرية التي كانت منتشرة في شقق سكنية عادية، إلا أن تخليصها من “داعش” لم يرافقه الكشف عن أيّ معلومات عن مصير المعتقلين في هذه السجون أو عن السجلات التي وجدت فيها.
منذ نحو أربع سنوات، تبدأ فاتن عجان (إعلامية) معظم أيامها على شبكة الإنترنت، وتنهيها كذلك، منذ ذلك الحين تحولت قضية اعتقال ابنها المصور عبود حداد مع طاقم تلفزيون “أورينت” على يد تنظيم “داعش” إلى قضية حياتها. تتحدث عن هواجسها لـ”العربي الجديد”: “أعيش حالة انتظار، أشبه بالموت البطيء، أمضي أيامي بالخوف والألم المتداخل مع الأمل. أخاف على عبودة من حالة الخوف والرعب التي يعشيها مع رفاقه، أفكر كيف ينقل من سجن إلى آخر، هل كان مقيد اليدين والرجلين؟ هل هو جائع الآن؟ هل يصبر على خوفه ووجعه؟ هل لديه أمل بالخروج من هذا الكابوس؟ هل يفكر بي؟ هل يبكي يومياً كما أفعل؟”. تضيف: “حتى في يوم اعتقاله كان يعاني من ألم الشقيقة، كثيراً ما أتساءل إن كانت نوبات الشقيقة ما زالت تصيبه حتى اليوم، أو أتخيل ما يمكن أن يفعل في هذه اللحظات. من الصعب جداً طرد هذه الأفكار، تبقى تفكر فيها في كلّ لحظة، واللحظة عندي دهر من الوجع والألم”.
تتابع: “لم أعلق آمالاً كبيرة على تحرير الرقة، فمن وجهة نظري احتمال وجودهم في سجون الرقة ضعيف، والتواصل مع منظمات حقوق الإنسان لم يأتِ بشيء حتى الآن، حتى فصائل الجيش الحر لم تستطع أن تتوصل إلى اتفاق تبادل أسرى مع التنظيم. مع ذلك، حياتي كلّها متعلقة بقضية عبود، لن أفقد الأمل أبداً وسأتابع مسيرة البحث عنه”.
أما أبو علي وهو من أبناء مدينة الرقة ووالد سامح أحد المعتقلين في سجون “داعش” فيعبر عن خيبة أمله لعدم إحراز أي تقدم في مصير المعتقلين. يقول: “كنت أعد الأيام لنعود إلى الرقة، ولإعلان السيطرة عليها والقضاء على داعش، ليس لأنّي مع قسد ولا من أجل بيتي الذي نزحت منه ولا محلي التجاري ولا لشيء أملكه، كنت آمل فقط أن نعرف أيّ شيء على سامح، لكنّ كلّ آمالي ذهبت سدى، قالوا لنا إنّ السجون فارغة ولا معلومات عن المسجونين، لكن أليسوا بشراً كيف اختفوا هكذا؟ ما الذي فعلوه بهم؟ هل جرت تصفيتهم؟ أم قتلوا بالقصف؟ لا أحد يملك الإجابة أو يهتم بمصير ابني وغيره من المعتقلين”. يضيف: “كلّ ما نريده هو أن نعرف مصيره على الأقل. منذ سنتين تحولت حياتنا إلى كابوس طويل، كبرت خلالها 10 سنوات. نزحنا وخسرنا المال وخسرنا بيتنا لكن لم يكسرنا شيء إلا اختفاء سامح”.
من جانبه، يؤكد إبراهيم مسلم، الممثل السابق للإدارة الذاتية الديمقراطية للشؤون الإنسانية في تركيا لـ”العربي الجديد” أنّ “ملف المعتقلين من أهم الملفات. لديّ أصدقاء وأقارب من ضمنهم. المعتقلون من الكرد والعرب والتركمان وغيرهم، وعلى رأسهم أعضاء من المجلس المحلي للرقة المؤسس في نهاية 2012، كالمهندس عبد الله الخليل وأحمد مشو وإبراهيم الغازي والدكتور إسماعيل الحامض، وعدد كبير من الناشطين الإعلاميين والمدنيين والمقاتلين في الجيش الحر. أؤكد لكم أنّ القيادة في قوات سورية الديمقراطية حريصة كلّ الحرص على مصير المعتقلين وتسعى بكلّ الوسائل الممكنة للوصول إليهم، كخطوة تالية لتحرير أهلنا من هذا التنظيم الإرهابي المجرم”.
حملات أهلية
أطلق عدد من الناشطين وأهالي المغيبين السوريين في سجون “داعش” حملتي “أين مختطفو داعش؟” و”أين هم؟” للكشف عن مصير أبنائهم. يقول عمر هويدي، وهو من مؤسسي الحملة الأولى، لـ”العربي الجديد”: “أحد أهداف الحملة الضغط على قسد لكشف مصير المعتقلين من خلال الوثائق التي وضعوا يدهم عليها في سجون ومقرات داعش، ومطالبتهم بالكشف عن نتائج التحقيقات مع أسرى التنظيم”.
العربي الجديد
ألغام تحول دون عودة نازحي الرقة/ علي العائد
قال عنصر في قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لأحد المدنيين، ردا على سؤال إن كانوا نزعوا الألغام من الأراضي المحاذية لقناة الري في قرية كُبش، شمال غربي الرقة “إمشي وجرب.. إزا طقيت أصبح في ألغام.. ما في غير هالطريقة.. نحنا مو فاضين ندور ألغام” (موقع معهد العالم للدراسات سبتمبر 2017).
ويقول إعلام قوات سوريا الديمقراطية إن عدد الألغام التي زرعها داعش في الرقة ومحيطها يناهز ثمانية آلاف لغم، دون تفسير كيفية الوصول إلى هذا التقدير، وإن كان ذلك نتيجة التحقيق مع عناصر داعش السوريين الذين استسلموا لقسد، أو بمسح أولي أجراه خبراء بمساعدة الأجهزة الخاصة بالألغام.
في هذا الوقت، نشأت مهنة جديدة في الرقة، من خلال توافر خبراء كشف ألغام بواسطة أجهزة، حيث يمكنك الاستعانة بالخبير للكشف عن وجود ألغام في مدخل بيتك، إذا كان لا يزال البيت قائما، وفي مقابل 250 ألف ليرة سورية (حوالي 500 دولار) يمكن للخبير تأمين البيت من انفجار يقضي على ما تبقى منه. بالطبع، تمر هذه العملية من تحت الطاولة، بعملية فساد منظمة في “غفلة” من سلطة الأمر الواقع على الأرض.
أكثر من ذلك، تستطيع الوصول إلى عنصر نافذ في قوات سوريا الديمقراطية مقابل مبالغ يتفق عليها لإنقاذ بضاعتك إذا كنت تاجرا هربت بأرواح عائلتك عندما اشتد القصف على المدينة.
مع ذلك، لا تُعد الألغام وقصصها الهمّ الوحيد الذي يعاني منه الآن نازحو الرقة، فتقديرات حجم التدمير في المدينة التي سمع عنها النازحون، والضخ المستمر للصور التي يشاهدونها يوميا، خففا من حجم الصدمة التي سيشعرون بها عند عودتهم لمشاهدة بيوتهم المدمرة، حتى لو كانت الرؤية عيانا لبيتك المدمر مختلفة عما قد تقوله الصور الصماء، ففي لحظة معاينة الدمار سيمر شريط من الذكريات عمره سنوات، أو العشرات من السنوات، فيها من الأفكار والمشاعر ما لا يمكن مقارنته بأرقام إعادة المكونات المادية للبيت، إن كان في مقدور أحد إعادته إلى ما كان عليه.
إحدى المعضلات التي يمكن تجاوزها هي إعادة البناء، لأن هنالك أفرادا يملكون المال اللازم لإعادة بناء بيوتهم، لكن من الصعب تصور إعادة تركيب التفاصيل الجديدة للبيت لتتطابق مع مخزون الذاكرة المستعادة. تماما مثلما يتعذر استخدام مفاتيح البيت التي يحملها النازحون كمتاع للعودة، لتتحول تلك المفاتيح إلى مجرد رمز مشابه، أو مطابق، لمفاتيح بيوت الفلسطينيين الذين أُجبروا على ترك بيوتهم، نازحين ولاجئين.
قدرة الأميركي الآن تقتصر على إصلاح شبكة الكهرباء، لكن دون وعد بإعادة سريان الكهرباء. ولحسن الحظ أن الفرات قريب من الرقة، ولا تزال مياهه تتدفق. أما مسألة تنظيف الشوارع من أنقاض البيوت المدمرة فعملية أكثر صعوبة كونها تكلف مالا كثيرا، وتحتاج إلى وقت طويل لنقل أنقاض ما يصل إلى 50 ألف بيت (بافتراض أن عدد سكان المدينة 500 ألف نسمة وأن متوسط عدد أفراد الأسرة خمسة أشخاص، وأن نسبة التدمير الكامل هي 50 في المئة فقط). وجاء في تصريحات شبه رسمية أن قسد تنصلت من القيام بهذه العملية، كون مهمتها انتهت بـ”تحرير المدينة”. وهذا يعكس المزاج الأميركي الذي تهرب صراحة من أي وعد بتحمل تكلفة إعادة إعمار المدينة.
أكثر من ذلك، نقل إليّ مصدر موثوق أن شابا أميركيا صانعا للسياسات الأميركية عمره 25 سنة تقريبا، ومتواجد بين عين العرب – كوباني والرقة منذ ثلاثة شهور، أبدى، خلال لقاء في إسطنبول في آخر أكتوبر الماضي، موافقته على التعاون مع نظام الأسد بشكل مباشر، أو غير مباشر، لإعادة مظاهر الحياة المدنية إلى الرقة، بإرسال الأموال والموظفين وورش إصلاح شبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي، كون ذلك يخفف العبء الإداري والمالي عن الأميركان، دون أن يقول صراحة إن كان موافقا، مع دولته، على إعادة تسليم المدينة للنظام.
لكن صانع السياسات هذا لم يستطع الإجابة على سؤال إن كان سيسمح للنظام بإعادة تمكين الجهاز القضائي الذي يعمل بالقانون السوري إلى المدينة، خاصة أن إعادة الإعمار تحتاج إلى شعبة قضائية كاملة للفصل بين خلافات النازحين الذين زالت بيوتهم ويحتاجون إلى إعادة تثبيت ملكياتهم في أراض تحتاج إلى تخطيط وفرز جديدين.
إذا، فدون عودة النازحين عقبات مرحلية، أولها الألغام و”الشركات الخاصة المختصة بنزع الألغام”، ثم “التعفيش” (مصطلح بطلقه السوريون للدلالة على حالة النهب والتخريب التي تطال البيوت من قبل قوات مسلحة نظامية أو معارضة التي تسيطر على منطقة ما). أما العقبة الأسهل فهي إعادة الكهرباء والماء وصيانة شبكة الصرف الصحي وإصلاحها، بافتراض توافر الأموال والآليات اللازمة لتسهيل عمليات إزالة الأنقاض.
الأكثر إلحاحا الآن هو العودة المستحيلة للنازحين الذين فقدوا بيوتهم تماما، حتى إذا كان بعضهم، وهم قلة، يمتلكون المال لإعادة بناء بيوتهم. وهؤلاء لا يقل عددهم، نظريا، عن 250 ألف نسمة.
نقول نظريا، لأن عددا كبيرا منهم لا يقل عن 350 ألف مدني لجأوا مبكرا إلى تركيا القريبة، أو نزحوا إلى مدن الداخل في مراحل متتابعة من حكم داعش، ما يعني أن الذين نزحوا في الشهور الأخيرة في اتجاه ريف الرقة الشمالي خاصة، يناهز 150 ألف نسمة، وهؤلاء هم المعنيون بالعودة السريعة إلى المدينة، أو المضطرون للعودة في الحقيقة.
أما آخر صور المضحك المبكي الذي يعانيه نازحون في أرياف الرقة، وخاصة في قرى تل أبيض، التي خضعت منذ أكثر من عامين لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، فهو السكن في بيوت خالية لجأ أصحابها إلى تركيا، كون هذه البيوت أصبحت تحت سلطة تلك الوحدات، ولا يستطيع النازح السكن في أحدها، حتى لو كان المنزل لأخيه، أو قريبه، إلا بموافقة “أمنية” من سلطة الإدارة الذاتية، ما يعني إعادة التذكير بنظام الكفيل الأمني التي ابتدعها الأكراد في مدينة تل أبيض التابعة لمقاطعة كوباني.
كاتب سوري
العرب
“سر الرقة القذر”.. “بي بي سي” تكشف فضيحة صفقة لإخراج آلاف من مقاتلي “تنظيم الدولة” وعائلاتهم من المدينة السورية برعاية أمريكا و”قسد”
كشف تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، ونشرته أول أمس، عن صفقة أدت إلى خروج مئات مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية” مع عائلاتهم من الرقة – التي كان التنظيم يعتبرها عاصمته – قبل أن يخسرها بشكل كامل في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2017.
وبَنَت “بي بي سي” تحقيقها الذي عنونته بـ“سر الرقة القذر” على شهادات جمعتها من سائقي شاحنات وحافلات نقلوا بأنفسهم المئات من مقاتلي “تنظيم الدولة” مع عائلاتهم، بعلم من التحالف الدولي بقيادة أمريكا، وميليشيات قوات “سوريا الديمقراطية”. وأكدت “بي بي سي” إنها تحدثت أيضاً إلى أشخاص إما كانوا على متن القافلة، أو شاهدوها، بالإضافة إلى رجال دخلوا في مفاوضات لإتمام الصفقة مع “تنظيم الدولة”.
و أبرزت “بي بي سي” قصة “أبو فوزي” وهو سائق إحدى الحافلات التي أقلت مقاتلين من التنظيم عندما كانت المعارك بالرقة في مرحلتها النهائية، الذي قال إن قوات “سوريا الديمقراطية” أرادت منه قيادة قافلة لنقل المئات من مقاتلي “تنظيم الدولة” من مدينة الطبقة التي كانت تشهد قتالاً.
وظن أبو فوزي أن مهمته سيتم إنجازها خلال 6 ساعات على أكثر تقدير، لكنه عندما بدأ مع سائقين آخرين بتجميع القافلة في تاريخ 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2017 عرفوا أنهم خُدعوا، لأن مهمتهم ستستمر لثلاثة أيام من القيادة الشاقة، فضلاً عن أنهم حمّلوا في شاحناتهم كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، بالإضافة إلى مقاتلي التنظيم.
دور أمريكا و بريطانيا “قسد”
وأشار السائق الذي تحدث لـ”بي بي سي” أنه وبقية السائقين تلقوا وعوداً بالحصول على آلاف الدولارات مقابل قيامهم بالمهمة، شرط أن ينجزوها بشكل سري، لكن بسبب خِداعهم وعدم حصولهم على الأموال بعد إتمامهم المهمة التي كانت بغاية الخطورة، قرر التحدث و كشف السر، فيما أشار السائقون إلى أن أضراراً لحقت بشاحناتهم خلال تحرك القافلة بسبب الحمولات الزائدة، خصوصاً من الذخيرة والأسلحة التي حملوا أطناناً منها.
وكشف التحقيق أن الصفقة مع مقاتلي “تنظيم الدولة” جاءت بعد أربعة أشهر من القتال في الرقة، وأنه تم إنجازها مع وجهاء محليين، وأشار إلى أن كلاً من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وقوات “سوريا الديمقراطية” رفضت الاعتراف بدورها في الصفقة.
ويروي أبو فوزي تفاصيل عن المهمة الخطرة التي قام بها رفقة بقية السائقين، وقال: “لقد كنا خائفين منذ اللحظة التي دخلنا فيها إلى الرقة، وكنا نتوقع أن ندخلها برفقة مقاتلين قوات سوريا الديمقراطية، لكننا ذهبنا لوحدنا”، مشيراً أنه بعدما دخلوا المدينة شاهدوا مقاتلي “تنظيم الدولة” مع أسلحتهم وأحزمتهم الناسفة”.
خطوة جنونية قام بها مقاتلو “تنظيم الدولة” قبل تحرك القوافل، فبحسب “أبو فوزي” فخخ مقاتلو التنظيم الشاحنات التي كانت ستنقلهم، وقال إنه “في حال حدوث أي خطأ خلال تطبيق الصفقة، كانوا سيفجرون القافلة”، مشيراً أنه حتى النساء والأطفال كانوا يرتدون أحزمة ناسفة.
ويلفت التحقيق إلى أن قوات “سوريا الديمقراطية” قالت في وقت سابق أنه سيُسمح للعشرات من مقاتلي التنظيم في الرقة بالمغادرة، وادعت أنهم من السكان المحليين، لكن سائق إحدى الشاحنات قال لـ بي بي سي”: “إن ذلك لم يكن صحيحاً”. وأضاف: “أخذنا حوالي 4 آلاف شخص، بينهم نساء وأطفال، وعندما دخلنا الرقة اعتقدنا أننا سنأخذ 200 شخص، ولكن في شاحنتني فقط نقلت 112 شخصاً”.
وأكد السائقون المشاركون في نقل مقاتلي “تنظيم الدولة” أن مقاتلين أجانب هم أيضاً خرجوا مع القوافل، وكشف التحقيق أن هؤلاء المقاتلين ينحدرون من بلدان مختلفة، بينها فرنسا، وتركيا، وأذربيجان، وباكستان، واليمن، والسعودية، وتونس، ومصر”.
وبحسب السائق أبو فوزي، فإن “فإن 3 إلى 4 من المقاتلين الأجانب كانوا برفقة كل سائق شاحنة، وقال إنهم ضربوه ونعتوه بأسماء من قبيل كافر، وخنزير”، في حين كشف سائقون آخرون أن القافلة كان يبلغ طولها 6 – 7 كيلومترات، وأنها تألفت من 50 شاحنة، و13 حافلة، وأكثر من 100 سيارة تابعة لمقاتلي “تنظيم الدولة”.
ونشرت “بي بي سي” في تحقيقها مقطع فيديو، أظهر شاحنات تقل مسلحين وعائلاتهم من مدينة الرقة، في حين أن شخصاً كان فيما يبدو بجانب المصور، وكان يقول إن القافلة تتجه نحو مدينة الميادين في دير الزور شرق سوريا.
اعتقال “أبوحذيفة” رئيس مخابرات “الدولة”
وكان من أبرز الشخصيات التي غادرت مع القافلة، “أبو مصعب حذيفة”، وكان يتبوأ منصب رئيس المخابرات لدى “تنظيم الدولة”، لكنه الآن أصبح وراء القضبان على الحدود السورية التركية بعد اعتقاله. وكان “أبو مصعب حذيفة” حاول الفرار الى تركيا مع أخرين، لكنه تعرض لخديعة من مهربين. و قد ازدهرت تجارة التهريب مع استعداد عناصر “الدولة” لدفع آلاف الدولارات للهروب هم وعائلاتهم.
وتحدث “أبو حذيفة” عن ضراوة القصف الذي تعرضت له الرقة، وقال إنه خلال 10 ساعات من القصف المتواصل، قُتل ما بين 500 إلى 600 شخص من مقاتلين وآخرين من عائلاتهم.
وأشار إلى أن المفاوضات لخروج مقاتلي “تنظيم الدولة” من الرقة بدأ يوم 10 أكتوبر/ تشرين الثاني 2017، وأضاف أنه بعد القصف العنيف فإن الأشخاص الذين رفضوا في البداية الهدنة، عدلوا عن موقفهم ووافقوا على الخروج من الرقة.
وبين التحقيق أنه بعدما غادرت القوافل للرقة، مرت عبر حقول القطن والقمح، وأن القافلة بعدما خرجت من طريق رئيسي، دخلت في الصحراء، ليجد السائقون أنفسهم أمام مهمة صعبة في قيادة شاحناتهم.
ووفقاً لـ”بي بي سي”، فإنه في “ضوء التحقيق الذي أجرته، اعترف التحالف بالجزء الذي لعبه في الصفقة، وأنه تم السماح لـ 250 عنصراً من داعش بالخروج من الرقة مع 3500 فرداً من عائلاتهم”.
تهديدات بهجمات إرهابية في أوروبا
ونقل التحقيق عن الناطق باسم التحالف الدولي لمحاربة “الدولة” الذي تقوده واشنطن ريان ديلون، قوله: “لم نكن نريد أن يغادر أحد”، لكن هذا يكمن في قلب استراتيجيتنا، السوريون هم الذين يقاتلون ويموتون، هم يتخذون القرارات المتعلقة بالعمليات”.
وحذر التحقيق مما وصفها بـ”الصفقة القذرة”، وقال إنها تهدد العالم، حيث سُمح لمقاتلي “تنظيم الدولة” في الانتشار داخل سوريا وخارجها، ونقل ان كثيرا من مقاتلي التنظيم الأجانب توعدوا بالقيام بعمليات إرهابية في أوروبا، ونقلت عن شاب فرنسي اسمه أبوبصير الفرنسي
القدس العربي”
<iframe width=”640″ height=”360″ src=”https://www.youtube.com/embed/4yZciIuFWN0″ frameborder=”0″ gesture=”media” allowfullscreen></iframe>
سر الرقة القذر:كيف جرى تهريب الدواعش؟
كشفت شبكة “BBC” تفاصيل عن صفقة سرية سمحت بهروب مئات من مقاتلي “الدولة الإسلامية” وعائلاتهم من الرقة، تحت أنظار “التحالف الدولي” بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، والقوات الكردية التي تسيطر على المدينة. وضمّت القافلة بعض أسوأ مقاتلي “داعش” سمعة، رغم إعادة التأكد،و العشرات من المقاتلين الأجانب. بعض هؤلاء انتشروا عبر سوريا، وبعضهم وصل إلى تركيا.
“المدن” كانت قد تفردت بنشر تفاصيل المفاوضات التي جرت، قبل تسليم مدينة الرقة. وقال مراسل “المدن” عبدالقادر ليلا، حينها، إن المفاوضات استمرت لأيام، وسط تصعيد من الطرفين، حتى وصلت إلى نتيجتها الختامية بالسماح لمقاتلي “داعش” المتبقين، وعائلاتهم بالهرب من الرقة.
وكتبت “BBC” إن سائق الشاحنة أبو فواز، ظن أنها ستكون مجرد مهمة عمل أخرى. ويقود أبو فواز شاحنة بـ18 إطاراً، عبر بعض أخطر المناطق شمالي سوريا. جسور مدمرة، رمل الصحاري، وحتى قوات النظام ومقاتلو “الدولة الإسلامية” لا يعترضون درب سيارات توصيل البضائع.
هذه المرة، كانت حمولة أبو فواز، من البشر. “قوات سوريا الديموقراطية” أرادت منه قيادة قافلة ستأخذ مئات العائلات النازحة من القتال من بلدة الطبقة على نهر الفرات إلى مخيم في الشمال.
المهمة قد تستغرق 6 ساعات، كحد أقصى، على الأقل هكذا قالوا له.
ولكن عندما جمّع أبو فواز وزملاؤه، قافلتهم، في 12 تشرين الأول، أدركوا أنهم تعرضوا للخديعة.
فالرحلة ستتطلب قيادة صعبة لثلاثة أيام، والحمولة قاتلة: المئات من مقاتلي “داعش” وعائلاتهم، وأطنان من الأسلحة والذخيرة.
ووُعِدَ أبو فواز، والسائقين الآخرين، بآلاف الدولارات على هذه المهمة، بشرط أن تبقى سرية.
وعُقدت صفقة السماح بهروب مقاتلي “داعش” من الرقة، عبر مسؤولين محليين. وجاءت بعد 4 شهور من القتال دمرت المدينة وأخلتها تقريباً من السكان. الصفقة ستحفظ الأرواح وتوقف القتال. أرواح العرب والأكراد ومقاتلين آخرين يعارضون “داعش”، سيتم الحفاظ عليها.
ولكنها أيضاً ستمكّن المئات من مقاتلي “داعش” من الهرب من المدينة. في ذلك الوقت، لا “التحالف الدولي” بقيادة أميركا وبريطانيا، ولا “قسد” المدعومة منه، أرادوا الاعتراف بدورهم في الصفقة.
هل الصفقة، التي اعتبرت سرّ الرقة القذر، أطلقت خطراً إلى العالم الخارجي، بعدما مكّنت مقاتلي المليشيات من الانتشار بعيداً وعميقاً في سوريا، وما خلفها؟
لكن “BBC” تكلمت مع عشرات الأشخاص ممن كانوا في القافلة، أو ممن راقبوها، ومع رجال فاوضوا من أجل اتمام الصفقة.
في ساحة تشحيم في الطبقة، تحت أشجار النخيل، 3 صبيان مشغولين في إعادة تركيب محرك الشاحنة. زيت المحرك يغطّيهم، ويجعل من شعرهم الأسود المزيّت واقفاً.
بالقرب منهم مجموعة من السائقين. أبو فواز في المنتصف، يبدو غريباً بجاكيته الأحمر الفاقع. لون يتوافق مع لون شاحنته الحبيبة ذات الإطارات الـ18. ويبدو بوضوح أنه قائد القافلة، يُسرع بعرض الشاي والسجائر. في البداية قال إنه لا يريد الحديث، ولكنه سرعان ما غيّر تفكيره.
أبو فواز وبقية السائقين غاضبون. فلقد مرّ أسبوع منذ خاطروا بحياتهم في رحلة خرّبت المحركات وحطمت المحاور، ولكن أحداً لم يُحاسبهم بعد. لقد كانت رحلة إلى الجحيم، وعودة منها، كما قال.
لقد كنا مرعوبين منذ لحظة دخولنا الرقة، قال أبو فواز. “لقد كان مفترضاً بنا الذهاب إلى هناك برفقة قسد، ولكننا ذهبنا لوحدنا. وعندما دخلنا، شاهدنا مقاتلي داعش بأسلحتهم وأحزمتهم الناسفة. لقد فخخوا شاحناتنا. إذا ما حدث شيء خاطئ في الصفقة، سيفجرون كامل القافلة. حتى أولادهم ونساؤهم ارتدوا أحزمة ناسفة”.
القوات الكردية كانت قد أخلت الرقة من وسائل الإعلام. هروب “داعش” من الرقة لن يُتلفز.
في العلن، “قسد” قالت إن بضع عشرات من المقاتلين سيكون بإمكانهم المغادرة، جميعهم من السكان المحليين.
أحد سائقي الشاحنات قال إن ذلك ليس صحيحاً.
“لقد أخذنا حوالي 4000 شخص منهم نساء وأطفال، وترافقت عرباتنا وعرباتهم. عندما دخلنا الرقة ظننا أننا سنأخذ 200 شخص. في شاحنتي لوحدها، نقلت 112 شخصاً”.
سائق أخر قال إن طول القافلة بلغ 6 إلى 7 كيلومترات. وضمت على الأغلب 50 شاحنة، و13 حافلة، وأكثر من 100 عربة لمجموعات الدولة الإسلامية. بعض مقاتلي “داعش” بوجوههم المُلثّمة ركبوا أعلى بعض عرباتهم.
الصور التي أخذت بسرية ومُررّت لنا، أظهرت قاطرات شاحنات مكتظة بالرجال المسلحين. وعلى الرغم من الترتيبات ليأخذ مقاتلو “داعش” أسلحتهم الفردية فقط، فقد أخذوا كل شيء يقدرون على حمله. 10 شاحنات حُمّلت بالأسلحة والذخيرة.
السائقون أشاروا إلى شاحنة بيضاء يُعملُ عليها في زاوية الساحة. “لقد كُسر محورها بسبب وزن الذخيرة”، قال أبو فوزي.
لم يكن هذا إخلاءً تماماً، لقد كان خروجاً لما يسمى “الدولة الإسلامية”.
“قسد” لم ترد التقهقر من الرقة أن يظهر كهروب إلى النصر. لم يُسمح برفع أعلام أو رايات على القافلة عندما غادرت المدينة، كما نص الاتفاق.
لقد كان مفهوماً أيضاً أن لا أجانب مسموحاً لهم الخروج أحياءً من الرقة.
في أيار/مايو، وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس وصف القتال ضد “داعش” بحرف “الإفناء”. “نيتنا هي ألا يتمكن المقاتلون الأجانب من النجاة والعودة إلى ديارهم في شمال أفريقيا وأوروبا وأميركا وآسيا. لن نسمح لهم بفعل ذلك”، قال ذلك على التلفزيون الأميركي.
ولكن المقاتلين الأجانب، ممن ليسوا من سوريا والعراق، كانوا قادرين على الانضمام إلى القافلة، بحسب السائقين.
“لقد كان هناك عدد كبير من الأجانب. من فرنسا وتركيا وأذربيجان وباكستان واليمن والسعودية والصين وتونس ومصر..”.
بعض السائقين قدموا أسماء من قوميات مختلفة.
على ضوء تحقيق “BBC”، اعترف “التحالف” بالدور الذي لعبه في الصفقة. بحدود 350 مقاتلاً من “داعش” سُمحَ لهم بمغادرة الرقة، مع 3500 فرد من عائلاتهم.
“لم نرد من أحد أن يغادر”، بحسب الكولونيل رايان ديلون، الناطق باسم “عملية الحلّ المتأصل”، التحالف الدولي ضد “داعش”.
“ولكن هذا يذهب إلى قلب استراتيجيتنا، عبر ومن خلال القادة المحليين على الأرض. ذلك يعود إلى السوريين، فهم من يقاتل ويموت، ولهم اتخاذ القرارات بالنسبة لعملياتهم”، كما قال.
وبينما حضر ضباط أجانب في المفاوضات، فإنهم لم يأخذوا “دوراً فعالاً” في النقاش. وأشار الكولونيل ديلون، إلى أن 4 مقاتلين أجانب فقط قد غادروا، وهم الآن في الحجز لدى “قسد”.
عندما تغادر القافلة المدينة، ستعبر من خلال حقول القمح والقطن المروية بشكل جيد شمالي الرقة. القافلة غادرت الطريق الرئيسي وخرجت عبر طرق في الصحراء. الطرق كانت صعبة للشاحنات، لكنها أيضاً كانت أصعب للسائقين.
صديق لأبو فوزي، شمّر عن أكمامه، وتحتها كانت حروق على جلده، وقال: “انظر ماذا فعلوا هنا”.
بحسب أبو فوزي، هناك 3 أو 4 أجانب مع كل سائق. كانوا يضربون ويهينون السائقين بأسماء مثل “كافر” أو “خنزير”.
قد يُساعدون المقاتلين على الهرب، ولكن السائقين العرب كانوا قد تعرضوا لسوء المعاملة على كامل الطريق، وللتهديد.
“لقد قالوا: دعنا نعرف متى ستعيد بناء الرقة، حسنا سنعود ثانية”، قال أبو فوزي. “لقد كانوا لا يهابون، ولم يكترثوا. لقد اتهمونا بطردهم من الرقة”.
إمرأة مسلحة هددته ببندقية كلاشينكوف.
صاحب المتجر محمد، لم يتعرض للتخويف كثيراً.
لقد كانت الرابعة بعد الظهر عندما قادت قافلة “قسد” عبر بلدته شانين، وأخبرت السكان بضرورة إلتزام بيوتهم.
“لقد كنا هنا عندما توقفت آلية لقسد وقالت إنه اتفاق هدنة بينهم وبين داعش”، قال محمد: “أرادوا منا إخلاء المنطقة”.
ومحمد ليس معجباً بـ”داعش”، ولكن ليس بمقداره تفويت فرصة العمل هذه، حتى ولو كان 4000 زبون عجيب يقودون عبر بلدته وهم مسلحون حتى أسنانهم.
جسر صغير في البلدة تسبب بخلق ما يشبه عنق الزجاجة، ما أخرج مقاتلي “داعش” من عرباتهم للتسوق. بعد شهور من القتال، واتخاذهم من المخابئ غطاء لهم، فقد كانوا شاحبين وجوعى. لقد زحفوا إلى متجره، وأخلوه البضائع من الرفوف.
“مقاتل تونسي بعين واحدة، قال لي بأن أخشى الله، بصوت هادئ جداً، سألني لما أنا حليق الذقن. وقال إنهم سيعودون لاحقاً ويفرضوا الشريعة مرة أخرى. أخبرته أن لا مشكلة لدينا مع قوانين الشريعة. فجميعنا مسلمون”.
لقد اشتروا كل شيء، من النوديلز والبسكويت والسناكس.
لقد تركوا أسلحتهم خارج المتجر. المشكلة الوحيدة التي واجهناها عندما رصد 3 مقاتلين بعض السجائر، المهربة بالنسبة لهم، ومزقوا العُلب.
“لم يستولوا على أي شيء” قال محمد.
فقط 3 منهم غضبوا. بقية المقاتلين انتقدوهم.
قال محمد إن “الدواعش” دفعوا لقاء ما اخذوه.
“لقد شفطوا المكان. لقد كنت مرتبكاً بسبب أعدادهم. العديد منهم سألوني عن الأسعار، ولكنني لم أتمكن من الإجابة لأنني كنت مشغولاً بخدمة آخرين. لذلك تركوا نقوداً على الطاولة من دون أن أسألهم ذلك”.
وعلى الرغم من سوء المعاملة التي تلقوها، فقد وافق سائقو الشاحنات بأنه عندما وصلنا إلى النقود، دفع “الدواعش” فواتيرهم.
قال أبو فوزي: “الدواعش قد يكونون مختلين نفسياً وانتحارييين، لكنهم دائماً مستقيمون بقصص النقود”.
في قرية مهند الصغيرة، هرب الناس مع اقتراب القافلة، خائفون على منازلهم، وعلى حياتهم.
ولكن فجأة، استدارت العربات إلى اليمين، وغادرت الطريق الرئيسي إلى طريق صحراوي.
“عربتا هامفي تقدمتا القافلة”، قال مهند: لقد كانوا ينظمون القافلة، ولم يسمحوا لأحد بتجاوزهم”.
وعندما اختفت القافلة في الصحراء، لم يشعر مهند بالراحة. فكل من تكلمنا معه قال إن “الدواعش هددوا بالعودة، وأشار المقاتلون بأصابعهم إلى نحورهم عندما عبروا بجانبنا”.
“لقد عشنا في رعب طيلة السنوات الماضية” قال مهند.
“ستأخذ منا مدة قبل أن نخلص أنفسنا من الخوف النفسي. نشعر أنهم سيعودون قريباً من أجلنا، أو سيرسلون خلايا نائمة. لسنا متأكدين أنهم غادروا إلى الأبد”.
على طول الطريق، الكثير من الناس الذين تكلمنا معهم، قالوا إنهم سمعوا طائرات التحالف، وأحياناً درونز، تتبع القافلة.
من مقصورة قيادته، أبو فوزي راقب طائرات التحالف تطير منخفضة فوق رؤوسهم، ترمي قنابل مضيئة، لتضيء درب القافلة.
التحالف أكد الآن أنه بينما لم يكن له حضور شخصي على الأرض، فقد راقب القافلة من الجو.
خلف آخر حاجز لـ”قسد”، داخل أراضي “داعش”، في بلدة بين مركدة والصورة، وصل أبو فوزي إلى نهاية رحلته. شاحنته كانت مليئة بالذخيرة ومقاتلي “داعش” أرادوا أن تكون مخبأة.
وعندما عاد في نهاية المطاف، سالماً، من قبل “قسد” عن المكان الذي أنزل فيه البضائع.
“لقد أريناهم الموقع على الخريطة، لقد علمته حتى يقصفه العم ترامب لاحقاً”، قال أبو فوزي.
بعض مقاتلي “داعش” الأكثر خطورة، والمطلوبين بشدة، هم الآن منتشرون بعيداً وعميقاً في سوريا وجوارها.
“في الأسابيع الماضية، كان لدينا الكثير من العائلات التي غادرت الرقة وأرادت الذهاب إلى تركيا. هذا الأسبوع لوحده، أنا شخصياً شاهدت تهريب 20 عائلة”، كما قال عماد، المُهرب عبر الحدود السورية-التركية.
“معظمهم أجانب، ولكن هناك سوريين من بينهم”.
عماد يطلب 500 دولار على الشخص، وكحد أدنى 1500 دولار على العائلة.
في هذه المهنة، العملاء لا يتكرمون عادة بالإجابة على الأسئلة. لكن عماد قال إن هناك فرنسيين وأوروبيين وأوزبك وشيشانيين.
“بعضهم كان يتكلم الفرنسية، وآخرون بالإنكليزية، وبعضهم بلغات أجنبية”.
وبينما زادت تركيا إجراءاتها الأمنية على الحدود، أصبح التهريب أكثر صعوبة.
“في بعض المناطق نستخدم السلالم، وفي أخرى نعبر أنهاراً، وأحياناً نسلك دروباً جبلية وعرة. إنه وضع بائس”، كما قال مهرب آخر يدعى وليد.
وليد قال إن الأمر يصبح مختلفاً إذا كان المطلوب تهريب عضو رفيع من “داعش”.
“هؤلاء الأجانب لديهم شبكاتهم الخاصة من المهربين. وغالباً نفس من ساعدوهم في دخول سوريا. هم متعاونون مع بعضهم”.
التهرب قد لا يفيد الجميع. أبو مصعب حذيفة كان واحداً من أسوأ أعضاء “داعش” سمعة في الرقة. رئيس استخبارات “داعش” كان في القافلة التي خرجت من الرقة في 12 تشرين الأول.
لكنه الآن خلف القضبان، وقصته تعكس الأيام الأخيرة لانهيار الخلافة.
“الدولة الإسلامية” لا تفاوض. غير توافقية، مجرمة. هكذا هي أسطورة “داعش”.
ولكن في الرقة، تصرفت “داعش” كأي جماعة مهزومة. محصورون، متعبون، وخائفون على عائلاتهم، أجبر مقاتلو “داعش” على التفاوض في 10 تشرين الأول.
“القصف الجوي استهدفنا لأكثر من 10 ساعات. لقد قتلوا 500 أو 600 شخص، من المقاتلين وعائلاتهم”، كما قال أبو مصعب.
“وبعد ذلك انطلق التفاوض مرة أخرى. هؤلاء الذين رفضوا الهدنة في البداية غيروا تفكيرهم. وهكذا غادرنا الرقة”.
لقد جرت 3 محاولات للتفاوض على اتفاق سلام. فريق من 4، بينهم مسؤولون رسميون محليون من الرقة، قادوا المفاوضات.
الآن، في السجن على الحدود السورية-التركية، يقبع أبو مصعب. وقال إن القافلة وصلت إلى منطقة قريبة من الحدود السورية-العراقية. الآلاف هربوا.
المدن
“داعش”: مَن ينتصر.. الدم أم السيف؟/ مازن عزي
الاتفاق بين “قوات سوريا الديموقراطية” و”الدولة الاسلامية”، على إنهاء الحرب في الرقة، عبر تأمين ممر آمن لخروج 4 آلاف من مقاتلي “داعش” المحليين والأجانب وعائلاتهم، في 12 تشرين الأول/أكتوبر، قد لا يكون فضيحة في حد ذاته. الفضيحة قد تكون في استهجان الإتفاق، وكأن المُضمر البديهي هو ضرورة استمرار القتال حتى انهاء مقاتلي “داعش” وعائلاتهم ومعهم آلاف المدنيين العالقين بين طرفي القتال.
اتفاقات مشابهة، كان قد رعاها “حزب الله” والدولة اللبنانية في جرود عرسال، والنظام السوري في السخنة والقريتين وبادية السلمية وريف حلب الشرقي، وكذلك فصائل “درع الفرات” في الباب وجرابلس، و”قسد” في منبج، وروسيا في تدمر.
الموضوع في حد ذاته هو تكرار لذات النموذج: حصار “الدولة الاسلامية” في منطقة جغرافية محددة، واستنزافها بالضربات الجوية والعمليات البرية، وتدميرها على رؤوس أهلها المُحتجزين فيها كرهائن ودروع بشرية، حتى يقتنع مخبولو “الدولة الاسلامية” بعدم جدوى الاستمرار، وإمكانية الانتقال إلى الجنّة، ولكن في معركة أخرى، في منطقة أخرى. حينها يتم تأمين ممر آمن للمستسلمين الدواعش، وغالباً ما ترافقهم قوات حماية وصولاً إلى مستقرهم الجديد.
اعتراض “التحالف الدولي” على قافلة “داعش” الخارجة من عرسال إلى بادية ديرالزور، جاء نكاية باعتراض روسي سابق على اتفاق أولي لإخراج الدواعش من الرقة باتجاه السخنة.
تأمين ممر آمن يُقدم خدمة للطرفين المتقاتلين؛ وقف القتال وتسريع تسجيل نصر ضد “داعش” في الحملة الدولية ضد الإرهاب، وحفظ حياة آخر المقاتلين المتحصنين، ممن يتطلب القضاء عليهم المزيد من الوقت والخسائر للقوات المقتحمة. عملية إخراجهم من منطقة إلى أخرى، هي تأجيل المعركة الختامية معهم، إلى موقعة أخيرة، حيث يتم حشرهم. مخبولو “الدولة الاسلامية”، ومع استمرار عملية تقهقرهم، باتوا محصورين في مساحة ضيقة على الحدود السورية العراقية. هُدمت حواضر سوريا والعراق، كي يتم اخراجهم منها. وفي كل مرة، يحظون في النهاية بممرات آمنة. لتعاد الكرة من جديد، في مكان آخر.
اعتراضات غربية كثيرة، وقفت بين الحين والآخر، أمام هذا الأسلوب. فالمطلوب هو القضاء على هؤلاء الإرهابيين، من دون أن يُترك لهم مجال للهرب أو الاستسلام. مسؤولو الدول الكبرى، لطالما تحدثوا عن عمليات تطهير وإفناء للدواعش، خصوصاً الأجانب منهم، بهدف منع عودتهم إلى بلدانهم الأصلية. الداعشي المحلي، غالباً ما تتم مصالحته عشائرياً، في حين أن الداعشي المهاجر، هو الخطر الكامن في حال بقائه حيّاً.
المعضلة هنا، أن عملية الإجهاز على مقاتلي التنظيم، تحمل بُعداً لا سياسياً، أو مضاداً للسياسة. أي التخلص وإلى الأبد مما يعكر صفو الانسجام الداخلي، والأمن الإقليمي، وربما الدولي. التعامل مع الدواعش، كأهداف تستحق الإبادة، هو بدوره، فعل داعشي بامتياز، يواجه العدو برغبة الإفناء.
ويثبت “داعش”، مرة تلو الأخرى، أنه ينتمي إلى الطبيعة البشرية، وأنه قابل للتفاوض إذا ما لاحت الهزيمة. هنا تراوح “الدولة الإسلامية” بين طبيعتين مختلفتين؛ بشرية وإلهية. وخطيئة التنظيم الأصلية أنه لا يعترف بالهزيمة. هزيمته ليست دنيوية، وانتصاره إلهي. مثله كمثل “حزب الله”، وثورة الخامنئي الإسلامية، ونظام “البعث” بنسختيه السورية والعراقية.
انتصار “داعش” إلهي، في تحقيق لوعد محسوم، لذا فهزيمته مستحيلة. هكذا فقط يستطيع الاستمرار، حتى ولو كان بلا جسد، ولا رأس. هذا لا ينفي دنيويته، وقدرته على التفاوض، وقبلها في الحكم والهيمنة. شمولية أتوقراطية لا تُهزم. والحافلات التي تنقل مقاتليه من مكان إلى آخر، ليست سوى دليل على تلك الطبيعة المزدوجة.
ما انتصر فيه “داعش”، هو تحويل العالم برمته، إلى “داعش” مقلوب على رأسه. الأصوات الغاضبة ضد اتفاق إخلاء الرقة، ترى الانتصار على مقاتلي “داعش”، فعلاً غير منجزٍ إلا بالتطهير، بالإنهاء الجذري لهم، وهم المتخذون من آلاف البشر دروعاً لهم. انتصار “داعش” اليوم، هو في تحويل العالم إلى نسخة على شكله ومثاله، تؤمن بأن الحل الوحيد للإرهاب، هي بالإرهاب المضاد.
العجز عن فهم العنف من خارج المقولات الأمنية، كان قد دفع العالَم بعد تفجير برجي التجارة إلى غض النظر عن منظومة القيم الليبرالية الديموقراطية السائدة منذ الحرب العالمية الثانية، والمكرسة عنواناً لنهاية التاريخ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لصالح نظريات مختلة كصراع الحضارات، وما يرافقها اليوم من صعود مخيف لليمين القومي في العالم.
المقولة الأمنية المتصلة بعنف الإرهابيين الإسلاميين، تنكر على حواضنهم المشروع والبرنامج والمطالب والدوافعن سياسية كانت، أو اقتصادية أو ثقافية. انكار التجربة الإنسانية عن “الإرهابيين”، هو انكار لذواتهم، وتنصل من مسؤولية ما في صنعهم والمساهمة في خلق الظروف التي أنضجتهم. رفض الاعتراف ببشريتهم، هو فعل مساوٍ لأفعالهم، وانحدار إلى ذهنيتهم، وتموضع مقابل في لعبتهم ذاتها.
التماهي مع استخدام القوة المحض لسحق “داعش”، هو انتصار لمظلوميتها، ورفع لها إلى المرتبة المتخيلة التي تريدها: روح بلا جسد. وكأن اللاهوت حلّ فيها، فانتصر “الدم على السيف”، مجدداً.
المهزوم في الحالات الطبيعة، سيستمر في انكار هزيمته، باحثاً عن آفاق جديدة للتمرد المقبل. ولكن، ماذا عن مهزوم يؤمن بأن هزيمته امتحان من الله، وابتلاء لن يزول إلا بالانتصار لواقع متخيل؟ وواقع “الدولة الإسلامية” المتخيل، هو اللغة التي تحدثت بها إلى جنودها، هو القطع مع الواقع، وإعلان الحرب ضده. هو النداء الذي وجهته، وسمعه عشرات آلاف المهووسين، فلبوا، وأتوا إلى الصحراء، حيث “تُزهر” أرواحهم. الواقع المتخيل لأولئك المجانين، لن ينتهي بنهاية “الخلافة”، على أيدي قوى خارجية دمرت المجتمعات المحلية، صاحبة المظلومية في الأصل.
وإذا كان مبدأ الطاعة لا يكمن في القسوة التي تفرضه، والتي لا تنفصل عنه، بل في علاقات رمزية تُجنّد البنى المعرفية المستبطنة، كما يقول بيار بورديو، فإن هذه البنى لدى مُنكِري الهزيمة لن تُشرّع سوى استمرار مقاومتهم الداخلية، لتمارسها مقلوبة كقسوة مضادة، ضد الذات والآخرين.
إن كان من فضيحة في الاتفاق لإخلاء الدواعش من الرقة، فهي البنية المعرفية المستبطنة لدى رافضي الاتفاق ومستهجنيه، الواثقين من حقهم في استخدام القسوة لفرض الموت، لا الطاعة.
المدن
تتمات في سيرة الرقة: الخروج من المدينة/ أحمد إبراهيم
وهذه بداية القصة التي لا تنتهي بنهايتها، فللمقتلة الرِّقيِّة تتمتها
إنه شهر آب 2017، والحلقة تضيق علينا كمدنيين موتاً وقصفاً من السماء، ومفخخاتٍ وسكاكين من المقاتلين الذين يستخدموننا أيضاً كدروع. وجود هؤلاء المقاتلين هنا هو خيارهم، الذي هو أيضاً السبب في الحصار والموت والدمار الذي حاق بنا وبالبشر هنا. تقطعت بنا سبل الخروج من بيوتنا، التي ما كنا نريد الخروج منها لولاهم.
هكذا بدأت «إيمان»، المدرّسة السابقة، رواية حكاية أفراد عائلتها في أيامهم الأخيرة في الرقة:
كنا نعتقدُ أن الأصعب في موضوع الخروج بدايةً هو تأمين المهرّب، ويستحيل ألّا يكون المهرّبون من عناصر التنظيم أو من المتعاونين معهم. «500 دولار يا أبو صهيب؟!! والكعبة ما عندي»، يقولها حمودي باستنكار وتوسل. يوقف أبو صهيب تخليل لحيته بأصابعه بعصبية، تجحظ عيناه ويصرخ بحمودي: «اتق الله… اتق الله بنفسك يا شيخ، والله وبالله وتالله لو مو أنك حمودي، ولو مو القبضة خالصة شحن، كنت ناديت الحسبة وخليتهم يشحطونك شحط، من حلف بغير الله فقد أشرك يا شيخ».
«أهوووو أستغفر الله العظيم… أستغفر الله العظيم، التوبة يا ربي التوبة، خيو أب صهيب الغالي غلطنا ومنك السماح».
وهنا تدخلت أمي مخاطبة أبا صهيب، بعد أن أحسّت أن حمودي قد تورط. تقدمت باتجاهه وهي تمسك عكازها بيدها اليمنى، وبيدها اليسرى تثبت نظارتها، إذ كانت ابنة أخي حمودي قد كسرت حاملي النظارة: «يا ابني يا أبو صهيب، حمودي ما يقصد، ومن ضيق الحال وخوفه على البنات خرجت زلة من لسانه، وهذا لغو يا ابني، والله ما يواخذنا عليه… مو؟ يا ابني نقسم البيدر، حمودي يدفع لك 250، والله أنت تعرف الحال… أو تتركونا نموت هنا وخطا موتنا برقابكم».
«يا خالتي والله لو أنهن لي ما مشكلة، إنتِ تعرفين، هذن للفوق»، وأشار بسبابته إلى الأعلى. وهنا انفلتت أمي عليه، وخرجت عن مسكنتها التي اصطنعتها للتودد إليه: «يوااال… ابن شويهه… يوال حوّام… “أبو خنّة”، منو اللي فوق؟ لـ الله يعني، الله ما يريد دولارات، كنت تدبرلنا خبز تقول هذن الزيادة للفوق، ولما تدبرلنا جرة غاز أو برميل مازوت تقول هذن للفوق، وما خليت بسكليت ومتور بالحارة وما سرقته، وما تركت مظاهرة وما فسدت لأبو جاسم على شبابها، ولمن جى الجيش الحر محدا كفلك عند “أبو عيسى” غير أبو حمودي، وبعد كم يوم وأنك تفحّط بالبيكام وأنك جيش حر، ولمن جم «الدولة» وأنك تكية من أولي ولحية وأفغانية، وقال الله وقال الرسول، وما خليت بيت واحد من الجيش الحر وما دليت عليه. يواااال… “سعيّد” الحزّ إني أروح على دولتك وأقلهم على سوالفك كلهن». وأخذت تضربه بعكازها: «يوال… ابن شويهه، أمك ما ظل واحد بمعمل السوس وما نط عليها، والحزّ تريد 500… يوال».
خارج السياق القصة، سأشرح لك بعض ما لم تفهمه ربما
«سعيّد» هو تصغيرٌ لاسم سعيد، الذي هو نفسه أبو صهيب بعد أن انتسب لداعش، وهو نفسه من يطلق عليه أقرانه من أولاد حارتنا بالحارة «أبو خنّة»، والخنّة هي المخطة النازلة من الأنف، إذ كان أنفه دائم السيلان حتى التصق به هذا الاسم. لم ينجح في دراسته، وامتهن سرقة الدراجات إلى أن عمل مع جماعة شيخ الجبل بتهريب الدخان، وشكل مافيا لذلك. وحسب تقاسم النفوذ بين هذه المافيات، فهو يسيطر على تجارة الدخان المهرّب، والخبز والغاز، من دوار الصوامع إلى دوار حزيمة في الطرف الشمالي للمدينة. وكان حتى يحافظ على عمله، يعمل كمخبر لدى أغلب فروع الأمن، إلى أن صار الزلمة الخاص لأبو جاسم، أحد أشهر وأوسخ عناصر الأمن العسكري بالرقة. وسعيّد أو أبو صهيب بدأ بتهريب الناس من الرقة بالشراكة مع أميره التونسي، وأمه اسمها «شاهه»، وفي الحارة تسمى «شويهه»، وتصغير الاسم هنا للتقليل من القدر، ويقال إنها على علاقة بكل الرجال في معمل السوس، الذي يقع في حي الرميلة، والذي أغلب عاملاته من حارتنا كون صاحبه من حارتنا أيضاً. أما أبو عيسى الذي قالت أمي إن أبي كَفِلَ أبا صهيب عنده، فهو قائد لواء ثوار الرقة.
بالعودة إلى سياق القصة
علا صراخُ أمي، حتى طغى على هدير الطائرات وأصوات الانفجارات التي لا تغيب لحظة عن سماء المدينة. ومع صراخها، تخلى الجميع عن الحذر من التجمع خيفة القصف، حتى الأطفال الذين نخبئهم في الحمام عادةً لأنه المكان الأكثر أمناً في البيت حسب اعتقادنا، التمّوا في أرض الحوش، عداك عن وجود عنصر «دولة» في الحوش. حمودي، أخي الأوحد وأبو صهيب من جهة، وأمي وعكازها وحفيداتها الثلاثة وأمهن ونحن بناتها الأربعة، وأنا أكبرهن، من الجهة الأخرى. ولعلّنا جميعاً لم نكن أكثر ذهولاً وخوفاً من حمودي من ردة فعل أبي صهيب، الذي فاجئنا بأن استكان لطلبات أمي، ولم ينبس ببنت شفة غير: «أمرك حجة، جهزوا حالكم اليوم بالليل»، وأخذَ حمودي معه لاستكشاف الطريق، وليحضر معه الـ «ب. ب. دور».
دخلنا غرفنا، أنا وميوّدة ومجوّدة وسعوّدة، وبدأنا النميمة على والدتنا، والبداية كانت من مساومتها لأبو صهيب: «ما قيمة النقود في هذا الظرف، ما قيمة ذهبنا جميعاً، الذي باعته وحولته إلى دولار، وهو ليس قليلاً، هو نتاج سنوات من العمل لثلاثة منا كمدرسات، وواحدة كموظفة بالبنك العقاري، ميادة هي موظفة البنك وهي الأصغر بيننا».
خارج سياق القصة، سأشرح لك بعض الأمور حتى تتوضح لك الصورة
في الحقيقة من يتحكم بأمورنا وحياتنا وقراراتنا حتى الشخصية منها هي أمي، وليس الشقيق الوحيد على أربع بنات، حمودي. على فكرة، اسمه أحمد، وميوّدة اسمها ميادة، ومجوّدة هي أمجاد، وسعوّدة اسمها سعاد، ولكن أمي تنادينا بهذه الأسماء للدلع. وحتى على «دور أبي الله يرحمو»، عندما كان يعيش معنا قبل أن «يطقّ» عقله من أمي وتسلّطها ويتزوج مرّةً ثانية، أقول حتى على دور أبي لم يكن له كلمة، حتى أننا من زمان لم نعد نفكر بالأمر، فأمي هي اللي تفكر. وبصراحة، الموظفة المتقاعدة من وظيفتها كمعلمة لـ 42 سنة، أوصلتنا جميعاً إلى ما تقول عنه هي «برّ الأمان» من ناحية الدراسة، ووظفتنا جميعاً، ولكنها لم تستطع أن تزوجنا، أو بالأحرى لم يقترب العرسان لمعرفة الجميع بسلاطة وسلطة أمنا. فقط حمودي وحيدها زوجته ابنة أختها، وهي تعيد مع طفلاته الثلاثة ما بدأته معنا.
بالعودة إلى سياق القصة
كانت أمي من أشدّ المعارضين لخروجنا من المدينة، ولن أقول لك كلاماً عاطفياً عن تعلقها وتعلقنا بالرقة وببيتنا، هنا، من دون تأثير أمي علينا. ربما يكون هذا من الأمور القليلة التي وافقناها عليها عن قناعة، ولكن ما حصل في الأيام الاخيرة لا يمكن تحملّه، لا يمكن لبشريٍ إن شاهد أو سمع. ما شاهدناه لم يحصل في تاريخ حرب في العالم كله على ما قرأنا في كتب التاريخ، أو على ما شهدنا حتى في أفلام الخيال العلمي أو حرب النجوم. لماذا كل هذا الحقد؟ نحن أيضاً نكره داعش ونريد أن نتخلص منها، ولكن هم، وأشارت بأصبعها إلى الأعلى حيث كانت طائرةٌ عائدةً من قصف المدينة، هم من صنعوا داعش، فلينهوها كما صنعوها، وليس عبر تدمير البشر والحجر والشجر والتراب والفرات، هناك حقدٌ أكبر من حربهم على داعش، هناك شيءٌ غير مفهوم.
وذات لحظة في هذا الجحيم الرقّيّ، وبعد عدة غارات متلاحقة أدت إلى تحول ثلاث بنايات في أول الشارع إلى كومة إسمنت ولحم وتراب، قرَّرَت أمي أنه صار وقت الخروج، وبدأ البحث عن مهرب، وكان مستشارها المخلص في ذلك هو أبو صهيب، أما سرّ إخلاصه لأمي، وثقة أمي به، فهو أمرٌ لا نعرفه.
صمتَ هدير الطائرات، وبالتالي الانفجارات، وهنا وصلَ صوت مؤذنٍ لصلاةِ عصرِ يومٍ ربما يكون الأخير لنا في دولة الخلافة. في الحقيقة منذ زمن طويل لم نعد نسمع من الأصوات العالية سوى أصوات الطائرات والانفجارات، وفي الفسحة نادرة الحدوث يصلنا أحياناً صوت مؤذنٍ ما، فلا زمامير سيارات، ولا بياع الغاز وهو يضرب بقطعة حديد على قناني الغاز، ولا صياح أطفال الجيران يلعبون تحت النافذة. فقط أصوات الطائرات والانفجارات، وصوت المؤذن أحياناً، وكلٌّ منهما يدعوك لبضاعته.
والدتي تروح وتجيء، تخلّت عن عكازها الذي لم تتخلَ عنه منذ أن أوصت عليه حمودي فجأةً قبل شهر، رغم أنها لم تزر الدكتور محمد آخر الأطباء الموجودين للناس، وأيضاً لم تشكُ من تعب حتى تتسند عليه. أسندت عكازها جانباً، وبيدها راحت تتلمس كل شيء، مسكات الأبواب، خزانة الصمديات، وحتى صورة المرحوم أبي التي تتوسط صورنا وبراويز شهاداتنا الجامعية، تجرُّ أطراف الستائر المنسدلة أصلاً، تغلق حنفيات الماء على المغاسل وفي الحمام، رغم أن هذه الحنفيات لم تنقط نقطة منذ أشهر، تفتح أبواب خزانة ملابسها وتغلقها، توصينا للمرة ربما الألف أن نتفقد ما وضعناه في الحقائب.
«وأنتي»، توجه أمي عكازها نحو ميادة مخاطبةً إياها: «ميودة، فارة الكتب، مثقفة زمانك، الحزّ أفتش شنتايتك، إذا بيها كتاب واحد رح أشقو، لأنو إذا مسكونا الحسبة رح يحرقوه فوق راسك وراسي». لم تنتظر جواباً، وكانت متأكدة أن في حقيبة ميادة، ليس كتاب بل مجموعة كتب. تعود أمي وتتفقد ما تفقدته سابقاً، وعند كل صوت انفجار تقول «حمودي تأخر مو؟ يا بنات قبل ما أطفي المولدة هواتفكن أريدها مشحونة، و”الليزرات” كمان».
صوت طائرة قريبة، سيعقبه الآن صفير صاروخ، الكل يركض إلى الحمام، بووووووم، ارتجت الأرض كما لم ترتج يوماً. «حموديييييي» صاحت أمي، ولكن ضاع صوتها مع بوووووم أخرى قريبة أيضاً.
هدأت حدة القصف وسكن الغبار، وهدأت أمي أيضاً لحظة دخول حمودي مغبراً يحمل كيس الـ «ب. ب. دور» بيده. أخذ يخاطب أمي بلسان متلعثم: «يووم… يماااا… ول يووووم… بناية الجعابي تكومت كلها على الأرض، ما طلع منهم ولا واحد يووووم… تخيلي حتى سيارة إسعاف أو دراجة من “الدولة” ما في».
أخذت أمي عكازها وأخذت تلطم: «جيران العمر يايما… يايما… نامي عليهم طبق يا قاع، نامي على حلوين الطباع، الله يرحمكم الله يسامحكم. وأنتم، وأشارت بيدها الى السماء، الله لا يرحم بيكم ولا عظم يا ولد الكلب، أبوكم وأبو داعش». أول مرة تلفظ أمي اسم داعش، دائماً كانت تسميهم «الدولة».
خارج السياق، أو أكثر التصاقاً
بناية الجعابي في آخر شارعنا، وتبعد عنا بحدود 200 م، يعيش فيها أبو محمود الجعابي، وحوالي 20 من أولاده وأحفاده وكنائنه. منذ أن بدأت عملية حصار المدينة، الأمر الوحيد الذي اتفق عليه داعش والتحالف هو عدم نجدة المدنيين، فطيران التحالف يهدم البنايات فوق أهلها، وداعش لا ترسل حتى عنصراً أو «تركس»، أو تحاول أن تخرج شخصاً من تحت الأنقاض. إذن هم متفقون. وأيضاً أمرٌ آخر أحبُّ أن أوضحه، أو أمران، وردت كلمة «يووم» وهي تعني يا أمي باللهجة الرقاوية، وكلمة «الدولة» هنا تعني داعش، فنحن لا نستطيع ولا نتجرأ أن نلفظ هذا المصطلح، ومن يثبت أنه قال داعش، يُجلَد أربعين جلدة وينام في القفص 24 ساعة، ويخضع لدورة شرعية ثلاثة أيام.
بالعودة إلى القصة
قال حمودي موجهاً الكلام للجميع: «اليوم الساعة عشرة المسا نمشي، تلبسون “بواط” رياضة، أحذية كعوب وتطقطق ممنوع، اللباس لازم يكون تحت العباية لباس يعطيكم أريحية بالحركة، بيجامات أو بنطلونات جينز».
بقي أربع ساعات، زادَ قلق أمي، زادت من دورانها داخل البيت، تفقدته شبراً شبراً، بل سنتيمتراً سنتيمتراً، «أقسم بالله أول مرة أشوف دمعة بعيونها وهي تلف السندويشات، وهي تسقي الزريعات»، أسألها: «لمن تسقينهن؟ يقولون “الملاحدة” يعفشون ويسرقون كل شي»، والملاحدة اسمٌ يطلقه إعلام وعناصر الدولة على القوات الكردية المهاجمة. تردّ عليّ: «معليش، حتى إذا أخذوهن يظلن عايشات، ويزينن شي بيت».
حمودي الذي نلتمّ حوله كلنا، وزوجته تنظف وجهه المغبر بمنشفة رطبة، يحكي لنا عن مشاهداته في خروجه المغامر مع أبي صهيب: «يا جماعة والله ما ظل غير نحن المدنيين، وحكام المدينة الجدد هم الذباب ورائحة الموت. تعرفن يا بنات، كل كم متر تشوفن كشات من الذباب فوق البنايات المهدمة، فقط الذباب هو من يعرف أين جثث البشر الذين اندفنوا تحت ركام بيوتهم، والكلاب والقطط يتكفلون بالجثث التي في الشوارع».
كلما اقترب الوقت تزداد عصبية أمي، ويزداد تفقدها لكل شيء للمرة المليون.
التاسعة والنصف، نصف الساعة الأخير في دولة الحلافة
سقت والدتي بيدها بنات أخي الثلاث الـ «ب. ب. دور»، وبجرعة مضاعفة، ولم تَرُدَّ على كلام أمهن. وضعت في جيب كل واحدة منهن، كما في جيابنا، رقم تلفون ابن خال أمي الذي يسكن ريف تل أبيض، وبيته مقصدنا في سِفر خروجنا هذا.
أجبرتنا على استخدام التواليت جميعاً عندما دقّ أبو صهيب الباب، تفقدت هندامنا متمهلةً، العباية، الدرع، الكفوف، غطاء الوجه، الأحذية، فاحتمال أن تصادفنا دوريات داعش كبيرٌ جداً. تفقدت «الكارة» على ظهري وظهر زوجة أخي وظهر حمودي، الكارة التي تغفو داخلها كلُّ واحدةٍ من البنات الثلاث على ظهر كلٍّ منّا. عند انتهائها من كل هذه التحضيرات، أدخلت أبا صهيب الذي أحضر مجموعة أخرى كانت معه، ولم يكونوا سوى بيت أبو صلاح، رابع بيت بعد بيتنا، وبدأ أبو صهيب يشرح للجميع خطة المشي والخروج.
خارج سياق النص لشرح نقطة
– تعرف الـ «ب. ب. دور» أليس كذلك؟ تستفهمني محدثتي.
– لا، أجبتُها.
– قالت: هو عبارة عن دواء على شكل شراب سائل يباع في الصيدليات، ويعطى للأطفال الذين يعانون من قلة النوم.
– يعني منوّم، قلتُ أنا.
– نعم، منوّم.
– وما الغاية؟
– حتى لا يبكي طفلٌ أو يتكلم بصوتٍ عالٍ، أو يصرخ خائفاً من شيءٍ ما. تعرف أن الأطفال لا يُسَيطَرُ عليهم، ولا يلتزمون بالتحذيرات.
أما الكارة فهي عبارة عن ثوب على طول الجسم، ولكن مشقوق من الأمام وأيضاً على طول الجسم. كانت الأمهات يضعن أطفالهن على ظهورهن، ثم يجمعن طرفي الثوب هذا ويربطنه على رؤوسهن، وبهذا تكمل المرأة أعمالها وفي الوقت نفسه تحمل طفلها، العملية تشبه جُراب الكنغر تقريباً، ولكن من ناحية الظهر لا البطن.
بالعودة إلى النص، وإلى تعليمات أبي صهيب الذي يشرح الخطة بصوت هامس
«نمشي ورا بعض واحد واحد بشكل رتل، واحد ينقل خطوته والثاني يضع قدمه مكانه، من هنا إلى مدرسة المعرّي لا يوجد مشكلة، المشكلة من الطرف الغربي لمدرسة المعرّي إلى الباب الغربي للحديقة البيضا، إذا خرجتم من الحديقة البيضا أصبحتم بالأمان الكامل، هناك يأخذكم الأكراد. ممنوع الهمس، سوف يمشي عبودي أخي، كلكم تعرفونه، أمامكم ككشّاف، وبعده أنا، وورائي حمودي وبعده أبو صلاح». وأبو صلاح والدٌ لثلاثة شباب وجدٌ لسبعة أحفاد، أكبر الأحفاد توأمٌ بعمر 14 سنة، وأصغرهم بعمر ثلاثة شهور، طبعاً معه كنّاته الثلاثة وأزواجهن.
يتابع أبو صهيب: «وبعدها النساء، وبالأخير صلاح وأخوته، ويوجد معي شابٌ آخر من الدولة سيكون كشّاف المؤخرة. اسمعوني جيداً، من يسمع منكم “تك” تحت قدمه ويحسّ كأنه دعس على “راصور” يجمد بمكانه، ويظل على الوضعية ذاتها ولا يتحرك ولا يصدر أي صوت، والذي يليه يكمل المشي، ولما ينتهي الرتل ويبتعد عنه حوالي 50 متراً، يتدبر أمر نفسه، هو وربّه واللغم».
يتابع أبو صهيب: «إذا أحسستَ أن قدمك عَلِقَت بخيط اثبت مكانك، واترك الكل يبتعدون، وبعدها ارمي بجسمك على الأرض، أيضاً أنت وربّك والعبوة، لأن الأخوة في الدولة أحياناً يضعون أشراكاً بين العبوات، خيط سمك لا يُرى. يا جماعة، إذا أصاب القناص، قناص الملاحدة أو قناص الدولة، الشخص الذي أمامك أو الذي خلفك، لا تحاول أن تساعده بشيء، لأنه على الأغلب سوف يموت، فطلقات القناص دائماً في الرأس. وإذا جاءتكم الطائرة “أم الرشّاش” أو سمعتم صوتها، فهذه أكثر شيء يُخاف منه. لا أريد أن أخيفكم، ولكن هذه لا أحد يقدر أن يتفاهم معها، لأنها ترى في الليل حتى دبيب النملة، ألقوا بأنفسكم تحت أي شيء أو في أقرب مدخل».
تتوالى تعليمات أبي صهيب التي نصغي لها بانتباه: «هناك أمرٌ آخر يا جماعة، أحياناً لازم نقطع شارع واحد واحد وركضاً، ركض يعني ركض، ولما تركضون اركضوا “زكزاك” بشكل متعرج، حتى إذا كان راصدكم قناص ما يصيبكم. أوصيتكم قبل، كل واحد منكم لازم يكون عندوا راية بيضا. الكل فهم عليّ؟ نتوكل على الله؟».
أومأنا برؤوسنا أن نعم.
تقول محدثتي: «هنا لا يبقى لك حقيقةً سوى هذا الشيء الروحاني “الأولي”، فتتذكر كل الآيات القرآنية اللي تحفظها، وتدخل بجو اتكالي إيماني، وحتى الشغلة الصغيرة التي ربما تغضب الرب تتذكرها، وتقوم تستغفر حتى على كثير من الأمور التي لا تغضب الله».
فُتِحَ باب الحوش وبدأنا نتسلل كاللصوص من بيتنا، من شارعنا، من مدينتا، صرنا لصوصاً، وهؤلاء أهل اللحى وأهل الطيارات أصحاب البيت.
خارج سياق القصة، سأقول لكَ شيئاً ذكرني به أبو صهيب عندما تكلم عن الراية البيضاء
أمي ما انقطعت تذهب إلى دير الزور بدايةً، ثم حماة لاحقاً، من أجل الرواتب، وكانت دائماً تتدبر أمورها مع الحسبة أو بالأحرى يتدبر لها أبو خنّة، قصدي أبو صهيب، الأمر لأجل السفر من دون محرم، وكانت دائماً تأتي برواتبنا كلها، وذات يوم منذ ستة أشهر جاءت ومعها لفة كبيرة من قماش أبيض، أي والله، قصّتها وخاطتها أكفاناً حتى لطفلات حمودي اللواتي كنَّ فرحات بما تصنعه لهنّ جدتهن، وهنَّ غير العارفات ما تعنيه كلمة كفن، يقفن سعيدات أمامها وهي تقدّرُ الكفن على أطوالهن. لم تنسَ أمي أن تضع الأكفان في حقائبنا، ومن أحد الأكفان صنعت رايات بيضاء لكلٍّ منّا.
نعود للنص
من بيتنا مشينا على الرصيف بموازاة الطرف الغربي لمدرسة الفارابي، ثم انعطفنا يميناً في شارع ضيق غربي مديرية الكهرباء، ثم يساراً إلى أن وصلنا شارع الكهرباء حيث التزمنا الرصيف الشمالي لهذا الشارع وفي مواجهتنا مدرسة المعرّي. رتلٌ من البشر تضج عقولهم بملايين الأفكار، وتلهج ألسنتهم هامسةً بسيل من الأدعية، متوجسين في كل ثانية أن يدوسوا لغماً، أو تفاجئهم دورية الحسبة أو الطائرة ذات الرشّاش.
تصطّفُ المجموعة في نهاية شارع الكهرباء على الرصيف الشمالي منه، محتميةً ببناء مهدوم مقابل الزاوية الشمالية لمدرسة المعرّي، هنا يجب أن نقطع شارع القطار، وهو عبارة عن طريق ذا اتجاهين يجب أن نعبره من مواجهة الزاوية الشمالية الشرقية لمدرسة المعرّي إلى الزاوية الجنوبية الشرقية لها، ويجب أن نقطع مسافة الـ 100 متر تقريباً. ركضنا بأقصى سرعة واحداً واحداً بشكلٍ متعرج، ركض عبودي أولاً وتلطى خلف الزاوية المنشودة، وتلاه أبو صهيب ثم حمودي، وتتابعنا حتى آخر فرد من المجموعة.
«الكل سليم» يهمس أبو صهيب، «شوفوا، الآن بدأ الجد، التزموا بالاتفاق» ثم مشى.
قريباً من المستودع الأصفر كان هناك دمارٌ هائل، هناك كان يجب أن نمشي فوق الدمار، لأن «الأخوة» لا يفخخون ما يُدَمَّر، ولا يخطر على بالهم أنه سيمشي أحد فوق الدمار، لذا يجب أن نمشي فوقه، شيءٌ يشبه تسلق الجبال، ولكن إذا كان للأمان فإنك مستعدٌ أن تتسلق قمة إفرست.
توقفت المجموعة فوق تلة دمار البناء الثالث على صوت ينبعث من تحت الأنقاض، واضحٌ أن أكثر من شخص يستغيث، وأقسم بالله سمعنا صوت طفل يبكي، ولكن أبا صهيب نهرنا كي نمشي، فنحن لا نستطيع أن نفعل لهم شيئاً تحت أطنان الركام. وهكذا عبرنا بين الحواري، وبسلام للجميع، حتى مقابل الباب الشرقي للحديقة البيضاء، حيث أدخلنا أبو صهيب في بيتٍ أبوابه مشرعة.
يقول لنا أبو صهيب: «المسافة من الباب الشرقي حتى الباب الغربي هي الصراط المستقيم، قناصة الدولة وقناصة الملاحدة يرصدون المكان، نحن وحظنا، الذي يصل الباب الغربي، يعني 200 متر، من دولة لدولة ومن حياة لحياة أو من موت لحياة أو من حياة لموت».
تقدَّمَنَا عبودي متعرجاً، ونحن كذلك، حتى منتصف المسافة، والقمر بدرٌ كامل، لا شيء يضيء المدينة غيره. سمعنا جميعاً، وأقسم بالله، صوت اختراق رصاصة القناص لجمجمة عبودي الذي يسبق الرتل ربما بعشرة أمتار، انبطحنا جميعاً، حصلت فوضى صغيرة ولكننا بالنهاية عدنا جميعاً عدا عبودي، عدنا إلى البيت نصف المتهدم مقابل الباب الشرقي للحديقة البيضاء.
حاولَ أبو صهيب أن يسحب جثة أخيه، ولكنه لم يستطع. كانت الساعة الثالثة إلا ربع صباحاً، بعد قليل سيشقشق الضوء، ولا طريق آخر. قادنا أبو صهيب بصمتٍ على طريق العودة، تخلى هو عن حذره، وربما نحن كذلك.
بدأت تتضح الرؤية إلى حدٍّ ما، وكان هناك عصافير بدأت الزقزقة، صدقاً، بالله عصافير بالرقة، وتزقزق. ثم بدأت الطائرات النائمة تمسح الوسن وتستكمل مهمتها اليومية بتدمير المدينة، ورتلنا الذي بمشيته يشبه مشي السكارى يعود خائباً مصدوماً غير مكترثٍ لشيء، حتى عند حصول انفجارٍ ما لم نعد نرتعب كما في السابق. تخيل حتى الكلاب التي تنهش بالجثث الملقاة وسط الطريق تتابع مهمتها دون أن تحفل بنا، فقط تجفل لحظة صوت الانفجارات ثم تعاود نهش اللحم الآدمي. يصلنا صوت مؤذن في اللحظة ذاتها التي تضع أمي فيها المفتاح في الباب داعيةً الجميع للدخول.
وزَّعتنا أمي التي تصدر أوامرها كجنرال وهي تومئ برايتها البيضاء التي لا زالت تربطها بعكازتها، وزَّعتنا مع العائلة التي رافقتنا على غرف المنزل. الوحيد الذي ذهب هو أبو صهيب.
نام الأكثرية وأنا منهم. لم نعد نستطيع النوم إلا على صوت القذائف، أصبحت بالنسبة لنا كالـ «ب. ب. دور» بالنسبة للأطفال. حالنا ذاك يذكرني بمثال كان عندنا في كتاب الفلسفة للبكالوريا قبل أن يغيروا المناهج، وهو عن الطحان الذي ينام وجعجعة الطاحونة تصم الآذان، ولكن ما أن تتوقف حتى يستيقظ، ونحن كذلك.
استيقظتُ عصراً على صوت أمي وهي تواسي أبا صهيب على مقتل أخيه، وهي تقنعه أنه في الجنة لأنه شهيد: «أي والله يا ابني أكيد شهيد، لأنه كل هالناس» وأشارت باتجاهنا «لولاه ما كانوا هون».
جاء ابو صهيب عصراً يرافقه شخص آخر واختلوا مع أمي وأبي صلاح، وبعد ركوة قهوة وإبريقي شاي، خرجوا وعرفنا أننا سنخرج اليوم من عند دوار الخضرة، وأن الطريق مؤمن ويجب أن نكون جاهزين عند المغرب تماماً.
لم تختلف التحضيرات عما سبق، وما أن أعتمت العين، خرجنا على الرصيف الشرقي هذه المرة لمديرية الكهرباء، ومن الزاوية الجنوبية الشرقية للبناء المهدم، والذي لم تمرَّ طائرةٌ في سماء المدينة دون أن تلقي فوقه صاروخاً أو قذيفةً من النظام إلى الروس إلى التحالف، وأحياناً من باب النكتة نقول حتى طيران موزمبيق، حاله في هذا كحال معسكر الطلائع والملعب البلدي وقصر المحافظة، الأهداف الدائمة، وهذا قبل أن تباح المدينة بناسها وببناياتها وبيوتها وجسورها وحتى فراتها إلى مشاع أهداف. المهم، هناك لَبدنا جانب السور حيث يجب أن نقطع شارع الكهرباء، ركضنا واحداً واحداً، وشارع الكهرباء هذا شارع عريض ذهاب وإياب، ولكن المشكلة فيه أن منصّف الطريق عالٍ وحملنا ثقيل. المهم، تم الأمر وعبر الجميع بسلام، مشينا حارة السخاني المقابلة لمديرية الكهرباء، التي تربط من الشمال شارع الكهرباء بشارع تل أبيض جنوباً، وهو طريقٌ ضيّقٌ زاد من ضيقه الدمار الحاصل. أيضاً هنا الطريق الأكثر أمناً هو فوق الأنقاض، وصلنا شارع تل أبيض وهنا أيضاً لَبَدنا حيث يجب أن نجتاز شارع تل أبيض واحداً واحداً من مقابل فرن الربيع. المسافة الأخطر 30 إلى 40 متراً، أيضاً عبرناها بسلام ولم يرصدنا أي قناص. على الرصيف الشرقي لشارع تل أبيض، من مكاننا إلى دوار الدلة حيث سوق الخضرة، 500 متر استغرقت حوالي ساعتين ونصف، ولكننا أخيراً وصلنا مدخل سوق الخضرة من الجهة الغربية.
«الآن فقط نعبر السوق، وهناك على الطرف الآخر يتوقع المهاجمون خروج مدنيين، لذلك لا يضربوننا»، هكذا قال الرجل الآخر الذي جاء مع أبي صهيب. أخرجنا راياتنا البيضاء واستعدينا لقطع آخر مئة متر، بعد قليل توقف أبو صهيب ومرافقه وقالو لنا: «هنا انتهى دورنا». أخذوا بقية المبلغ من أمي وأبي صلاح، وقال لنا الملثم مرافق أبي صهيب: «عشرين ثلاثين متر أنتم بالأمان، ارفعوا راياتكم ولا تخافون، عندهم أجهزة يشوفونكم بيها، ومثل ما يقولولكم نفّذوا». وكقطيع فقد رقابة راعيه انتشرنا بفرحة الخلاص، متناسين حذرنا، يسبقنا الولدان التوأم بحوالي عشرة أمتار، وبووووم، طار أحدهما في الهواء وصرخَ الآخر، وانبطح الجميع إما من الانفجار أو من الرصاص الذي بدأ ينهمر على مكان الانفجار. تفقدنا بعضنا، وعَجِزَ الرجال عن سحب جثة الولد الجريح الذي توقف أنينه ومات، ساعتان والرصاص ينهمر ما أن يحسّوا بأي حركة.
هنا قرر أبو صلاح: «الحي أبقى من الميت». عدنا مرةً أخرى بعد أن فقدنا التوأم، وهذه المرة أغلبنا فقد عقله ورايته البيضاء، إلى بيتنا. دخل الجميع، ونام من نام على نشيجٍ مكتومٍ من أم التوأم عبد الخالق وعبد الرزّاق، أو كما ينادوهما خالق ورزّاق، وهو أمرٌ كلَّفَ أباهما ذات مرّة دورةً شرعيةً لمدة شهر.
صحوتُ بعد أن نمتُ بعمق، والله من زمان لم أنم كما نمت تلك الليلة، صحوتُ وأمي وأبو صهيب وأبو صلاح يتحدثون عن طريقة لسحب جثتي الطفلين لدفنهما في الحديقة. يقول أبو صهيب: «شوفي خالتي، إنتي وعمي أبو صلاح على عيني وراسي، واللي مات الله يتقبلوا، من سابع المستحيلات هذا الكلام، خلاص، مِن انفجر لغم المكان صار مراقب من الجهتين. على كل حال اليوم هناك طلعة من “نزلة شحاذة” وهناك أمريكان وليس أكراد، يعني ما يقنصون أحد مدني. إذا كنتم تريدون، كل عائلة 2500 دولار ما تنقص مليم، والذهاب من هنا إلى هناك بسيارات الدولة والمشي فقط 500 متر. إذا وافقتم حتى أنسق الامور مع أبو دجانة التونسي المسؤول عن القطاع هذا».
استغربتُ أن أمي التي تحلب النملة، لا ليس النملة، بل تحلب الطحالب والأشنيات، وافقت دون مساومة على الـ 2500، وهي البارحة ساومته على 250 دولار. «الساعة 2 عصراً سأحضر ومعي بيكابين ونطلع»، أخذَ عربوناً من أمي ومن أبي صلاح، وخَرَج.
عادَ بحدود الثانية عصراً، إذ يجب أن نمكث في حيٍّ قريب من نزلة شحادة حتى المساء، حتى يتهيأ لنا طريق عبور. ركبنا جميعاً، تتهادى السيارات متجنبة الحفر وأكوام البيوت المهدمة في مكانٍ ما، ولكنه ليس الرقة، لا… لا… لا… ليست شوارعنا، ليست بناياتنا، ياااااااا إلهي، ما هذا الدمار!! يا إلهي، ما هذا الحقد!! لا ليست الرقة.
شارع القطار مرصودٌ من الشمال بقناصة «الملاحدة»، لذلك وضع عناصر «الدولة» ستارة كبيرة تصل طرفي الشارع مسدلةً إلى الأرض، ومن هناك وصلنا إلى دوار الدلّةّ الذي ترصده أيضاً قناصات «الملاحدة» من عند مبنى العيادات الشاملة. كنا قد وصلنا كراج المزارع عندما ألقى السائقان بنفسيهما من السيارتين، وطلبا منك ذلك، «تكربسنا» فوق بعضنا بعضاً، صراخ الأطفال وصياح الكبار، وبوووووم كبيرة أثارت عاصفةً وغباراً. انزاح الغبار، وبدأ عناصر من داعش يتجمعون ويحتمون بمداخل المحلات التي طارت أبوابها، وعلا صراخ أحدهم: «تستري يا أختي وحطّي على راسك»، وفجأة ظهر السائقان وتكلما مع عناصر الدولة الذين يحتمون بالمداخل أننا معهم. أكملنا الطريق باتجاه دوار النعيم، أي نعيم يا الللله، داعش والرؤوس المقطوعة، وجاء من يغطي على جريمتهم ويزيل الدوار وما حوله مثلما فعلت داعش بسجن تدمر، المجرمون يساعدون بعضهم.
بمحاذاة الملعب البلدي، إلى جانب جامع الفردورس، نعيمٌ ومن ثم فردوس، أي نعيمٍ يا رقتي وأي فردوس… فردوس الله المفقود.
هنا في هذا الجامع خَطَبَ أحد أمراء داعش خطبته المشهورة، وعساكَ رأيتها على اليوتيوب، حين قال من جملة ما قال: «رغماً عنكم سنأخذكم إلى الجنة يا أهل الرقة، سنربطكم بالسلاسل ونأخذكم إلى الفردوس». هذا هو الفردوس، حتى الجامع كومة حجار أضحى، فقط مئذنته وقبته بقيتا واقفتين. أين أنت الآن يا مَن ستأخذنا إلى الجنة؟ هل اتتك طائرة هيلوكوبتر وأخذتك بعد أن أنهيت مهمتك؟ أم أنك متَّ فداء حذاء الخليفة؟ أقول بنفسي هذا وتصل بنا السيارة إلى كومةٍ من إسمنت وحديد كانت تُعرف باسم مشفى الطب الحديث، ومن نزلة الطب الحديث إلى الجنائية. ومنها إلى حارة الحرامية. ليتني… ليتني خرجتُ ليلاً كي لا أرى ما رأيت، أما يكفي ما فعلته داعش، ياااا إلهي، رهيييييييب، رهيبٌ ما هو حاصل، لا أعتقد أن إخراج داعش يحتاج لكل هذا التدمير، أكيد… أكيد «مو مشان داعش».
خارج سياق القصة، سأوضح لك أمراً
حارة الحرامية كما تُعرَف هي منطقة جمعيات سكنية، اشترى بعضُ كبار موظفي الرقة الفاسدين عدداً من أفخم مساكنها، وزادو مساكنهم تلك فخامة، ولذلك أطلق عليها الناس هذا الاسم الذي التصق بها. حتى سكانه نفسهم تصالحوا مع الاسم، وطبيعيٌ أن تسأل أحدهم: «أين تسكن؟» فيجيبك: «بحارة الحرامية». أو يسألك صاحب التكسي: «إلى أين أوصلك؟» فتقول له: «حارة الحرامية». وضمن هذا الحي، البيت الذي سنكمن به ونقضي بقية النهار حتى يحين موعد خروجنا ليلاً. معظم بيوت الحي فيلات على أحدث طراز، أو أبنية آيات في جمال فن العمارة، وسط بيئة شعبية معدمة. تعرف؟! هو المكان الوحيد الذي لم آسف على دمار أي بيت فيه، تريد الصراحة أكثر، أشعر بالتشفي، و«حتى أنت والعالم تتشفى معاي، تعرف شو صار اسم الحي على دور داعش؟ تخيل صار أسمو حي المؤمنين!!!!!». حيّ المؤمنين، لان كل المؤمنين اللي جاؤوا إلى ديار كفار قريش قد سكنوا الحي، طبعاً نحن سكان الرقة عامة كفار قريش.
نعود إلى القصة
فيلا كبيرة مشطورة من المنتصف، تعتقدُ أن منشاراً ما قسمها نصفين. هناك أنزلونا وقالو: «اختبئوا هنا، وسنعود مساءً لنأخذكم». ونحن ننزل وندخل الفيلا المهدومة، وغير بعيد عن مقدمة السيارة بجانب الرصيف، كان هناك جثتان لرجل وامرأة، ميّزناهما من لباسهما، منتفختان بشكل رهيب، كثيرٌ من النساء استفرغن، وعجّلنا خطانا بالدخول.
مساءً عاد أبو صهيب ومعه اثنان ملثمان، وذهبوا بنا إلى كومة اخرى من حديد وإسمنت كانت تعرف باسم مؤسسة الأعلاف، وهنا بدأ الجد مرةً أخرى، رتلاً أحادياً رفعنا الرايات البيضاء، ومشينا يتقدمنا أبو صهيب حتى قابلنا نزلة شحاذة.
خارج السياق، أو ربما ضمن السياق
كثيرٌ من الناس، وحتى وكالات أنباء العالم كله، تحدثت عن نزلة شحاذة. نزلة شحاذة طريقٌ فرعيٌ من طريق حلب الرقة في مدخل المدينة، ينحدر من الشمال أي من طريق حلب نزولاً باتجاه كورنيش النهر، أي باتجاه الفرات، وسُمّيَ بنزلة شحاذة لأن أول بيت بُنِيَ على هذا الطريق المنحدر صاحبه اسمه شحاذة، وللمفارقة بيت أبي بعد زواجه الثاني في هذا الشارع.
نعود للنص
متلطين، قابلنا نزلة شحاذة. لم يوافق حمودي أن يكون الأول حتى يطمئن على عبورنا، فكان أبو صلاح الأول مكوراً حفيدته على ظهره، ثم إحدى كنائنه، وتتابعنا هكذا. بقي أبو صهيب وأمي وحمودي مكوراً إحدى بناته وصلاح. عبرت أمي، وتلاها حمودي وصلاح، ولكن في خطواتهما الثلاثة الأخيرة أصابهما القناصون فوقعا. ثلاثة أمتار تفصلنا عنهما، رصاصٌ كالمطر وربما أكثر لدقيقتين، رغم أننا كنا جميعاً نرفع الرايات البيضاء، هدأ الرصاص وأنا مبطوحةٌ على بطني، رفعتُ يدي بالراية البيضاء، وسُلِّطَ علينا ضوءٌ مبهر، وطُلِبَ منا أن نتقدم، تقدَّمنا.
رَفَضَت أمي وأبو صلاح وزوجة حمودي التقدم، وقاموا بسحب الجثتين، كانت الطلقتان في الجبين، يعني «من الأمريكان يا أبو صهيب يا بو خنّة».
تقدمنا بحراسة من الجانبين ونحن مرفوعي الأيدي، وأمي مغمىً عليها فوق جثة حمودي. القمر كامل الاستدارة وحده ينير الخراب والموت، القمر كامل الاستدارة وحده شاهدٌ أخرس على ما يحصل.
للمقتلة تتمة…
موقع الجمهورية
تعليق واحد