ما الذي حصل لنا؟ نظرة أوّليّة/ ناصر الرباط
لا خلاف على أن الكوارث السياسية والهوياتية والإنسانية التي أصابت العالم العربي في العقدين الأخيرين، والتي ما زال الكثير منها محتدماً وبلا قرار، مختلفة باختلاف الدول وتباين الظروف المحلية والدولية حولها. ولا خلاف أيضاً على أن استمرار هذه الكوارث وتحولها إلى وجوه وسياقات أخرى، وتفاقم بعضها وهمود بعضها الآخر، يوحي بمسارات تاريخية مختلفة لها، وربما متباينة أحياناً، ويفرض أدوات مختلفة من التحليل ومحاولات الفهم. وربما أيضاً لم يأن الأوان بعد لإبداء نظرة تاريخية شاملة أو تأويل عام لما حل بالمجتمعات العربية أخيراً يربط ذلك بصيرورة تاريخية ممتدة أو غائية ثقافية تتجاوز الحدود الدولاتية الحالية، بما أننا ما زلنا في قلب الحدث وبعيدين عن النهايات المحتملة.
لكن ذلك كله لا يمنع من محاولة فهم واقعنا الحالي فهماً تاريخياً وثقافياً وحضارياً أيضاً، على اعتبار أن الفرق بين الثقافة والحضارة في اللغة العربية المعاصرة ملتبس كمثل الالتباس القائم بين الوطنية والقومية. ومع الإدراك بأن أي فرضية ستبقى كذلك إلى أن يمر الزمن وتثبت الظواهر وتنتهي إرهاصاتها، فإن إبقاء النقاش حولها قائماً يفيدنا جميعاً في تلمس إدراك أفضل وأعمق لما حل بنا أخيراً، مما أطاح بالكثير من المسلمات التي عشنا زمناً متطاولاً في ظلها، وعرّى الإحساس الخادع بالارتياح إلى مواءمة واقعنا لإمكاناتنا وطموحاتنا، تلك التي تشاركنا فيها على الأقل، وكذلك لتاريخنا الذي ظنناه مشتركاً.
أول ما حصل في بداية السبعينات هو صعود الجيل الثاني من الدكتاتوريين العرب من معمر القذافي إلى صدام حسين وحافظ الأسد وجعفر النميري وأنور السادات بدرجة أقل، ولاحقاً علي عبدالله صالح، الذين لم يرتقوا إلى مستوى مثلهم الأعلى جمال عبدالناصر في السياسة والجاذبية الجماهيرية، ولكنهم تفوقوا عليه في الاستبداد والقبضة الحديدية وتكريس عبادة الفرد كنموذج حكم. الآثار السلبية لهذه التحولات السياسية لم تظهر مباشرة ولكن الحتّ المستمر للحقوق السياسية والمدنية التي حصلت عليها الشعوب العربية خلال القرنين السابقين أدى إلى تصحر الحياة السياسية وسحق حرية وكرامة ومدنية الفرد والمجتمع لتحل محلها مفاهيم الرعب والتستر واللامبالاة من جهة والغضب والنقمة واليأس من جهة أخرى.
تبع ذلك إثر حرب 1973 تراجع القضية الفلسطينية عن مركزيتها في النظام العربي. فعلى رغم بعض النتائج الإيجابية التي حققتها الحرب، وفي شكل خاص صعود أسعار النفط صعوداً أدى إلى خلق مجتمعات رفاه الخليج بما لها وما عليها، انفضّت الأنظمة العربية عن القضية وسلمتها لمنظمة تحرير فلسطينية منهكة بسبب الصراعات الداخلية، لم تتقن تماماً إدارة قضيتها العادلة. وحصل ما حصل لما بقي من فلسطين: تمزقت إلى بانتوستانات متفرقة تحكمها منظمتان متنازعتان وتقبع كلها تحت احتلال إسرائيلي لم يعد بحاجة لدفع ثمن احتلاله. لكن انفراط عقد الإجماع العربي حول فلسطين كان له أثر مدمر آخر هو بيان ضحالة الهويات الوطنية في الدول الوحدوية في شكل خاص، والتي لم تستثمر في شكل كاف في خلق اللحمة الوطنية خلال العقود السابقة لادعائها الانتماء إلى الهوية العربية الجامعة. وهي في الحقيقة لم تتكئ سوى على أجهزة أمنها وقادتها الملهمين وأبواق دعايتها.
حرب لبنان الأهلية عام ١٩٧٥، فوق أنها دمرت لبنان النموذج شبه – الديموقراطي الوحيد في العالم العربي، فتحت الباب على حقيقة أن بعض البلدان العربية دول غير مستقرة، والفكرة الأخطر أن مكونات شعوبها لا يمكنها الاندماج مع بعضها في وطن واحد. فإذا كان لبنان «المتغربن» قد فشل في الحفاظ على وطنيته ومواطنيته، فما بالك بالدول الأخرى مثل العراق وسورية وليبيا واليمن التي أصبح الجامع الرئيسي فيها هو استبداد النظام الذي طمس كل التناقضات في تركيب شعوبه وعمق من حدتها؟
انهيار المنظومة الاشتراكية في بداية التسعينات عرّى ادعاءات الأنظمة العربية التقدمية وبيّن فشل مخططاتها الاقتصادية، لكنه أيضاً فتح المنطقة برمتها للرأسمال العالمي. ثم جاءنا المصاب الاقتصادي الأكبر مع استسلام أنظمتنا للعولمة من جهة، ومجتمعاتنا لاستهلاكية عمياء من جهة أخرى. لم تنشأ لدينا أي سياسات اقتصادية موحدة أو تحالفات مصرفية أو مالية متناغمة، وبقيت عملاتنا واقتصاداتنا في مهب رياح عولمية لا سيطرة لها عليها. هزلت أنظمتنا الزراعية والصناعية وتضعضت اقتصادتنا المحلية وافتقرت مدننا واكتظت بمهاجري الريف الذين فقدوا مقومات عيشهم وجاؤوها بحثاً عن حياة أفضل. في المقابل، صعدت طبقة جديدة من أثرياء الانفتاح تستنزف الموارد الوطنية ولا تساهم في بناء اقتصادات بلدانها بأكثر من الخدمات والاستيراد وتمويل الرفاه.
ثم جاءت استباحة الولايات المتحدة وحلفائها للعراق في بداية الألفية الثالثة بعد مغامرات صدام حسين الدون كيشوتية لكي تدمر البلد من جهة، وتكشف عجز النظام العربي وعفن هياكل دوله وتهافت مجتمعاته من جهة أخرى. الانقسامات القبلية والعرقية والمذهبية التي ظهرت على سطح الحياة العامة الراكد في العراق، ما لبثت أن تحولت سياسات وتحالفات ومخططات امتدت آثارها إلى معظم الدول المحيطة، وفي شكل خاص سورية، وأظهرت ضعفها البنيوي الذي كان قد اختفى تحت غطاء كثيف من إرهاب الأنظمة الحاكمة.
هذه التغيرات الهائلة وفشل الأنظمة العربية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً في مواجهتها وتقديم الحلول لها، هي ما أدى إلى انفجار التناقضات الكامنة في بنية المجتمعات العربية شبه – الحداثية التي بدأت بالثورات الساذجة للشعوب المسلوبة عام ٢٠١١ وانتهت بالفوضى التي نرى آثارها المدمرة اليوم. ومع أن صعود الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة، وتحول بعض حركاته إلى استخدام العنف والإقصاء والتمييز بطريقة وحشية غير مسبوقة، قد نُسب إلى عوامل دولية ومحلية وتاريخية مختلفة، فهو أيضاً نتاج هذه التغيرات نفسها. فالدين لم يغب قط عن كل تحولاتنا السياسية في القرن الماضي، حتى في أكثرها ابتعاداً عن الدين في فترة المد الاشتراكي في الستينات. فقد بقي للقيمين عليه دور أساس، وبتّار، ابتداءً من تنظيم المجتمع وسوسه وانتهاءً بخصوصية حياة حكامه حتى أولئك الذين سجنوا وعذبوا الإسلاميين.
ما حدث في العقدين الماضيين أن الحركات الدينية الجهادية، التي مولت بغالبيتها من قبل قوى خارجة عن مجتمعاتها، استغلت الفراغ الحاصل عن انهيار البنى السياسية الدولاتية وحلول عنف الدولة مكانه لكي تصعد وتقدم استجاباتٍ حدّية كان الناس قد هيئوا تعليمياً واستبدادياً وسياسياً لقبولها. فلا غرابة في أننا نجد حتى اليوم تقاعساً عن إدانتها حتى بين من هم في نهاية الأمر أول ضحاياها.
* كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، M.I.T.
الحياة