ما الذي لم تقله يا ميخائيل؟/ عزيز تبسي *
لم يكن الطريق طويلاً بين مكتبه وبيته. نزلا الدرج بتمهل حذر تقتضيه العتمة، وتوقف المصعد الكهربائي. أستمهله على الرصيف قبل أن يسارع نحو “الكراج” العميق، ليُخْرِج من جوفه سيارته نظيفة لامعة.
لم يعد بالإمكان إبلاغه أنه يفضل المشي على ركوب السيارة، وأن المسافة بين المكانَين لا تحتاج أكثر من عشرين دقيقة، تكون لهما فسحة للارتطام الرفيق بالسابلة المثقلين تحت أكياس حمولاتهم، ولتعقب تمتمات شفاههم المختلجة كأفواه أسماك منتزعة من مياهها، وللعبور الرائق بين العمارات، والتملّي في نباتاتها الخارجة عن حدود أسوارها.
مضت السيارة باندفاع أولي، قبل أن تستمهلها الحواجز العسكرية، والمنعطفات الحادة في ساحة “سعد الله الجابري” بحلب، أخذت طريقاً التفافياً حول سور “الحديقة العامة”، شارع الملك فيصل الأول، المطران هيلاريون كبوجي، الفرنسيسكان..
كانت المرة الأولى التي يزور بيت هذا الصديق الذي عرفه منذ زمن طويل، وتوطدت علاقاتهما خلال السنتين الأخيرتين. رجل نشيط ومنظم، عمل بعد تخرجه من كلية الاقتصاد والتجارة مع والده في استيراد ماكينات الخياطة وبيعها. بعدها درس مع شريكَين مشروع معمل لصناعة أكياس الخيش وأكياس من مواد أخرى، تُستخدم في جمع المحاصيل الزراعية ونقل البضائع، وعكفوا على إنشائه في المدينة الصناعية. انطلقت المنشأة وبدأت تقدم إنتاجها للأسواق، قبل “الأحداث” الأخيرة وفق تعبيره، التي عطلت دورتها الإنتاجية، قبل أن يفقدوا المعمل وآلياته ومواده الأولية، حسب الأنباء التي وصلت إليهم. خاف على ولده الكبير من أي استدعاء مباغت للخدمة العسكرية، قد لا يعود بعدها، أمن له إجازة سفر إلى ألمانيا الاتحادية ليتابع دراسته، لحقت به أمه وشقيقه الأصغر بعد استقراره الأولي.
وقفت السيارة أمام الرصيف المقابل لبوابة حديدية عالية وعريضة، مغطاة بزجاج أصفر شمعي، خرجا معاً، وتقدما نحو البوابة المقفلة.
– أول مرة تزورني؟
– نعم، أول مرة.. منذ متى تسكن حي “المحافظة” ؟
– من خمسة وعشرين عاماً، تزوجت في هذا البيت. وتابع بعجالة كأنما ليبلغه أنهما سيصعدان على السلم الحجري.. أسكن في الطابق الثاني، أي، لن يكون ذلك متعباً.
آثار غبار خفيف على زجاج البوابة، وعلى الممر الذي عبراه تباعاً. الصمت يخيم على المكان، لا صوت لموسيقى أو نشرة أخبار من التي باتت تسمع في هذه الأيام بصوت عال، أو حوارات عائلية صاخبة بين الآباء والأبناء.
– لم نعد نحضر عاملة تنظيف الدرج كل أسبوع، كما كنا نفعل في السابق، العمارة شبه خالية، والمياه شحيحة أو مقطوعة.. ما إن أكمل جملته حتى سمعا صوت باب يفتح وتطل من زاويته إمرأة عجوز.
– أهذا أنت يا ميخائيل، أستنام اليوم في البيت؟
-لا أعلم.. ربما. إن احتجت أي شيء، فأنا الآن في البيت لساعة على الأقل.
– ألا تنام في البيت؟ سأله وهما يدخلان الشقة.
– غالباً ما أنام عند صديقي الذي يشبه حاله حالي، نتسامر في هذه الليالي الطويلة، أو يأتي هو لينام عندي.
استمهله في الصالة الواسعة: “أعد قهوة وأعود..أتريد مشروباً آخر غير القهوة؟”. بدأ تعداد كل أنواع المشروبات الساخنة التي بإمكانه إعدادها، المتوفرة كل موادها في مطبخه.
– لا..
– إذا أحببت التعرف على البيت، وأشار بيده إلى الغرف الموزعة على طرفَي الصالة، تفضل دون إحراج.
– حالما تعود، نمضي معاً للتعرف عليه.
لم يتبين سبب إصراره على القدوم معه إلى البيت، ما داما يلتقيان معاً في مكتبه، ليتبادلا الأحاديث المتنوعة باقتصاد مبالغ فيه غالباً، وبإسهاب غير مبرر أحياناً، إلا بكونه طريقة لتبديد الوقت المبدد. أهي الوسيلة المتبقية للإفصاح عن الكتامة العائلية، التي عادة ما تبقى، مرتهنة لأسرارها ولقيمها المخصوصة.
نهض، تقدم نحو الجدار المقابل.. توقف أمام مجموعة موزعة من الصور العائلية، تظهره مع زوجته في أول زواجهما، وولديه بصورهما المفردة، وهما يشتركان في ركوب دراجة هوائية، لوحات “الكنفا” بتدرجات ألوانها الترابية، السجادات الصغيرة الناعمة، أطباق النحاس المحفور عليها صور لحقول وعناقيد عنب. وصل من آخر الممر، حاملاً طبقاً خشبياً عليه ركوة القهوة وفنجانَين وكأس ماء، سأحكي لك عن هذه اللوحات بعد أن نحتسي القهوة.. لكنهما، دون إرادة، وقفا معاً قبل أن ينهيا القهوة، تقدم نحو الممر، واتجه نحو غرفة في نهايته. فتح بابها برفق، أضاء النور، ظهر سريران متقابلَان كأنما رُتبت للتو أغطيتهما ووسائدهما، طاولتَين متعاكستَين على زاويتَيهما الكتب والدفاتر والأقلام، تعلوهما أرفف ممتلئة بكراريس وأشرطة موسيقية، وقطع تذكارية لحيوانات أفريقية ومدن أوروبية باذخة.. لم يحتج الأمر ليقول: هذه غرفة الولدَين، لكنه قالها.. لا لقيمة المعلومة المرئية بوضوح مكتمل، بل ليستدعيهما من غربتهما البعيدة.
انتقلا إلى غرفة أخرى، ظهر أثاثها الأبيض الرائق، وسائدها المطرزة حوافها، غطاء السرير المشترك، المخمور بدانتيل مكتوم أريج أزهاره، مسلوبة ألوانه، مجزوزة سيقان نباتاته، منكسة أطرافه نحو بلاط مذبحه المحتوم.
لف كتفه بذراعه، وقاده إلى المطبخ، حدثه عن مواعيد اقتناء الثلاجة الواسعة، جلاية الأطباق، مجموعة الخلاطات والعصارات والفرّامات.. فتح باب المطبخ المطل على شرفة، أشار بيده إلى منقل مركون في زاويته “كنت أحب أشوي لهم الكباب، الأسماك والباذنجان والبطاطا.. بينما كانت ماريا تعد لنا أطباق التبولة والسلطة”.
– أتحتاج أي شيء من أثاث البيت، أي شيء تحتاجه، اطلبه.
– لا، شكراً، لا أحتاج شيئاً.
– ألا تحتاج.. وأشار بيده الممدودة إلى كراسي خشبية قاسية وثقيلة، إلى شجيرة كهربائية تتدلى من نهايات أغصانها مصابيح بأشكال فاكهة استوائية، إلى مجموعة من السجادات المركونة في زاوية صالة الطعام.
رغب أن يقول له: “لماذا توزع أثاث البيت، ألن يعودوا بعد نهاية الأزمة”، لكنه قال: “بيتي ضيق، ولا يتسع لمثل هذا الأثاث الفاره، كانت عبارته هي عينها الحقيقة المنقذة من تتابع هذه الطلبات السخية”.
– هل ستنتهي الأزمة؟
– بالطبع ستنتهي، كما هي حال كل “أزمة”.
لم يرغب في إحباطه أكثر مما هو محبط، ليذكره بـ”الأزمات” التي لا نهاية لها، أي بقضايا شعوب بلا حلول تقف على أسباب المشكلة، ومن تسبب بها، وعلى إنتاج مخارج لها.. وعن أنظمة الحروب الأهلية. لا مجال للحديث عن أن كل نظام يحمل في عمقه حربه الأهلية، يهندس قواعدها، ينظم قواها، يهدد بها قبل أن يفجرها، ساعة يشعر أن سلطته باتت في موضع المساءلة العمومية.
هل يحتمل هذا اللقاء المنتزع من جوف الماضي العائلي، تذكر التعاريف المنهجية التي قاربت السلطات الفاشية، الحكومات العسكرية، الأنظمة الاستثنائية، الجماعات المافياوية.. والخيارات المروعة المنبثقة عنها. هل بات يفيد تعبير “الانتحارية” في وصف خياراتها ومسارها، وهل يفيد بعد ذلك التأكيد، أنه حين يتموضع الصراع السياسي على الجماعات الأهلية وهوياتها المتآكلة، يتحول إلى صراع ضوارٍ.
– تأخر الوقت، أريد الوصول إلى البيت قبل حلول الظلام.
– سنخرج معاً، انتظرني دقائق، لأتأكد من إغلاق النوافذ والغاز. هرول تائهاً في أطراف البيت ليغلق أبواباً مغلقة، ويسدل ستائر مسدلة، وليتأكد من توقف غسالة لم يدر محركها منذ زمن طويل.
* كاتب من سوريا
السفير