ما الذي يحدّد الموقفين الروسيّ والصينيّ من الأزمة في سورية؟
وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
لم تنجح زيارة وزير الخارجيّة الروسيّ، سيرغي لافروف، إلى دمشق يوم 7 فبراير / شباط 2012 في إعطاء دفعٍ جديد للمبادرة العربيّة، على الرّغم من التّصريحات الرسميّة الروسيّة بعكس ذلك. ففي الوقت الذي نقلت فيه وكالة انترفاكس للأنباء عن لافروف قوله “إنّ الأسد أبدى اهتمامًا بمواصلة مهمّة بعثة المراقبين العرب في سورية وزيادة عدد أعضائها”، أعلنت دول مجلس التعاون الخليجيّ قرارها بطرد سفراء سورية من أراضيها وسحب جميع سفرائها من دمشق، وذلك “بعد رفض النّظام السوريّ جميع المحاولات وإجهاضه كافّة الجهود العربيّة المخلصة لحلّ هذه الأزمة وحقن دماء الشّعب السوريّ”، بحسب البيان الصّادر عن المجلس. وما إن عاد لافروف إلى بلاده، حتّى أعلنت الصّين أنّها قد ترسل مبعوثًا إلى المنطقة وأنّها “ملتزمة بصداقة العالم العربيّ”، ما يوحي بأنّ بكين واعية بالغضب الذي أثاره في العالم العربيّ موقفها في مجلس الأمن الدوليّ.
استخدمت روسيا والصّين في نهاية الأسبوع الماضي حقّ النّقض (الفيتو) ضدّ مشروع قرار عربيّ- غربيّ لمجلس الأمن الدوليّ يدعم مبادرة جامعة الدول العربيّة لمرحلةٍ انتقاليّة في سوريا. وفي حين صوّتت بقيّة دول المجلس الثّلاث عشرة لصالح مشروع القرار، عُدّ الاعتراض الصينيّ- الروسيّ انتكاسة في المساعي الدبلوماسيّة الرّامية إلى وقف العنف وتسهيل نقل السّلطة في سورية. وكان السّؤال الذي استعصت على المراقبين الإجابة عنه هو: لماذا هذا الموقف الثنائيّ المعارض لمشروع قرار عدّه البعض “حدًّا أدنى” لِما يمكن عمله لمساعدة السوريّين في هذه الأزمة؟
ليس هناك جوابٌ واحد محتمل عن السّؤال المطروح. الحقيقة أنّ الوضع المعقّد في سورية يقابله تعقيد آخر في التّعامل مع الأزمة على أساس نظريّات وطروح وافتراضات وحسابات احتمالات مختلفة. منها ما يتعلّق بروسيا أو الصّين كلّ على حدة، و منها ما تشترك فيه الدّولتان.
هناك محدّدات ذات طابع أيديولوجيّ، ومحدّدات أخرى ذات طابع مصلحيّ اقتصاديّ وإستراتيجيّ. يجدر القول إنّه لا يمكن اعتبار أيّ من هذه العوامل العامل الحاسم في تحديد الموقفين الروسيّ والصينيّ. نذكر من بين هذه العوامل: 1-“الأنانيّة القوميّة”. 2-دروس ليبيا. 3-طموحات السّياسة الخارجيّة وأهدافها ووسائلها.4- الخوف من الإسلام السياسيّ وتأثيرات الرّبيع العربيّ.5- الدّفاع عن آسيا الوسطى والقوقاز في الشّرق الأوسط.
أتى الموقف الروسيّ- الصينيّ من الأزمة في سورية، في ظلّ وضعٍ دوليّ يتّسم بأزمةٍ ماليّة كبرى تعصف باقتصاديّات أوروبا والولايات المتّحدة، وهو عاملٌ له أهمّيته، حيث ينعكس في محاولة إدارة أوباما تخفيض النّفقات العسكريّة، بما يعنيه ذلك من تقليص الدّور العسكريّ الأميركيّ، وصياغة إستراتيجيّة عالميّة جديدة تستبدل الانتشار الواسع للقوّات، بمفهومٍ قائم على “قوّات مشتركة أصغر حجمًا وأكثر سرعةً وخفّة، على أهبة دائمة للتحرّك والانتشار، تتميّز بالقدرة على التّجديد والتفوّق التكنولوجيّ”[1] هذا من ناحية. ومن ناحيةٍ أخرى، نرى محاولاتٍ من روسيا والصّين لاستعادة بعض مواقع القوّة والنّفوذ على المسرح العالميّ (خاصّةً بالنّسبة إلى الرّوس) ولتوسيع مجالات الاهتمام الإستراتيجيّة مع تنامي القوّة الاقتصاديّة (بالنّسبة إلى الصّين).
1- البحث عن دور بحسابات “الأنانيّة القوميّة”
لا يمكن تجاهل أهميّة سورية كمركّبٍ أساسيّ في الصّراع العربيّ-الإسرائيليّ، والقضايا الإقليميّة، ولكن من غير المرجّح أن يكون الرّوس والصينيّون بنَوْا موقفهم من الأزمة الحاليّة على أساس مضاعفات الصّراع العربيّ- الإسرائيليّ. وفي رأي أصحاب هذا الطّرح فإنّ موسكو وبيكين لا تميلان إلى تشجيع المقاومة الفلسطينيّة، وتحديدًا تلك الفصائل التي كانت عشيّة اندلاع الثّورة في سورية، مقيمة في ضيافة هذا البلد. وروسيا جزءٌ من الرباعيّة الدوليّة، وقد تهرّبت من أن تبيع سوريا سلاحًا دفاعيًّا نوعيًّا ضدّ إسرائيل على الرّغم من إلحاحها. ويخطئ من يتصوّر أنّ روسيا ميدفيديف/بوتين هي الاتّحاد السوفياتيّ زمن خروتشوف وبريجنيف، على الرّغم من أنّ الزّعماء الحاليّين وعلى رأسهم بوتين هم بدرجةٍ أو بأخرى من مخلّفات جهاز الأمن السوفييتيّ(K.G.B).
وعندما بدأت أحداث الرّبيع العربيّ تتوالى، ظهرت تحاليل تقول “إنّ هذه الاضطرابات بثّت رسائل عبر العالم مفادها أنّ العرب يعادون الولايات المتّحدة وإسرائيل حتّى عندما تكون أنظمتهم في صفّ أميركا. ومن ثمّ، فإنّ الصّين وروسيا قد تريان في ما يحدث الآن فرصةً لتحسين موقعيهما في المنطقة”[2].
ولكن ما السّبيل إلى ذلك، يقول البعض، إذا لم تقفا ضدّ الأنظمة غير الشعبيّة التي كانت تدعمها الولايات المتّحدة، أي إلى جانب الثّورات؟
في الواقع، لقد حدث العكس تمامًا: رأينا الولايات المتّحدة والدّول الغربيّة، بعد فترةٍ من التردّد، تحاول أن تستفيد من الحراك الثوريّ الجديد الذي فاجأ الجميع، ولم تتوقّعه أجهزتها ولا أجهزة الأنظمة المعنيّة نفسها، فـ”تدور باتّجاه الرّيح” وتصبح هي في طليعة مشجّعي الحكّام الأوتوقراطيّين على الرّحيل لتسهيل نقْل السّلطة. في الوقت ذاته، تبيّن “عجز ” الدبلوماسيّتين الروسيّة والصينيّة عن التّأقلم بالسّرعة نفسها، “لاحتجاز مكان” في قطار الثّورات المسرع، من تونس إلى مصر، وإلى ليبيا واليمن، فسورية…
و لا يستبعد أصحاب هذا الطّرح أن يكون هذا “العجز” متعمّدًا جزئيًّا.
فمن ناحيةٍ أولى، يروْن أنّه لا روسيا ولا الصين اللتين تعتبران نفسيهما “قوى عظمى” وتحاولان الحفاظ على “هيبة الدّولة” قدر المستطاع خاصّةً على المسرح العالميّ، ترغبان في أن تكونا “عازفتي كمان” في جوقة مجلس الأمن الدوليّ التي يسيطر عليها – كمّيًّا – الغرب. فالتّعريف البسيط لـ”دولة عظمى” يوحي بأنّها ذات زعامةٍ ونفوذ. وهذا النّوع من الاعتبارات له أهميّته في الفترات الانتخابيّة (بالنّسبة إلى بوتين خاصّةً) وفي الزّمن العاديّ ( كون الصّين دولة صاعدة عالميًّا يجب أن يكون لها صوتها المميّز).
ويشير بعضهم إلى نظريّة الأوراسيّة لفهم الموقف الروسيّ. وهو تيّار سياسيّ أعلن عن تأسيسه رسميًّا في موسكو في نيسان / أبريل 2001 على يدي ألكسندر ديوجين، مستشار رئيس الدّوما (البرلمان). وقد كان التيّار داعمًا أساسيًّا للسيّد بوتين، الذي تبنّاه بدوره[3]. ومن الملفت أنّ هذه الأيديولوجية التي حلّت محلّ الشيوعيّة في روسيا تهدف إلى نشر “فكرةٍ جديدة” عن روسيا تقوم على أساس أنّها تجسّد حضارة أوراسيا الجامعة بين السلافيّة والشّعوب الآسيويّة، بل إنّ ” قدر القارّة الأوراسيّة هو أن تكون إمبراطوريّة بغضّ النّظر عمّن يحكمها، سواء أكان خانات التتر، أو قياصرة روسيا، أو البولشفيك”[4] أو سواهم… من الضروريّ أن نفهم أيضًا أنّ “فكرة أوراسيا كانت دائمًا موجّهة ضدّ تأثير الغرب”[5]، وأنّها تخترق جهاز المخابرات الروسيّ وتمثّل إلى حدٍّ بعيد تفكير النّخبة المحيطة ببوتين.
أمّا الصين، فلا حاجة للتّذكير أنّها ترى نفسها كذلك أمّة ذات قدر تاريخيّ ودور متزايد في المسرح العالميّ. وهو دور ينافس بالتّأكيد الدّور الغربيّ. وقد عبّرت عن ذلك صراحةً مؤخّرا صحيفة صينيّة بارزة، قائلةً: “إنّ على العالم أن يتعوّد على سماع الصّين تتحدّث عن حقائقَ مرّة فيما يتعلّق بصراعاتٍ دوليّة مثل ذلك الدّائر في سورية. وإنّ استخدامها الفيتو لعرقلة قرار مجلس الأمن بشأن الأزمة السوريّة يظهر أنّ الصّين لن تكون عضوًا موافقًا على طول الخطّ”[6].
من ناحيةٍ ثانية، لا تمثّل روسيا والصّين نظامًا ديمقراطيّا ذا صدقيّة في الدّاخل، ولا تمثّلان أيّ دعامة حقيقيّة أو وهميّة للحركة الديمقراطيّة في العديد من المناطق التي لهما فيها تأثير واستثمارات وأسواق. فأين هي الديمقراطيّة النّاشئة التي دعمتاها، وفي أيّ دولة؟ ولماذا ستدعمان قوى الثّورة الوطنيّة الديمقراطيّة في سورية إذنْ؟
2- دروس ليبيا في بيكين وموسكو
يعطي الطّرح الثّاني أهمّية للسّابقة الليبيّة، ويرى أنّ المعضلة الحقيقيّة بالنّسبة إلى الصّين وروسيا بدأت مع الثّورة في ليبيا ضدّ نظام العقيد، وليس قبلها، لأنّ نظامي بن علي وحسني مبارك سقطا من دون تدخّل قوّةٍ خارجيّة. وفي الوقت الذي نرى فيه الغرب (باستثناء فرنسا) يركب الموجة الثوريّة ويساندها ضدّ “أصدقائه” (ولو بعد تردّد)، بقيت كلٌّ من روسيا والصّين في موقفٍ غائم وغير محدّد. وتواصل التردّد – بل تفاقم بشكلٍ خاصّ مع اندلاع أحداث ليبيا، لأنّ نظام العقيد كان حليفًا قديمًا لروسيا، ولم تكن الصّين أيضًا لتغيب عن العديد من المشاريع الاستثماريّة في هذا البلد. وعندما اشتدّ العنف في ليبيا، وتصاعدت الأصوات المطالبة بالتدخّل الخارجيّ، تصدّرت فرنسا دعم التدخّل، فيما وقفت كلٌّ من روسيا والصّين موقفًا معارضًا لأيّ تدخّلٍ خارجيّ. بيد أنّهما في النّهاية لم تعترضا على تبنّي مجلس الأمن الدوليّ القرار رقم 1973 يوم 17آذار / مارس 2011 الذي فرضت بمقتضاه منطقة حظر في الأجواء الليبيّة مع السّماح باتّخاذ كلّ الإجراءات اللازمة لحماية المدنيّين، والذي فسّره التّحالف ضدّ القذافي بأكثر ممّا يحتمل. ولكنّه القرار الذي لم تعترض عليه روسيا والصّين، ما يعني عمليًّا إعطاء الضّوء الأخضر للحلف الأطلسيّ كي يتدخّل عسكريًّا، وهو ما شرعت فيه القوّة الجويّة الفرنسيّة فعلًا، ثمّ لحقتها بعد ذلك القوّات المشتركة الإيطاليّة والبريطانيّة والأميركيّة. ولم يكن مؤدّى ذلك انهيار نظام القذافي فقط، وإنّما بمقاييس لغة المصالح الدوليّة، انتهاء النّفوذ الروسيّ في ليبيا ووقوف الصّين متفرّجة تقريبًا.
ويؤكّد أصحاب هذا الطّرح أنّ أحداث الثورة الليبيّة خلّفت بعض المرارة لدى الرّوس والصينيّين[7]. فعدم اعتراضهم على قرار مجلس الأمن الذي أتاح التدخّل لم يجعلهم راضين، ولم يعد عليهم بأيّ فائدة، حيث تمّ كلّ شيء باسم حلف شمال الأطلسي. وهو ما قد يضع ليبيا – أيًّا كان النّظام الذي سيخلف القذافي – لمدّةٍ لا بأسَ بها ضمن نسقٍ أمنيّ وإستراتيجيّ يسيطر عليه الغرب. وحتّى إذا لم يقع ذلك، فلا الصّين ولا روسيا ضمنتا لنفسيهما مكانًا مريحًا للصّفقات الاقتصاديّة وصفقات التّسليح.
ولا يستغرب أصحاب هذا الرّأي بالتّالي وقوف روسيا والصّين ضدّ أيّ قرارٍ يصدر عن مجلس الأمن الدوليّ ضدّ الحكومة السوريّة. فقد أصدرت الدّولتان بيانًا مشتركًا بخصوص هذا الموضوع في أعقاب زيارة الرّئيس الصينيّ إلى روسيا في يونيو / حزيران 2011. وصرّح كلٌّ من الرّئيسين هو جينتاو وديميتري ميدفيديف آنذاك أنّهما يعتقدان “أنّ البحث عن تهدئة الوضع في أقطار الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا ينبغي أن يكون في إطار القانون وبالوسائل السياسيّة. وعلى القوى الخارجيّة ألّا تحشر نفسها في عمليّاتٍ داخليّة خاصّة ببلدان المنطقة”[8].
ويذكرون أنّه منذ اندلاع الثّورة في سورية إلى اليوم، لم يطرأ على الموقفين الروسيّ والصينيّ من الأزمة تغييرٌ يُذكر. فهو يعني في السّطر الأخير دعم الحكومة السوريّة.
3- سياسة خارجيّة طموحة ولكن تفتقر إلى المرونة
يذكر أصحاب هذا الطّرح بأنّ سورية لا تمثّل “فتحًا” جديدًا لروسيا التي ورثت موقعها الإستراتيجيّ في هذا البلد عن الاتّحاد السوفياتيّ السّابق، من دون أن تكون روسيا ميدفيديف/بوتين تحديدًا هي النّظام السوفياتيّ. و في حين يؤكّدون على أنّ الصّين نفسها تغيّرت كثيرًا بدخولها معترك عولمة اقتصاد السّوق، فإنّ سياستها الخارجيّة لا تزال تخضع لمعايير المنافسة القطبيّة، باعتبارها القوّة الصاعدة على مسرح السياسة العالميّة. إنّ “الكليشيه” الذي انتشر بعد سنة 2000 والقائل إنّ “روسيا تنهض الآن من جثوتها على ركبتيها” صادف تخلّي الزّعماء الصينيّين عن شعار “نهوض الصّين السلميّ” وتعويضه في سنة 2005 بمفهوم “عالم متجانس من الرّفاه المشترك”[9]. ومن ثمّ، “ركّزت الدّعاية الصينيّة جهودها على خلق صورةٍ لصينٍ حديثة، وسلميّة “تصعد” دون أن تركب فوق أيّ طرف وعلى استعدادٍ لتقاسم ثمار ازدهارها مع غيرها من البلدان”[10].
ويلحّ أصحاب هذا الرّأي على انتهاج الصّين إستراتيجيّة تعكس تنامي نفوذها في العالم. ويرون أنّ سياستها الخارجيّة تهدف في المقام الأوّل، إلى ضمان الظّروف الملائمة لتحسين نموّها الاقتصاديّ. لهذا السّبب، “تؤكّد بكين على خلق مناطق حسن الجوار ومناطق ازدهار متبادل على طول حدودها (بما يضمن علاقات جيّدة مع روسيا كذلك) مع إيلاء اهتمام خاصّ للمناطق والبلدان التي تجدها “مهمّة” سواء بسبب احتياطيّاتها الغنيّة من الموادّ الخامّ والطّاقة، أو تقنياتها العالية ونماذجها الابتكاريّة”[11]. في الوقت نفسه، فإنّ الطّريقة التي تنتهجها الصّين في ممارسة النّفوذ، بعيدًا عن القوّة العسكريّة، تلجأ إلى “القوّة النّاعمة” التي تقوم على الإدماج الاقتصاديّ النّشيط والمشاركة التنمويّة والاستثماريّة. ويذكرون دراسةً أجراها معهد روبيرت فاجنر للإدارة العامّة في جامعة نيويورك تكشف أنّ “المساعدات والمشاريع الاقتصاديّة المدعومة حكوميًّا المقدّمة للعديد من البلدان في أفريقيا وأميركا اللاتينيّة وجنوب شرقيّ آسيا شهدت نموًّا مطّردًا من أقلّ من 1 بليون دولار في 2002 إلى 27.5 بليون دولار في 2006 و 25 بليون دولار في 2007″[12]. ويستنتجون أنّ سياسة “المساعدات” الاقتصاديّة هذه شبيهة تمامًا بسياسة “المساعدات” الأميركيّة… فهي مدخل طبيعيّ للتّأثير وممارسة النّفوذ في مناطقَ كانت في الحرب الباردة مجالًا للصّراع على النّفوذ بين القطبين، وغدت بانتهاء الحرب الباردة وانهيار الإمبراطوريّة السوفياتيّة مجالًا تتصرّف فيه الولايات المتّحدة وحلفاؤها بحرّية أكبر. ولئن لم تكن سورية تمثّل “زبونًا” مهمًّا للصّين، فالشّرق الأوسط يهمّها بشكلٍ خاصّ (فهو يمثّل 58 في المئة من وارداتها النفطيّة حاليًّا)[13]، وإيران (الحليف الأوّل لسورية) بشكلٍ أخصّ، ولا سيّما هي أكبر مستوردٍ للنّفط الإيرانيّ، وتقدّر “صفقات الطّاقة التي تربطهما بمبلغ 120 بليون دولار”[14]. ويذكّرون ببعض التّقارير الأميركيّة التي تشير إلى أنّ الصّين قدّمت لسورية “تكنولوجيا خاصّة بأسلحة الدّمار الشّامل”[15]، ويرجّح أن يكون هذا الادّعاء ضمن سياسة ردع سوريا عن البحث عن أيّ توازن إستراتيجيّ مع إسرائيل ولو كان دفاعيًّا ردعيًّا.
ويرى أصحاب هذا الطّرح أنّ هذا التّنويع هو الفرق الأساسيّ مع روسيا التي لا تزال تستعمل الصّناعة العسكريّة كمدخل أساسيّ للنّفوذ. ويذكّرون مثلًا بتقديرات معهد ستوكهولم الدوليّ لبحوث السّلام التي تقول “إنّ المبيعات الروسيّة للسّلاح إلى سورية بلغت 162 مليون دولار سنويًّا في 2009 و 2010. ( وهو ليس رقمًا ذا بالٍ لتحدّد بموجبه إستراتيجيّة سياسيّة)، أمّا القيمة الجمليّة للعقود السوريّة مع الصّناعة الدفاعيّة الروسيّة، فيرجّح أن تتجاوز أربعة بلايين دولار. وتستفيد روسيا كذلك من “تسهيلاتٍ” بحريّة تستأجرها في ميناء طرطوس السوريّ، بما يمنحها المدخل المباشر الوحيد إلى البحر الأبيض المتوسّط الموجود تحت تصرّفها.
4- الخوف من الإسلام السياسيّ وتأثيرات الربيع العربيّ
عندما يتساءل أصحاب هذا الطّرح: كيف أمكن أن تقف الصّين وروسيا موقفًا يجعلهما عمليًّا في وضعٍ مضادّ لا للثّورة في سورية فحسب، وإنّما أيضًا لمجمل سياق الرّبيع العربيّ؟ يجيبون ملمّحين إلى الأوضاع في آسيا الوسطى[16]. وفي رأيهم أنّ هذا هو الهمّ المشترك لروسيا والصّين. وهم لا يستبعدون وجود توجّسٍ إزاء تأثيرات غير مرغوب فيها للثّورات العربيّة وانزياحها شرقًا بدءًا بتونس، ثمّ مصر، واليمن وسورية، ويذكّرون بمحاولةٍ جادّة اتّبعت الأثر نفسه في العراق في 25 آذار / مارس 2011، ولكنّها أُجهضت. ويتساءلون: ماذا بعد سورية سوى إيران والقوقاز؟ وقد تفاقمت المخاوف ولا سيّما بعد وصول الإسلاميّين إلى الحكم في تونس ومصر، واحتمال سيطرتهم أيضًا في أكثر من بلد وصولًا إلى جوار روسيا والصّين.
ويذكّر أصحاب هذا الطّرح بالعنف الذي كان اندلع في القوقاز الشماليّ وآسيا الوسطى قبل الرّبيع العربيّ. ويؤكّدون أنّه في كلٍّ من قيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، لم تنجح الأنظمة في لجم الاحتجاجات إلّا عرَضًا. فالوضع بحسب عدّة تقارير يوشك على الانفجار. والصّور التي تنقلها شاشات التّلفزيون عن المحتجّين العرب في السّاحات العامّة من تونس إلى صنعاء ومن القاهرة إلى دمشق، لا يمكن اعتبارها مساعدة للحكّام في السّيطرة على المعارضين. وتعدّ آسيا الوسطى منطقةً إستراتيجيّة حيويّة لكلٍّ من الصّين وروسيا في صراعهما على النّفوذ هناك، الخفيّ تارةً والعلنيّ تارةً أخرى مع الولايات المتّحدة. والمسألة هنا تتعلّق بالموادّ الخامّ وإمدادات النّفط الضروريّة لاستمرار عمليّة التّنمية. فالصّين تعدّ نفسها “زعيمًا اقتصاديًّا” لكامل أوراسيا، وهي المستثمر والشّريك التجاريّ الرّئيس في عدّة بلدان من بينها قيرغيزستان وطاجكستان وكازاخستان وتركمانستان، وهي جميعًا مناطق نفوذ قديمة لروسيا، منذ عهد الاتّحاد السوفياتيّ. وهي جميعًا، بالنّسبة إلى أصحاب هذا الطّرح، معرّضة أيضا لهزّاتٍ وقلاقلَ بسبب نشاط الحركات الإسلاميّة وامتداد تأثيرها في ظلّ استمرار الحركات الاحتجاجيّة في العالم العربيّ.
5- خطّ الدّفاع عن آسيا الوسطى والقوقاز يبدأ من العالم العربيّ
يحاول البعض فهم الموقف الروسيّ والصينيّ ابتداءً من المصالح. ويرون أنّها نوعان: اقتصاديّة وإستراتيجيّة. فيؤكّدون أنّ الاقتصاد السوريّ الذي دخل منذ انفجار الثّورة مرحلة العطالة تقريبًا، لا يقدّم الكثير من الوعود للصّين وروسيا، سواء في حالته الحاضرة أو في حالته المتوقّعة إذا استمرّت الاضطرابات، أو حتّى إذا نجحت الثورة[17]. ولا تعطي بعض التوقّعات لنظام بشّار الأسد أكثر من ثمانية عشر شهرًا من الحياة بنسبة 45 إلى 55 في المئة تبلغ فيها المخاطر بالنّسبة إلى قطاع الأعمال الدوليّ ( نقل الأموال، الاستثمار المباشر، سوق الصّادرات) درجة عالية جدًّا، وتنحدر فيها نسبة نموّ النّاتج المحلّي الإجماليّ من نسبة 4.9 في المئة كمعدّلٍ في الفترة 2006-2010، إلى أقلّ من 2.0 في 2011 و 1.8 بين 2012 و2016. وسيبلغ التضخّم نسبة 9.1 في المئة، وستحقّق الميزانيّة عجزًا يبلغ 3.50 بليون دولار[18].
بقي العامل الجيو – سياسيّ (الإستراتيجيّ).
يرى بعض الخبراء أنّ الصّين التي “لا تريد إغضاب الرّوس أو إلحاق الضّرر بعلاقاتها مع الولايات المتّحدة والغرب عامّةً، ولا هي تشعر بالحاجة الماسّة إلى ممارسة سيطرةٍ مباشرة على آسيا الوسطى”، تجد نفسها على ما يبدو مجبرةً على توقّع الكارثة ومحاولة الحدّ من تأثيراتها السلبيّة بطريقةٍ استباقيّة. يعني هذا أنّه بالنّسبة إلى كلٍّ من روسيا والصّين، فإنّ خطّ الدّفاع عن مصالحهما في آسيا الوسطى يقع اليوم في المنطقة العربيّة.
ويذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك، فيقول إنّ في كلٍّ من روسيا والصّين أعدادًا مهمّة من السكّان المسلمين، ما يشكّل “تربةً” محتملة لنشاط الحركات الإسلاميّة، أو على الأقلّ تأثيرها. فالصّين لديها ما لا يقلّ عن 25 مليون نسمة من المسلمين (2 % من السكّان تقريبًا)، أمّا روسيا، فما لا يقلّ عن 25 % من سكّانها مسلمون ( هم الآن في حدود 25 مليون نسمة من 145 مليون) ينتشرون في مناطقَ مفتاحيّة خطيرة بالنّسبة إلى روسيا(في القوقاز، وعلى البحر الأسود، وفي حوض الفولغا، وإلى الشّرق في الأورال وسيبيريا). ويشكّل المسلمون عنصر السكّان الأصليّين(دون المهاجرين والمستوطنين الرّوس) في جمهوريّات داغستان، وأنغوشيا، وجيجنيا (الشّيشان) وأوسيتيا الشماليّة وكاباردينو بلكارسكايا وكريميا (القرم) وجوفاشيا وموردافيا وباشكيريا، وأقاليم قرة جاي والادجيا وأوريغا وغيرها.
ويذكّرون بوجود فاعلين مهمّين آخرين من خارج المنطقة ومن داخلها لهم أيضًا دور منافس على المسرح الإقليميّ. ففضلًا عن الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي واليابان، وكلّ منها يحاول أن يكون له موقع قويّ في العالم العربيّ وفي آسيا الوسطى، هناك أيضًا تركيا وإيران والمملكة العربيّة السعوديّة. وليس من بين هذه الأطراف الثّلاثة فاعلٌ يَسعد الرّوس والصينيّون برؤية تأثيره الأيديولوجيّ.
خاتمة: الرّهان يتجاوز سورية
خلاصة القول إنّ العوامل السّابقة جميعًا تتظافر لتوحي بأنّ الموقف من سورية يتجاوز حتّى البلد نفسه، من دون أن يعني ذلك تجاهل أهميّته في التّشكيل الحاليّ لجغرافيا المنطقة السياسيّة أو في الصّراع العربيّ الإسرائيليّ. فالرّهان أكبر من ذلك وأخطر بكثير ممّا يبدو على السّطح. ولكن كما قلنا، ليس هناك عاملٌ واحد يفسّر الموقف برمّته.
إنّ “الغبن الجغرافيّ” الذي يعاني منه الاتّحاد الروسيّ (قلب أوراسيا) في الوصول إلى البحر المفتوح يمثّل أحد العوامل المحدّدة للموقف الروسيّ من سورية، غير أنّه لا يفسّر كلّ شيء، وهو يعدّ من نوع المحدّدات القابلة للتّفاوض والتّباحث لضمان مصالح روسيا. أمّا الصّين، فمستقبلها التنمويّ مرتبط وثيق الارتباط بالطّريقة التي ستعالج بها علاقاتها مع بلدانٍ مفتاحيّة بالنّسبة إلى الطّاقة، وهي: إيران والسعوديّة. ولكلٍّ منهما موقف مختلف من الأزمة في سورية.
ومن ثمّ، وباعتبار ما تقدّم، فإنّ أيّ تغييرٍ محتمل في الموقفين الروسيّ والصينيّ سوف يقوم على أساس معادلة جيو-سياسيّة جديدة، يقع التّفاوض عليها مع الفاعلين الرّئيسين المهتمّين بالتطوّرات الحاليّة في العالم العربيّ وإسقاطاتها المحتملة في آسيا الوسطى وشماليّ القوقاز. ومن خلال عمليّة التّفاوض والمساومة (ولعلّها تحدث الآن وراء الكواليس)، سيتمّ إيجاد “التّسوية” التي تحفظ لروسيا والصّين مصالحهما أو بعضًا منها على الأقلّ في النّظام الإقليميّ الجديد الذي بدأ يتشكّل في المنطقة.
وقد لا يكون حسم مسألة نظام الحكم في سوريا مرتبطًا بالفيتو الروسيّ والصينيّ، ولا سيّما إذا لم تكن ساحة الصّراع الحاسمة هي مجلس الأمن.
[1] Department of Defense, “Sustaining U.S. Global Leadership: Priorities for 21st Century Defense”, 05/01/2012:
http://www.defense.gov/news/Defense_Strategic_Guidance.pdf
[2] Nazir Hussain, “Unrest and Revolt in the Arab World: Impact on Regional Security”, Pakistan Horizon, Jul2011, Vol. 64 Issue 3, p43-58.
[3] Caroline Humphrey, “Eurasia , Ideology and the political imagination in provincial Russia”, In: C.M. Hann (Edited by), Postsocialism, Ideals, ideologies and practices in Eurasia, (London & New York, Routledge, 2002), p. 258.
[4] المصدر السابق، ص. 262.
[5] المصدر نفسه، ص. 263.
[6] “مبعوث صيني للشرق الأوسط لمناقشة أزمة سوريا”، صحيفة الراية القطرية، 8/2/2012، ص. 37.
[7] من الملاحظ أنّ فلاديمير بوتين انتقد القرار 1973 بشدة ووصفه بأنه “خاطئ وغير ملائم”. أما ميدفيديف، فقد ندم على ترك القرار يمرّ، وعبّر بعد نحو شهرين عن “حزنه” لأنّ “أفعال بعض الدول قد داست على نصّ القرار”، انظر:
Pavel K. Baev, “Russia’s Counter-Revolutionary Stance Toward the Arab Spring”, Insight Turkey, Vol.13, N.3, 2011, pp.11-19.
[8] Nazir Hussain, op.Cit.
[9] Evgenii Verlin & Vladislav Inozemtsev, “Russia-China: Time for a Course Correction”, Russian Politics & Law, Nov/Dec2011, Vol. 49 Issue 6, p54-73.
[10] المصدر نفسه.
[11] المصدر نفسه.
[12] Thomas Lum, Hannah Fisher, Julissa Gomez-Granger, Anne Leland, “China’s Foreign Aid Activities in Africa, Latin America, and Southeast Asia”, Congressional Research Service Report, February 25, 2009.
http://fpc.state.gov/documents/organization/120979.pdf
[13] يتوقع تقرير معهد تحليل الأمن العالمي أن تبلغ صادرات نفط الشرق الأوسط إلى الصين بحلول سنة 2015 نسبة 70%من مجمل ما تستورده من هذه المادّة. انظر:
“Fueling the dragon: China’s race into the oil market”, The Institute for the Analysis of Global Security:
http://www.iags.org/china.htm
[14] المصدر نفسه.
[15] المصدر نفسه.
[16] انظر عن أهمية القوقاز وآسيا الوسطى بالنسبة إلى روسيا: ورقة بافيل بائيف المذكورة آنفًا Pavel K. Baev, op.Cit.
[17] انظر بخصوص هذه المسألة مثلا: “آثار العقوبات في الاقتصاد الكليّ السوريّ خلال عام 2012″، وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، على هذا الرابط:
http://www.dohainstitute.org/Home/Details?entityID=5d045bf3-2df9-46cf-90a0-d92cbb5dd3e4&resourceId=2560adca-9f62-47c2-9e8b-6ae668d65663
[18] “Syria Country Report”, Political Risk Services, November 2011. PRS Group Inc. USA.
الجزيرة