صفحات سورية

ما السياسة لدى سلامة كيلة؟/ أدهم مسعود القاق

 

 

ليت الأستاذ سلامة كيلة عرّفنا بمفهوم ونمط السياسة التي يبتغيها، بديلاً عن السياسة التي وضعها بين قوسين في معرض مقالته “أردأ معارضة لثورة كبيرة” على الرغم من أنّه طالب بتوسيع الدرب له لتحديد “الآفاق التي تسير الثورة وفقها، وعن كيف يمكن أن يتطور وضع الثورة أو كيف نوحد الشعب، بدل تقسيمه إلى أديان وطوائف ومذاهب”، بحسب تعبيره، وكأن الثورة تنتظر الوصفات الجاهزة لتنتظم وفقها. ليس هذا فقط، فقد تجاهل كيلة حقائق تتعلق بالثورة السورية، قد تكون متعارضة مع تكوينه السياسي المستمدّ من فكر أصوليّ، أيضاً، وإن كان يسارياً، فكر تجاوزه الزمن، كما تجاوز الجماعات الأصولية الإسلامية أمام حركة التاريخ، المتمثلة بثورات الربيع العربي التي ما زالت تخوض غمار الصراع غير المتكافئ مع أنظمة فاسدة، ومتخلفة وقهرية، تمعن في تحكّمها وطغيانها، في ظلّ دولة إسرائيل، وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على المنطقة العربية.

في بدايات الثورة السورية، فوجئت القوى السياسية السورية بها، وانقسمت عمودياً بين مناصر لسلطة الدولة من يسار ماركسي وقومي وفاسدين من رجال الدين والمال الذين استشعروا أخطاراً وتهديداً لمصالحهم المترابطة مع أجهزة السلطة بفعل الثورة، وتيار معارض للسلطة الذي انقسم بين توجّهين:

أولاهما: هيئة التنسيق ومن حولها، مثل حركة بناء الدولة، الذين سعوا للاتصال مع النظام، وتقديم النصائح لرموزه الفاعلين، لتجاوز الأوضاع المستجدة، محاولين اعتبار أنفسهم ممثلين للثورة، وهم، في الحقيقة، كانوا يسعون إلى إخماد الروح الجامحة لشباب الثورة، كما تبيّن من مواقفهم وسلوكهم الذي لم يخف على أحد، والأستاذ سلامة كيلة من المناصرين لهذا الاتجاه.

ثانياً: توجّه مثّله رياض الترك، وحلفاؤه، والذي أعلن انحياز فريقه الكامل للثورة، بحسب تعبيره. وبالتالي، خروجه من تحالفات سابقة مع التيار المذكور آنفاً، إلى أن انكشفت سياسة مواقف الفريق الأول وتوجّهاته السياسية، بعد أن تمّ دفعه بخبرات “الاختيار”، إلى المزيد من التساوق مع سلطة النظام، فأفرغوا ما تحتويه رؤاهم وسياساتهم، مرة واحدة، إلى أن لُفِظوا من جسد الثورة بعد أقل من أربعة شهور من عمرها، ليتوجّه رياض الترك، بعدها، إلى بناء تحالفات جديدة، لها أسس قديمة لديه “الإخوان المسلمين”، فرضتها معطيات جديدة، فكان عرّاب انعقاد مؤتمر المجلس الوطني السوري في اسطنبول، والذي قوبل بترحيب حراك الثورة الداخلي بداية. ولكن، لينكشف من جديد جهل القائمين عليه في اسطنبول بواقع الثورة، بل بواقع الحياة السياسية، كما أراد الكاتب أن يعبّر في مقالته. وقد ذكر كيلة رهان هذا المجلس على تدخل عسكري خارجي أميركي. وبالفعل، لهثوا وراء سراب التدخل الخارجي، كبلهاء يتفرجون على مجازر السلطة مبتسمين، ومستهينين بدماء شباب هذه الثورة العظيمة، مبتعدين عن مواقع إدارتها، وفقاً لسيرورتها التاريخية، فتمّ لفظهم من جسد الثورة، لتحلّ بدلاً عنهم المسارات السياسية المتعددة التي أفرزت مفاوضين على مصير ومستقبل السوريين في ردهات وأنفاق السياسات الدولية والإقليمية، مولين ظهورهم لحراك الثورة الداخلي الذي لا يزال عرضة لابتزازات الجماعات التكفيرية.

وإن كان قد قدّم الكاتب بعض ملامح من الحقيقة، في مجريات الثورة، بما يخصّ المجلس الوطني، إلّا أنّه أخفى دور هيئة التنسيق، ومن شاكلها، أمام فعل الثورة السورية التي لم تلق، حتى اللحظة، دراسات وافية لحيثياتها ومجرياتها، لاستنباط قوانينها الداخلية التي تحكم مسارها، كما أنّه تجاهل السلوك المشين لبعض من رموز الهيئة الذين تواطأوا مع قيادات سياسية وأمنية، تابعة للسلطة منذ بدايات الثورة، بحسب معرفة رياض الترك، بحسب ما صرّح به، منذ تمّت اتصالاتهم المشبوهة في ذلك الوقت، كما أخفى الكاتب دور الترك، صاحب النيات الصادقة تجاه الثورة، والذي يبدو أنّه راهن على سقوط السلطة أكثر مما راهن على تقوية حراك الثورة، وترسيخ قيمها في المجتمع. وهنا، لا بد من الإشارة والتنويه إلى هزالة وضعف الفريق الذي اعتمده الترك في قيادة حزب الشعب الديمقراطي في الداخل والخارج، في مقابل التنويه بتشجيع الترك ونجاحه، نسبياً، في المساهمة بإقامة اللجان والتنسيقيات والتشكيلات السياسية المنبثقة من داخل حراك الثورة، وأحد الشواهد لتنسيقه الموفق هو الدور الذي أدّته منتهى سلطان الأطرش، في معظم المناطق المشتعلة في ريف دمشق ومدينة دمشق.

نقطة أخرى أثارها الكاتب سلامة كيلة، في توصيفه الجماعات الإسلامية التكفيرية، فهو بلا شكّ محقّ بإثارتها. ولكن، يحتاج توضيحها إلى توصيف وجهها الآخر في المذاهب الإسلامية الأخرى التي لا يزال أبناؤها يتداولون كتباً منسوخة بخط اليد، اتقاء للجهر بها، تتضمن الكثير من تكفير الآخرين، والتي تكشف للمطّلع عليها أحد أهم أسباب الحجم الكبير لهذه الأحقاد المدفونة التي ظهرت على سطح المجتمع، في أثناء الثورة السورية الراهنة، وليس مبدأ التقية وإخفاء ما تبطنه هذه الكتب الصفراء بحق الفئات المغايرة لهذه الانتماءات الأولية هي آخر المطاف.

أخيراً وليس آخراً، قامت الثورة السورية لتهدم بنى متخلفة، تراكم الجهل والقهر والفقر على طبقاتها منذ مئات السنين، ورسّخها نظام حكم فاسد، ولا تنتظر من يدلها على آفاق تسير وفقها. هذه الثورة بالفعل كما عبّر عنها الكاتب ثورة حرية وعيش كريم في جوهرها، وهذا الجوهر هو الكفيل بتصحيح مسارها، عندما تبدأ الفرق التشبيحية المتصارعة بالتساقط، ومنهم فريق السلطة الأكبر والأكثر شراسة بينها.

تحتاج هذه الثورة، قبل كلّ شيء، إلى اعتراف بالأخطاء الفادحة المرتكبة بحق أبنائها من ساسة ومفكرين وأدباء، يبدون رغباتهم بمناصرة شبابها والانحياز لمبادئها والانتماء لمكوناتها الفاعلة، من موقع الوفاء لدماء شباب سورية، وللسير على درب خطىً رسموها من أجل الدولة المدنية المعاصرة التي تحمي أبناءها ولا تغدر بهم.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى