ما المطلوب من أكراد العراق؟/ حازم صاغية
مع استيلاء حركة «داعش» التكفيرية على مدينة الموصل، ثانية مدن العراق، راج في بعض الأوساط العربية تحليل مفاده أنّ الأكراد سهّلوا ذلك الاستيلاء «الداعشي» لهدفين: واحد قريب المنال هو استيلاؤهم، هم أنفسهم، على مدينة كركوك في الشمال. أمّا الهدف الثاني الأبعد منالاً، فهو أن قيام دولة سنية في الغرب والوسط العراقيين سوف يبرر لهم إقامة دولة كردية في شمال العراق. وهذا هدف مزمن لدى الأكراد يرقى عمره إلى عمر الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي.
وما زاد في ظهور هذا التحليل بمظهر الاحتقان، وفي غضب أصحابه، أنه اقترن بخبر يقول إن أكراد العراق بدؤوا يصدرون النفط إلى إسرائيل، وإن إسرائيل تسلمت فعلاً الشحنة الأولى منه في ميناء إيلات.
لكنْ إذا افترضنا أن التحليل هذا صحيح، فذلك لا يلغي حقيقة أخرى يستحيل دحضها، وهي أن أكراد العراق دخلوا في اشتباكات عسكرية مع حركة «داعش» بُعيد تثبيت أقدامها في الموصل وجوارها. وهذا ما يعني، على نحو قاطع، أن الجيرة الكردية – الداعشية ليست جيرة مرغوبة من قبل الطرفين. وما يضاعف هذه القناعة اشتباكات لم تتوقف في السنوات الثلاث الماضية بين قوى أصولية وتكفيرية وبين قوى كردية في العراق وسوريا.
مرةً أخرى، إذا افترضنا الصحة في التحليل أعلاه نكون وجهاً لوجه أمام الحقيقة التالية: لقد تحمل الأكراد عدوهم «داعش»، بل دعموه، لكي يتمكنوا من إقامة دولتهم المستقلة، ولو أنها ستقوم في جوار دولة «داعش».
وهذا ما يكشف مجدداً الخيارات الصعبة دائماً التي على الأكراد أن يواجهوها، والخيار الصعب في هذه الحالة هو دفع ضريبة «داعش» مسبقاً. لكنه يكشف أيضاً استعدادهم للتضحية بكل شيء، بما في ذلك تحمل «داعش» وحروب قد لا تنتهي معها، في سبيل نيل استقلالهم [انفصالهم] ودولتهم. وهنا تكمن الحقيقة التي لا يستسيغها عرب كثيرون. وغالباً ما يتلوّن الانزعاج العربي بشيء من الاستغراب: لماذا لا يحبنا الأكراد ولماذا لا يريدون البقاء معنا في عراق يحكمه عرب؟
لقد آن أوان القول، فيما منطقة المشرق العربي تتفسخ وتتفتت، أن الأكراد لم يَلقوا من الحكام العرب للعراق ما يحبّبهم بهم وبالبقاء معهم تحت سقف وطني واحد. ولا نأتي هنا بجديد حين نقول إنّهم طويلاً ما هُمّشوا واستُبعدوا وأُفقروا في ظل حكم العرب السنة لبلاد الرافدين. فالذين ظنوا أن سحق الانتفاضات الكردية المبكرة للشيخ محمود الحفيد والملا مصطفى البارزاني قد انتهى، ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم يعودون إلى الخنادق بُعيد قيام نظام عبدالكريم قاسم الجمهوري في 1958. ومن قاسم إلى الأخوين عبدالسلام وعبد الرحمن عارف وصولاً إلى البعثيين في 1968، كان القاسم المشترك بين هذه العهود شنّ الحروب على أكراد الشمال ومحاولة إخضاعهم. ولئن وقع البعثيون مع الأكراد اتفاقية حكم ذاتي شهيرة في 11 مارس 1970، فهذا ما لبث أن تكشف على شكل خديعة فتحت الباب واسعاً لحملة دموية جديدة في الشمال. ومن دون العودة إلى تفاصيل كثيرة معروفة، بما فيها تنازلات جغرافية ضخمة قدمتها بغداد لإيران الشاه في أواسط السبعينيات، كي تتوقف عن دعم الانتفاضة الكردية، استمر القمع الرسمي العراقي ليصل إلى ذروته اللاحقة مع حملة الأنفال الوحشية واستخدام السلاح الكيماوي في حلبجة إبان الحرب العراقية- الإيرانية.
لكنْ بعد إطاحة صدام حسين في 2003، وانتقال دفة الحكم في العراق من أيد سنية إلى أيد شيعية، ظلت رغبة المركز البغدادي في إخضاع الأكراد على حالها. صحيح أن رئيس الحكومة الحالي نوري المالكي لم يعد يملك القوة التي كان يملكها صدام حسين (وهذا ما بدا واضحاً في معركة الموصل الأخيرة)، إلا أنه لم يتوقف عن السعي الحثيث إلى مراكمة الأسلحة وطلب الطائرات الحربية التي تسمح له بإعادة الاعتبار للنهج الصدامي في التعاطي مع الأكراد. وهذا ما كان يشي به التحايل على مبدأ الفيدرالية المتفق عليه، فضلاً على الارتياب الدائم والمتبادل فيما خصّ التوصل إلى سياسة نفطية تحظى بشيء من الإجماع الوطني.
وغني عن القول إن سجلاً كهذا لا يمكن أن يدفع الأكراد العراقيين إلى «حب العرب» أو العيش معهم في بلد واحد موحد لا يحكمه إلا العرب.
وإذا صحّ هذا من حيث المبدأ، وتبعاً لتاريخ مديد من العلاقة أشرنا إلى عناوينه العريضة، فإنه يبدو اليوم أكثر صحة من أي وقت سابق. ذاك أن العراق العربي لم يعد يقدم أي وعد أو أمل للعرب أنفسهم، ما خلا وعد الدمار والموت يُنزله الشيعة بالسنة والسنة بالشيعة. وهذا الوضع المؤسف، بل المؤلم، لن يفعل سوى إضعاف جاذبية العراق لدى أكراده، وهي ضعيفة جداً أصلاً، ومن ثم دفعهم إلى شق طريق خاص بهم، على ما صرح زعيمهم مسعود البارزاني مؤخراً مطالباً بتقرير المصير.
وما يبقى، والحال هذه، هو أن يحل الأكراد مشاكلهم الإقليمية التي تعيق انطلاقتهم، لاسيما العلاقة بتركيا التي يبدو أنها خضعت لتحولات إيجابية في الفترة الأخيرة. لكنْ ليس من الجائز، لا أخلاقياً ولا سياسياً، أن نربطهم بنا ونمنعهم من الذهاب في سبيلهم بينما الشيء الوحيد الذي نطرحه عليهم هو الموت في فرن الأحقاد الطائفية والمذهبية والإثنية الذي انتهى إليه العراق. أما تعيير الأكراد بالعلاقة بإسرائيل، فيما هم يسعون إلى شقّ طريق لمستقبلهم في هذه المنطقة، فلا يفعل غير تقزيم الموضوع وتسخيفه.
الاتحاد