ما بعد دابق/ إياد الجعفري
تتقاذف “دابق”، تلك البلدة الصغيرة في الريف الحلبي، رمزيتان، تاريخية ودينية، شاءت الأقدار أن نعيش الرمزية الأولى، من جديد، بعد أكثر من 500 سنة، وإن بتجليات مختلفة.
وتعود الرمزية التاريخية لـ “دابق”، إلى تلك المعركة الشهيرة التي وقعت قرب البلدة، عام 1516، وكانت إيذاناً بعهد جديد للمنطقة، تسيّد فيه العثماني معظم العالم العربي، لعدة قرون.
فيما تعود الرمزية الدينية إلى حديث نبوي في صحيح مسلم، يشير إلى معركة كبرى بين “المسلمين” و”الروم” قرب البلدة المذكورة، تكون مقدمة لانتصار ضخم للمسلمين، يصلون معه إلى “قسطنطينة” أو اسطنبول اليوم.
ومنذ الصعود السريع، والمثير للجدل، لتنظيم “الدولة الإسلامية – داعش”، راهن الأخير على تعبئة أتباعه وأنصاره، عبر “غيبيات” و”نبوءات”، من قبيل تأويل الحديث المشار إليه، بأنه يعني التنظيم تحديداً، في مواجهته المرتقبة مع الغرب. فكان أن اتخذ التنظيم اسم البلدة الشهيرة تلك، عنواناً لمجلته المنشورة باللغة الإنكليزية.
ومن المعروف أنه بقدر زخم التعبئة الدينية، بقدر ما يكون ذبول تأثيرها، بصورة عكسية، مع سقوط مفردات خطاب التعبئة، عند الممارسة، على أرض الواقع.
هذا ما ينتظر تنظيم الدولة، على ما يبدو. فالتنظيم الذي جعل تأويلاته لنبوءات آخر الزمان، والملاحم الكبرى، إحدى مفردات التعبئة الدينية لجمهوره ومقاتليه، يواجه معضلة سقوط تلك التأويلات عند الممارسة العملية المباشرة. فها هو يصدر رسالة إعلامية يستبق فيها خسارته المرتقبة لـ دابق، التي تقترب منها قوات معارضة سورية، بدعم تركي. فيعلن أن معركة “دابق” لن تختلف في أهميتها عن غيرها من المعارك التي خاضها.
وهكذا ارتد التنظيم عن حالة الترميز الديني التي اعتمدها سابقاً، منذ سيطرته على بلدة دابق. ولتبرير حالة الارتداد هذه، قال إن المعركة القادمة في دابق، هي معركة “دابق” الصغرى، وليست الكبرى. دون أن يوضح، على أي حديث استند هذه المرة في استنتاج وجود معركة صغرى في دابق، مختلفة عن تلك الكبرى، المُنتظرة في آخر الزمان.
وبخلاف التنظيم، الذي يبدو أنه يحضّر لخسارته المرتقبة للبلدة، عبر التقليل من رمزيتها الدينية، التي سبق أن قام هو نفسه بالرفع من شأنها، يُعلي الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من الرمزية التاريخية للبلدة، حينما خصّها بحيز من تصريحه الذي تحدث فيه عن تقدم عملية “درع الفرات”.
ولا يخفى على المراقبين غايات أردوغان، الترميزية، من توكيد الإشارة إلى “دابق”. لكن، لا يبدو أن الرمزية التاريخية للبلدة، تتكرر بالمنحى الذي عاشته المنطقة قبل خمسة قرون، تماماً. وذلك لا ينفي وجود زوايا مشتركة تجمع بين ما عنته معركة دابق قبل أكثر من خمسة قرون، وبين ما تعنيه هذه المعركة اليوم.
فكما عنت معركة دابق قبل خمسة قرون تهالك “دولة المماليك”، تمهيداً لانهيارها الأخير.. تُوحي معركة “دابق” اليوم بالمزيد من التهالك لـ “دولة الأسد”، مع التمدد البريّ للأتراك على الأرض التي كانت سابقاً، خاضعة له، بتوافق غير معلن مع حليفه الروسي، على الأقل.
وكما عنت المعركة في التاريخ، دخول العثمانيين إلى الشام، كقوة مسيطرة.. تُوحي المعركة اليوم، خاصة مع امتداداتها المحتملة إلى الرقة، بنزول تركي جدّي، إلى شمال البلاد، كقوة مسيطرة.
أما التجليات المختلفة لتلك الرمزية التاريخية اليوم، فهي أن معركة “دابق” الراهنة، تأتي في سياق تعدد الأقطاب الإقليمية والدولية المتصارعة على الأرض السورية، ووصول صراعها إلى مراحل متقدمة، تورط فيها معظم المتصارعين في الصراع، بصورة مباشرة.
وتُوحي معركة “دابق” اليوم، بالمزيد من هذا الانخراط المباشر للمتصارعين في سوريا، لتذوي الرمزية الدينية، لصالح رمزية تاريخية، تجعل من معركة تجري على أعتاب “دابق”، من جديد، وبعد خمسة قرون، إيذاناً بعهد جديد، لكن ليس في سوريا، هذه المرة، بل في كامل الإقليم، وعلى مستوى النظام الدولي، حيث التعددية القطبية تُلهب المعارك الميدانية، ويتكاثر اللاعبون، فيتعقد المشهد، وتتشوش الرؤية، وتختلط الأوراق، فتكون الخاتمة غامضة، وربما خطرة أيضاً، ليس على السوريين، فهم بكل الأحوال حطب لهذا الصراع منذ عدة سنوات، بل هذه المرة، على المتصارعين أنفسهم.
المدن