ما بعد «داعش» في سوريا/ ديفيد اغناتيوس
انهار مقر تنظيم داعش الإرهابي بهذه المدينة التي تقع على مقربة من البوابة الغربية لمدينة الرقة السورية نتيجة للقصف الأميركي، كما لو أنها قلعة من الرمال. وهناك عند مجمع السدود على نهر الفرات، حيث كانت عناصر داعش تقوم بتعذيب المسجونين، وإلقاء من ادعت أنهم شواذ جنسياً من فوق قمة برج خرساني شاهق، لم يتبقَ بعد فرار المتطرفين سوى شعارات مرسومة على الجدران، وكومة من المخلفات.
لكنه من السابق لأوانه الجزم بأن الحياة على وشك أن تعود إلى ما كانت عليه هنا، بعد أن حررت المدينة، لكن ما يمكن قوله أن كثيراً من الخوف قد زال، بعد أن رحل التنظيم عنها، وجرى تطهيرها الأسبوع الماضي من الألغام والمتفجرات الارتجالية.
أخذ الأطفال يشيرون بعلامة النصر (V) بعد أن اختفت اللحى تقريباً من المكان، ولم يحتفظ بلحيته الخميس الماضي سوى عناصر القوات الخاصة، الذين قاموا بزيارة المبعوث الأميركي الخاص بريت ماكغورك. المدينة مليئة بالحجارة، ووصف أحمد الأحمد، الرئيس المشارك لمجلس مدينة الطبقة المشكل حديثاً، المدينة بـ«مدينة الأشباح»، بعد أن تهدم نحو 40 في المائة من مبانيها، ودمرت بنيتها الأساسية من الكهرباء والماء والمدارس.
ويحاول الأطفال الصغار الذين تربوا على أخلاقيات «داعش»، وفي معسكراتها، استعادة توازنهم في عالم جديد لم يعودوا يرون فيه مشاهد جز الرؤوس، ولا ترديد أناشيد المتطرفين. ولو أنك نظرت إلى الوجوه الحذرة، ستجد إحساساً بعدم اليقين، لكنك حتما سترى الأمل في عيونهم، ستشعر وكأنهم استيقظوا للتو من كابوس مزعج. فقد أخذ مجلس المدينة المشكل حديثاً في الانعقاد، وهو مجلس مشكل من القوة العسكرية التي يقودها الأكراد، والتي تولت تطهير المدينة من «داعش»، ويبدو أنها تجد تعاوناً ملحوظاً من سكان المدينة العرب.
وتجوب قوة أمنية جديدة الشوارع، وتطلق من حين لآخر النار للتحذير. وفي مستودع قريب من وسط المدينة، وصلت الأربعاء الماضي أول شحنة من المواد الغذائية الأميركية، تتكون من أجولة الأرز والدقيق، وكلها جاهزة للتوزيع، ولا يزال هناك الكثير في الطريق الأسبوع المقبل، بحسب منسق المساعدات الأميركية.
وخارج محال لبيع إطارات وقطع غيار السيارات، وقف مجموعة من الشباب السوري الصاخب، ولم يكن المستشارون العسكريون الأميركيون واثقين من إمكانية التحدث إليهم بأمان، غير أن الشباب بادروا بالحديث إلى اثنين من المراسلين الأجانب. أحدهم، ويدعى عبد القادر خليل (22 سنة)، تحدث نيابة عن المجموعة، حيث نقل شكواهم من نقص الغذاء والماء والغاز والخبز، وكذلك من عدم وجود عمل، لكنه استبعد فكرة عودة تنظيم داعش للسيطرة على الحياة هنا مجدداً.
وقال خليل: «أبداً لن تعود»، وأومأ رفاقه بالموافقة على ما قال، مضيفاً: «ستكون الحياة هنا مستحيلة لو أنهم عادوا مجدداً، فسوف يقتلوننا جميعاً».
لا شيء دائم في تلك الدولة الممزقة، لكن هناك بعض النقاط المهمة عندما تحين لحظة الزخم، يمكن اختزالها فيما يلي:
مع اشتداد معركة تحرير الرقة، يمكنك أن تستشرف مستقبل البلاد من خلال هذه المدينة:
– فبالون تنظيم داعش الأسود قد فرغ من الهواء سريعاً في سوريا، كما حدث في العراق. ولا تزال هناك معارك مقبلة قد تستمر لعام كامل، لكن المفاجأة أمام المسؤولين الأميركيين أن المعركة في شرق سوريا تسير بوتيرة أسرع وأفضل من المتوقع. وكمثال على هذا التقدم، فقد سلم القادة الأكراد الجنرال ماكغورك ختماً كان أمير تنظيم داعش بالمدينة يستخدمه في ختم أوامر القتل بحق مواطني مدينة الطبقة. وقد فجر الأمير نفسه عندما حوصر في مايو (أيار) الماضي، مخلفاً وراءه الختم والسلطة.
– يبدو أن المواجهة مع سوريا وروسيا، التي أدت إلى إسقاط طائرة حربية سورية جنوب البلاد منذ أسبوعين، قد خفت، على الأقل حتى وقتنا الحالي. وعلى الرغم من الاعتراضات الروسية العلنية، فقد وافقوا في نهاية عطلة الأسبوع الماضي على تعيين خط فاصل بطول 80 ميلاً، يبعد بعض الأميال عن غرب الرقة، ويمتد حتى تخوم قرية الكرمة على نهر الفرات. ويبدو أن هذا الخط يبشر ببعض الأمل في إمكانية التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا.
– أظهرت الميليشيا التي يقودها الأكراد، المعروفة باسم «قوات سوريا الديمقراطية»، أنها تستطيع هزيمة «داعش»، ما دام أنها تحظى بالتغطية الجوية من القوات الأميركية. وربما كانت معركة الطبقة التي نشبت في مايو الماضي الأكثر طموحاً والأجرأ في تلك الحرب حتى الآن.
قد يكون الإحساس بما يمكن للولايات المتحدة تنفيذه في سوريا، في ضوء التزاماتها المحدودة هنا، وما لا يمكن تنفيذه، هو الوجبة الجاهزة الأكبر التي حصلنا عليها خلال زيارتنا هنا. وقد تكون الولايات المتحدة قد تمكنت بالمصادفة، من خلال تحالفها مع أكراد سوريا، من طرد «داعش» من شرق سوريا، لينعم هذا الجزء من البلاد بالاستقرار. بيد أن المسؤولين الأميركان يعترفون صراحة بأنهم لا يملكون الموارد، ولا الاستراتيجيات، اللازمة لإصلاح ما دمر في سوريا كلها. فالعنوان هنا هو: أفعل ما تستطيع بالقوات المتاحة أمامك، ولا تعد بأكثر مما تستطيع تحقيقه. كان هذا ما عبر عنه الجنرال روبرت جونز، القائد البريطاني لقوات التحالف في العراق وسوريا، الذي اصطحب ماكغورك إلى هنا، بقوله: «هذا ليس عملاً فنياً، بل براغماتية صريحة».
وقد قدمت الولايات المتحدة وشركاؤها عناصر عملياتها الخاصة بغرض التدريب وعمليات القصف الجوي، غير أن الأكراد السوريين وحلفاءهم العرب هم من قاموا بالقتال، وضحوا بأرواحهم على الأرض. وسواء أسارت الأمور للأفضل أم الأسوأ، فنظرة أهل البلاد لنمط الحكم المقبل هي ما سيحدد الوضع الجديد بعد سقوط «داعش».
* خدمة «واشنطن بوست»
الشرق الأوسط