ما جدوى نجاح العملية بعد موت المريض؟/ سوسن جميل حسن
لولا الفقر والظلم والقمع والكبت وكم الأفواه ومصادرة الحريات وتفريغ العقول إلاّ من الشعارات والعبارات الرنّانة، وشل الإرادة والقدرة على التفكير، ولولا نتيجة هذا كلّه من جهلٍ وتخلف، هل كانت تحدث الثورات؟ فالشعوب المتطورة التي تعيش اليوم في دول مستقرة، لا تحتاج إلى ثورات، فقد خاضت تجاربها الثورية، ودفعت فاتورتها حتى وصلت إلى وضعها الراهن، لديها نواظمها التي تدير حياة مجتمعاتها، ولها حياتها السياسية النشطة، ودستورها الذي صاغه الشعب، بكل فئاته، حتى صار مرجعاً مقدساً.
يجب أن يكون هذا الخطاب موجهاً للفريق الذي أنكر الفعل الثوري، منذ البداية، على شعوب المنطقة، بدعوى الجهل والتخلف المتمكنيْن منها، وعدم أهليتها للقيام بأفعال جذريةٍ من هذا النوع، وبأنها مدفوعة، منذ البداية، من جهاتٍ متطرفة، على أساس ديني تكفيري، هذا الفريق الذي أطلق عليه تندّراً اسم: ما قلنا لكم؟ بعد سيطرة داعش من جهة، وجبهة النصرة وبقية الفصائل الإسلامية المسلحة من جهة أخرى على مناطق سورية كثيرة. لكن هذا الخطاب كان يجب أن يقترن بفعل تواصلي، يقرّب أفكار الفرقاء من بعضها، من أجل التأسيس لوعي آخر كان يمكن أن يحمي الهوية الوطنية التي صار من الصعب إعادة بنائها بطريقة سليمة مرة أخرى، بعد الدم والثأرية التي حقنت بها الصدور.
اندلعت ثورات الربيع العربي للانقلاب على جملة من الظروف السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وكانت أولوياتها في الشعار الذي صار لازمة الحركات الاحتجاجية في دول ما سمّي بالربيع العربي: الشعب يريد إسقاط النظام، والمقصود هو النظام السياسي القائم على الاستبداد والقمع والظلم. والتأريخ لمرحلة جديدة من النهضة العربية تؤدي إلى قيام الدولة الحديثة.
وبنظرةٍ سريعةٍ إلى الوراء، بعد مرور خمس سنوات منذ المرحلة التأسيسية (حرق محمد بوعزيزي نفسه في تونس)، وإضرام النار في هشيم المجتمعات العربية الواقعة تحت نير كل أنواع الاستبداد والطغيان، إلى اليوم، سوف نرى أن المرحلة تتطلب بشكل أساسي مبادرات “حسن النيات” من الهيئات السياسية التي اتخذت مكانها في موقع صاحبة القرار السياسي حصرياً، بالنسبة للشعب الثائر، خصوصاً في سورية. وحسن النيات هذا يجب أن يكون موجهاً إلى الشعب، فيما لو كان صحيحاً أن العمليات التفاوضية تضع نصب عينيها مصلحة الشعب السوري بكل أطيافه، وليس مصلحة من تمثله هذه الهيئات، بشقيها السياسي والعسكري. فإذا كان 2011 عام الانتفاضات والحراك السلمي الذي أذهل حتى المشاركين فيه، فإن الوقت لم يطُل كثيراً حتى بدأت الصورة تتغير، ويكشف الواقع عن انحرافاتٍ في أهداف الثورات ومبادئها وسلوكها وتعثر مساراتها، واتجهت بقوة نحو العسكرة مدفوعة بالعنف الممارس من
“تضم هيئة التفاوض السورية ممثلين عن قوى عسكرية مارست القتل بحق المدنيين” النظام بحق المتظاهرين، ثم سيطرة الإسلاميين والجهاديين وبرنامجهم المشهر بكل وضوح: قيام وحكم الأمة الإسلامية وإدارتها وفقاً للشريعة. ترافق هذا التعثر والانحراف مع انقسام المعارضة على نفسها، وما زالت في حالة انقسام وتنافر، ما أدى إلى زيادة الاستقطابات وتكريسها، يقابلها على الأرض الاحتقان الطائفي والمذهبي، وتحوّله إلى وقود سريع الاشتعال في الحراك المتحوّل إلى حرب. وبالتالي، تلاشي الإجماع الثوري، وانحسار أي إمكانية للحوار الوطني الذي طُرح مطلباً ملحّاً في فترة من الفترات، مع غياب القوة الشبابية التي هي نواة الحراك، إما بالاعتقالات أو التصفية الجسدية التي مارستها أيضاً الفصائل المسلّحة ذات السطوة والسيطرة في مناطقها، أو بهروب من بقي من الشباب خارج الوطن، لكي لا يضطر إلى حمل السلاح، وأخيراً عدم القدرة على تشكيل نواة كتلة تقود التغيير.
فإذا كان الفعل التواصلي، على رأي هابرماس، “أداة البشر لتحقيق الحرية عبر تجميع البشر الذين يعيشون في ظل مجتمع واحد، على أهداف ومصالح عملية ومسارات مقبولة لتحقيق هذه الأهداف وتلك المصالح، وتحديد طريق لتحرير أنفسهم من كل صور القهر والظلم، وفتح الآفاق للمشاركة الجمعية في صناعة المستقبل”، فليس هناك من قدرة لشخص واحد أو أشخاص معدودين القيام بالثورة، وإنما الثورة هي فعل واع وأخلاقي جمعي، يقوم علي التواصل أو التفاعل بين عقول جماعاتٍ مختلفة، وأفراد مختلفين، وتنظيمات مختلفة، غايتها الوصول إلى هدف واحد، هو إقامة المجتمع البديل على أنقاض القائم الذي كان يحمل بذور الانقلاب عليه.
تبدو هذه الأطروحة متأخرةً، وغير منطقية في الوقت الراهن والواقع الحالي، بسبب ما آلت إليه الثورة السورية، وتحوّلها إلى حربٍ استدرجت قوى العالم إليها ومقاتلين من العالم أيضاً، تحت مسمياتٍ مختلفة وغايات متنوعة. لكن، من الضروري مخاطبة الشعب السوري بكل شرائحه وانتماءاته وولاءاته، فسورية، كما جاء في مقرّرات مؤتمر الرياض نفسه، والذي انبثق عن مؤتمر فيينا، هي لكل السوريين: “أعرب المجتمعون عن تمسكهم بوحدة الأراضي السورية، وإيمانهم بمدنية الدولة السورية، وسيادتها على كل الأراضي السورية، على أساس مبدأ اللامركزية الإدارية. كما عبّر المشاركون عن التزامهم بآلية الديموقراطية من خلال نظام تعددي، يمثل كل أطياف الشعب السوري، رجالا ونساء، من دون تمييز أو إقصاء على أساس ديني، أو طائفي، أو عرقي، ويرتكز على مبادئ المواطنة، وحقوق الإنسان، والشفافية، والمساءلة، والمحاسبة، وسيادة القانون على الجميع”.
لكن هيئة التفاوض التي انبثقت عنه تصرّ على تفردّها بالقرار وبآلية إدارة المفاوضات، وهي بهذا السلوك تقصي شرائح من الشعب السوري، ممثلة بهيئات سياسية أخرى، على الرغم من أنها تضم ممثلين عن قوى عسكرية، مارست القتل بحق المدنيين، ولم تسلم من صواريخها حارات الشام وساكنوها، واختطفت ناشطين مدنيين، كانوا إلى جانب الشعب الواقع تحت الظلم والعنف، يوثقون الجرائم التي ترتكب بحقه، ويشكلون الوجه الحداثي لسورية المنشودة، وليست قضية رزان زيتونة وسميرة الخليل ورفيقيهما وائل حمادة وناظم الحمادي غائبة عن بال السوريين، أو ذاكرتهم. بعض الفصائل الممثلة بالهيئة التفاوضية متحالفة، في بعض المناطق، مع جبهة النصرة، وليس خافياً على أحد أن الأخيرة تمثل الإسلام الراديكالي الجهادي المعادي لنموذج الدولة الحديثة، ولم ينسَ الشعب السوري تصريحات زعيمها أبو محمد الجولاني، وشريعته التي تقوم على إقصاء الآخر المختلف عنه.
ربما لو كانت التشكيلة المعارضة من أجل المفاوضات مع النظام لا تحتوي تلك الفصائل العسكرية، أو كان مجال تمثيلها أوسع، لكانت قد اكتسبت تأييداً شعبياً أكثر، ولكانت ربما ربحت جزءاً من الصامتين، إذ إن شريحة كبيرة من الشعب السوري غير راضٍ عن الحرب، ولا يريد المشاركة فيها، ولم يُسأل إن كان يريدها، وصمته لا يعني تأييده النظام وموالاته له. كان من المجدي إبداء حسن النيات لطمأنة هذه الشريحة الصامتة وكسب تأييدها، لا أن تضاف إلى عرقلة الحل السياسي عراقيل جديدة، فها هي تصريحات نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، تطرح احتمال الحل العسكري، إذا لم يكن الحل السياسي ممكناً، ألا يكفي هذا الشعب ما حلّ به من الطيران الروسي وطيران التحالف والتدخل الإيراني والجهاديين المتطرفين البارعين بقطع الأعناق والأرزاق؟ هل تحتمل سورية مزيداً من الخراب؟ وهل يحتمل الشعب السوري مزيداً من القهر والظلم والجوع والتشريد والغرق في بحار العالم، هروباً من الموت المحقق في وطنه؟ أم إن المقولة الطبية التي تطمس الحقائق يمكن تبنيها في السياسة أيضاً؟ مقولة: نجحت العملية لكن المريض مات. فمن سيرحم هذا المريض العزيز “الوطن”، ويحميه من الموت، فما زال هناك بارقة أمل للنجاة منه؟
العربي الجديد