ما سرّ اطمئنان النظام السوري إلى درعه الواقي من الإنقلابات؟
د. عمار البرادعي
قليلا ما كنا نسمع في الماضي عن تأثير حدث ما في رفع وتيرة التعصّب الطائفي إلى حدّ الجنون. لكننا أصبحنا نرى اليوم أسوأ صور تحكّم هذا التعصب في كل مجريات الوضع في سورية، الى درجة تعدّت حدود إذلال المواطنين والتمييز بينهم، إلى ارتكاب المجازر الجماعية بحقهم منذ اندلاع الثورة التي قاربت على العامين، وأصبح السؤال الطبيعي الذي يُردده الكل باستغراب: ما سرّ ‘اطمئنان’ النظام إلى وضعه الداخلي، وإصراره على المضي في تنفيذ جرائمه اليومية دون الخشية من ردود فعل القيادات العسكرية عليه، خصوصا وأن أحدا من غير المرتبطين به لم يعد يصدّق محاولاته الدؤوبة لقلب الحقائق، وإظهار كل ما يجري على الأرض على أنه مؤامرة ضده، وهجمة إرهابية مدعومة من الخارج على نظام علماني وليس طائفيا؟ الثابت أن تركيبة النظام التي نجحت بكل خبث وباطنية في العمل على استحواذ اللون الطائفي الواحد على مراكز اتخاذ القرا ر، والإستفراد بأبرز المواقع القيادية العسكرية والأمنية والمخابراتية، هي التي شكّلت صمام الحماية له ودرع الوقاية من الإنقلابات، مهما استفحل في ممارساته وإرهابه وتقتيل أبناء شعبه. وهي التي كانت في الوقت نفسه السبب الأساس للإحتقان الشعبي المزمن. وما الثورة الشعبية التي انطلقت مطلع العام الماضي إلا وليد استمرارية هذا الوضع واستشرائه أكثر وأكثر مع مرور الأيام، ساعد على انطلاقها جو الربيع العربي الذي مهما قيل عنه، ومهما تعرّض لمحاولات احتواء أو اختراق، يبقى هدفه الأساس تحقيق الحرية والديمقراطية وعيش المواطن بكرامة كباقي بني البشر.
إذا أخذنا هذا الوضع بعين الإعتبار، وعدنا إلى بدايات وضع اللبنات الأولى لأساسه الذي جرّنا إلى كل المصائب اللاحقة، لأدركنا قبل قدوم الربيع العربي بسنين طويلة أن الربيع السوري آت، حتى لو لم يأت لأي بلد عربي آخر، وهذا ما لا يريد النظام ولا أتباعه من المتاجرين بالممانعة كلاما الإعتراف به، ذلك لأن هذه البدايات وطبيعتها الطائفية لا تعود للسنوات الأخيرة ولا لما قبلها، بل لحوالي خمسة عقود، وتحديدا إلى اليوم الذي تشكل فيه تكتل سري عُرِف باسم ‘اللجنة العسكرية’ التي ضمّت مجموعة من الضباط السوريين المتواجدين في مصر أيام الوحدة مع سورية، ضد ما وصفوه يومها بالتمييز داخل الجيش، وقد جمعهم لون طائفي واحد، وكان من أبرزهم وقتها صلاح جديد، محمد عمران، عبد الكريم الجندي، حافظ الأسد، وغيرهم من الضباط. هذه المجموعة التي عاد أعضاؤها الى سورية بعد جريمة الإنفصال بدأوا نشاطهم التخريبي سرا داخل الجيش، ثم داخل الحزب والدولة بعد سقوط الإنفصال، وركزوا جهودهم على ممارسة التمييز الطائفي بين أبناء بلدهم وتعزيز التكتلات الموالية لهم، وهم الذين كانوا يحملون لافتة الإعتراض على التمييز بين ضباط الجيش. ولم يتوقف هذا النشاط إلا بعد أن أمعنوا في تصفية بعضهم، حتى استفرد ‘رفيقهم’ حافظ الأسد بقيادة السلطة، وقام بإعادة هيكلية الحزب والدولة والجيش حسب توجهه الطائفي لضمان استمرار تحكّمه بالبلاد والعباد، وصولا إلى تحكّم ابنه بشار الذي تم تعديل الدستور على مقاس سنّه، كي يجري تنصيبه مكان أبيه. وها هو يسير على نهجه سواء بالنسبة للإعتماد على أبناء الطائفة في قيادة المراكز الأساسية داخل الجيش والأجهزة الأمنية، أو بالنسبة لمحاولة استمالة الأقليات وإشعار كل فئة منها، سواء المسيحيين أم الدروز أم الأكراد وغيرهم بأنهم أقلية، مثلهم مثل العلويين، ولهذا فإن مصيرهم مرتبط بمصير النظام وهو حامي حماهم. ثم، أخيرا ما هو اكثر من ذلك، وها هو ابنه يتفوّق عليه بعد أن عمّم مجزرة حماه الدموية بامتياز لا سابق له على سائر أرجاء سورية وأهلها. وبناء عليه، أصبح الانطباع السائد لدى البعض قبل اندلاع الثورة السورية ان الأقليات على مختلف تصنيفاتها الطائفية والعرقية تقف في صف النظام باعتباره ‘علمانيا’ حتى ولو اكتوت بناره، ولم يعد مستغربا بعد ذلك أن يزداد خوفها من البديل الآتي في الآونة الأخيرة، بحكم القناعة التي حاول النظام ترسيخها لدى هذه الأقليات بأن ذهابه يعني ذهابهم.
ولكن هل هذا الموقف يشمل الجميع، أم أن الحقيقة غير ذلك؟ إذا كان موقف العلويين معروفا، ويكاد ينحصر بين النخبة المستأثرة بمراكز اتخاذ القرار في عصب النظام إلى جانب المرتبطين والمنتفعين، مقابل سائر أبناء الطائفة الذين لا تختلف أوضاع الكثيرين منهم عن أوضاع كل أبناء الشعب. وإذا كان موقف الأكراد متوقعا وخيارهم مقروءا في ضوء المتغيرات والظروف وإمكانات تنفيذ ما في رؤوسهم. يبقى من المهم معرفة موقف المسيحيين وهو الذي كان وما يزال مثار تساؤلات حول حقيقته، ودور أتباع كل كنيسة في إسناد النظام أم الثورة. ذلك لأن للمسيحيين كشعب وقيادات دينية مواقف مختلفة ومتباينة بل متناقضة أيضا. فمنهم المنحاز الى النظام، ومنهم المنحاز الى الثورة، ومنهم من يحاول التزام الحياد حتى اللحظة، وإن استنفر قوته مؤخرا تحسبا لأكثر من احتمال، ومنهم الخائف من المستقبل والمصير ويؤثر الهجرة على البقاء بانتظار المجهول. هذه المواقف يمكن رصد أمثلة عليها كلها في ما تنشره وسائل الإعلام. فعلى سبيل المثال، خرجت علينا صحيفة الديلي تلغراف البريطانية في 13 ايلول الماضي قائلة ان الطوائف المسيحية في مدينة حلب قد حملت السلاح مع الأرمن إلى جانب النظام في مواجهة مقاتلي الثورة والجيش الحر.
وعلى النقيض من ذلك سمعنا شهادات مختلفة على ألسن كوادر في المعارضة السورية تؤكد ان المسيحيين في حلب لم يقفوا مع النظام ولا قاتلوا في جبهته، بل جاء حمل بعضهم السلاح بهدف المحافظة على أمن أحيائهم نتيجة الفوضى وغياب الأمن، وأن ما يتردد حول انحيازهم للنظام ليس إلا انعكاسا لما يروّجه النظام نفسه، بغية شق الصف الوطني من خلال اللعب على ورقة الأقليات وخصوصا المسيحيين. على نغمة أخرى حول موقف المسيحيين نشرت الفيغارو الفرنسية أكثر من موضوع كان أكثرها لفتا للإنتباه ما نشرته في 2 آب تحت عنوان ‘مسيحيو سورية يسقطون بين فكي كمّاشه’ علّقت فيه على المعارك التي دارت للمرة الأولى على حدود الأحياء المسيحية في دمشق بين جيش النظام وشباب الثورة، وكيف أن المسيحيين قد ‘آثروا التزام أماكنهم وعدم المشاركة، رغم أن احتمال سقوط نظام بشار الإستبدادي يقلق ما يقرب من 12 كنيسة في سورية تنتمي الى الطائفة الأرثوذكسية أو تنتمي إلى الفاتيكان’. هذه الملاحظة الأخيرة هي بيت القصيد في قراءة انشطار الموقف المسيحي بين النظام والثورة. وهذا ما أكده للفيغارو الدبلوماسي الفرنسي في سورية إينياس لوفوريه بقوله ‘لاشك أن الكثير من المسيحيين يفضلون بقاء النظام الحالي، وهناك مسيحيون آخرون كالمعارض ميشيل كيلو يرفض هذا التوجه، ويؤكد أنه إذا قرر المسيح أن يعود في عصرنا هذا، فسيكون أول شيء يفعله هو النزول للشارع والمشاركة في التظاهر ضد النظام’. وعلى ذكر هذا القول المتعلق بجوهر الموقف المسيحي الصائب من انتفاضات الشعوب ضد القتلة والمستبدين من حكامها، يجدر التذكير برسالة النصيحة التي بعثها ميشيل كيلو الى قداسة البابا بمناسبة زيارته إلى لبنان في شهر أيلول الماضي قائلا فيها بالنص ‘لا يخوض النظام (السوري) معركة الدفاع عن المسيحيين الذين لا يهددهم أي خطر أعظم من حماقة بعض كنائسهم وكهنتهم، التي وصلت إلى حد جعَلَهم يباركون قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وينظمون حفلات راقصة احتفالا به، ويرون فيه حربا إنقاذية على الإرهاب والتطرف، كأن العنف الرسمي المفتوح ليس إرهابا وليس تطرفا’ وخاطب البابا قائلا ‘لابد أن تتوجهوا بكلمات لا لبس فيها، تُعيد هؤلاء إلى صوابهم وتذكّرهم أن على المسيحية أن لا تدعم أي حرب، وخاصة الحرب التي يشنها النظام السوري ضد شعبه باسم مكافحة الإرهاب، لأنه لا يخوض معركة الدفاع عن المسيحية كي يحظى بتعاطف كنائس وكهنة، بل يقاتل دفاعا عن استبداده وامتيازاته وقدرته عل امتهان كرامة الناس، فلا تُسهم ولا توافق على هدم الهيكل فوق المسيحيين العرب، ومد يدك لإنقاذهم من حماقات تقترفها كنائسهم وأحبارهم’.
وما دمنا قد تحدثنا عن الكنيسة ورجالها بألسن بعض أبنائها، فمن الإنصاف أن نقرأ بعض ما صدر على ألسنة رجال الكنيسة أنفسهم دعما للنظام، دون أن ننسى بداية الإشارة إلى إقدام الفاتيكان مؤخرا على تكليف القاصد الرسولي في دمشق تعيين عدد من الأساقفة المقرّبين من النظام. فاستنادا لهذا التكليف الذي يحمل معاني مقروءة بوضوح، لا يبدو غريبا على الإطلاق إبداء المونسنيور ابراهام نيهمي لصحيفة الفيغارو تخوّفه من أن يأتي الأخوان المسلمين الى السلطة بدل النظام، بما يمثّله ذلك من تهديد للوجود المسيحي. ولا يبدو غريبا قول البطريرك غريغوس الثالث لحام أن ‘الثورة أجنبية وأن وراءها أيد وأفكار وقرارات وأسلحة أجنبية، والأهم من كل هذا أن نواتها أجنبية’ كما يصب في نفس الإطار قول رئيس الكنيسة السريانية اينياس زكا أن قوى خارجية هي التي أجّجت الثورة وليس الشعب السوري. هذا جانب من الصورة التي أصبح عليها الموقف المسيحي بشقيه الشعبي والكنسي من الثورة ونظام بشار الجزار، دون أن ننسى الإشارة إلى جوانب مضيئة لا يمكن أن تُعتّم عليها مواقف بعض القوى ورجال الدين، منها على سبيل المثال لا أكثر تحويل ردهات العديد من الكنائس الى مستشفيات لاستقبال المصابين، وقيام الثوار في مدينة يبرود بحماية كنيستها الى جانب مبادرة الكنيسة للدعوة إلى إفطار في شهر رمضان.
يبقى القول ان تركيبة النظام واستفراد طائفيين من لون واحد بمقدرات البلد ليس قدرا لايمكن تغييره أمام إرادة الشعوب .. وحتى المفاجآت المتوقعة بين يوم وآخر. يا قدرة الله.
‘ كاتب سوري
القدس العربي