ما عاد بدهم شعب!/ ميشيل كيلو
خلال أحداث أعوام 1979 – 1982، زار وزير الخارجية السوفياتي سوريا مرات متكررة لشد أزر حافظ الأسد ورفع معنوياته. في أحد اللقاءات، سأل الضيف الرئيس: هل المخابرات والجيش معك؟.. حين أجاب الأسد بـ«نعم»، قال ضيفه: «في هذه الحالة، لا أهمية للشعب».
في عام 1961، وكنت في طريقي إلى ألمانيا للدراسة، مرت أمامي في أحد شوارع دمشق الرئيسة مظاهرة تندد بالحكومة. بما أنني كنت مناضلا معاديا للحكومات، فقد انضممت إلى المتظاهرين وشرعت ألوح بيدي في الهواء وأطلق هتافات قوية ضد الحاكمين. بعد قرابة نصف ساعة وصلت مصفحة عسكرية إلى المكان، ما لبث أن أطل من جوفها ضابط حدق في المتظاهرين ثم سدد إصبعه نحوهم وصرخ بأعلى صوته: «رشوهم.. اقتلوهم.. ما عاد بدنا بها البلد غير الجيش.. ما عاد بدنا شعب».
«ما عاد بدنا غير الجيش.. ما عاد بدنا شعب بها البلد».. هذا الضابط الانفصالي بلور بكلمات قليلة السياسة التي اعتمدها حكم أسدي بنى زمن الأب المؤسس جيشا لم يبق أي رباط وطني بينه وبين الشعب، أعد ودرب ليطبق النصف الثاني من تلك الصرخة التي انطلقت من حنجرة ضابط حانق خلال مظاهرة عادية، فغدت بعد عقد ونيف خيار العسكر الأسدي، الذي تبنى شعار «ما عاد بدنا شعب بها البلد» وطبقه مرات متعاقبة. فلا عجب أنه يقتل منذ عامين ونيف شعب سوريا بأكثر الصور منهجية ووحشية، مطبقا خيارا لطالما حاولت الأسدية تأكيد تمسكها بعكسه، لكنها ما إن طالبها الشعب بحقوقه حتى انقض جيشها عليه وشرع يطهر مدنه وقراه وينفذ سياسة «ما عاد بدنا شعب بها البلد». واليوم، تخبرنا تقارير منظمات تابعة للأمم المتحدة بأن الجيش صار على وشك تحقيق هدفه، فالشعب السوري إما فر إلى المهاجر والمنافي، أو هو في المقابر أو قيد التصفية داخل قراه وبلداته ومدنه المحاصرة والمجوعة والمقصوفة.
والحال أن أي شخص قادم من دمشق سيخبرك بأن شوارعها تخلو أكثر فأكثر من الناس، وأنها لم تعد الفضاء الذي لطالما بهرنا، بل تحولت إلى مزق صغيرة انعدمت صلاتها أو كادت، حولتها حواجز تقطع أحياءها إلى معازل ضيقة تجعل الانتقال بينها بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلا في أحيان كثيرة. هذه الحواجز التي تعتبر شاهدا حيا على موت المدينة هي اليوم علامة وجودها الرئيسة، بعد أن هجرها سكانها أو سجنوا في منازلهم، وسقطوا في قبضة قتل قد يطاولهم في أي لحظة، بسبب القصف العشوائي ورمايات القناصة الذين يحولون المدينة الممزقة إلى مقبرة جماعية ليست الحياة فيها غير برهة تفصل بين رصاصتين.
رأى البعث في الشعب كتلة نافلة أجبرته الظروف على القبول بوجودها في المنطقة الخاضعة لحكمه، وهي في العمق كتلة أعداء من الضروري التعامل معهم بصفتهم هذه. قبل الثورة، كان قتل الشعب معنويا، يستهدف روحه الوطنية وأخلاقياته الإنسانية. أما اليوم فقتله مادي، إبادي ونهائي، يقلص عدد بناته وأبنائه، بمن في ذلك من يقتلهم بحجة حمايتهم من الانتقام والموت، الذين يرمي بهم إلى التهلكة في معركة لو كان حريصا عليهم لما رمى بهم إليها، ولأوقفها بعد أن أودت بحياة كثيرين منهم!
لم يكن شعب سوريا مهما في أي يوم في نظر نظامها. لو كان كذلك لما أعمل سيفه فيه منذ تولى السلطة، ولما جوعه وصادر حقوقه ومزق أواصره الوطنية وحوله إلى طوائف متعادية، ولأحجم عن قتل أعداد منه في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق والأردن تعادل أضعاف من قتلهم العدو الإسرائيلي منهم، ولما خصهم بقنابله وصواريخه.
يجد ما يقوم به النظام السوري من أعمال إبادة مسوغاته في آيديولوجية تعتبره علة وجود الوطن، وتربط حق الشعب في العيش بخضوعه له من دون قيد أو شرط، فإن تمرد كان القضاء عليه واجبا وطنيا وإنسانيا، وأي جناح عليه في ذلك إذا كان يمكن دوما إعادة إنتاج الشعب إن هلك، بينما يستحيل استعادة النظام إن سقط أو زال؟!
لا أهمية للشعب: فهو حمولة زائدة يحب التخلص منها، إن تطلب بقاء النظام إزالتها من الوجود. أليس ما يحدث في سوريا من إبادة للشعب هو التطبيق العملي لشعار رئيس في هذه الآيديولوجيا، يقول: «ما عاد بدنا شعب بها البلد»!
الشرق الأوسط