ما فائدة المؤتمرات الدينية؟/ دلال البزري
تنعقد بين الفينة والأخرى مؤتمرات تصف نفسها بـ”الدينية”، أو “الحوارية بين الأديان”، لا يتغير مضمونها، مهما تغيرت وجهة الصراعات. وهذا طبيعي، طالما ان المؤتمرين هم أنفسهم، منذ عقود، تجاوزوا معها عمر المستبدين. بالأمس، كانت عاصمتان عربيتان على موعد مع مؤتمر يحمل العنوان ذاته: الحالة الدينية، أو الحوار الديني، أو أي عنوان ديني آخر، يربط بين الدين وبين المواطنة أو دولة القانون أو حرية المعتقد الخ.
وأنت تتصفّح أوراق هذين المؤتمرين، لا تحتاج إلى جهد لتلاحظ بأن التقاليد الندواتية لم تتغير منذ أن مشى العرب على خُطى الغرب بتنظيم المؤتمرات والندوات: إشراك “الأسماء” المعتادة، حتى لو بلغت درجة من التيه في مداخلاتها، ولكنها “جاذبة”. نجوم ذوو “إسماء جذابة”، ألِفتها المؤتمرات، فكان حضورهم من أساسياتها. وهذه الأسماء مع غيرها الأقل شيخوخة منها، تأتي إلى المؤتمر بالأوراق نفسها التي كانت تحاضر بها منذ عقود، وكأن أمراً جلَلا لم يطرأ على الساحة العربية، الدينية خصوصاً، ولا فوضى انبعثت من تحت ركامها ولا من يحزنون.
المؤتمرون بحثوا بنظريات وإشكاليات ومفاهيم مكررة، تقرأ عنها أطنانا من الأوراق. ولم ينزاحوا قيد أنملة عن أوراق قديمة بائتة، لم يدخِلوا عليها تعديلاً يُذكر. وكأن المؤتمر، الذي يتوق إلى الخروج من “الغرف المغلقة”… كأن هذا المؤتمر في واد، والواقع المعيوش في واد آخر. “داعش”، “القاعدة”، “النصرة”، “حركة النجباء”، “لواء فاطميون”، “حزب الله”، السلفيون، “الإخوان المسلمون”، فرق الموت الدينية، العراقية، اللبنانية، الأفغانية، هجرة “الارهابيين” من الجنسيات التي لا تحصى، الصراع الآخذ طابعا مذهبيا، ليس شيعيا سينيا وحسب؛ إنما إسلامياً، مسيحياً، قبطياً، إيزيدياً، علوياً الخ… وقائع جديدة، مستجدة، حاضرة بقوة، في الإعلام كما في الحياة… كلها جوانب تهملها المؤتمرات، محولة لقاءاتها إلى ما يشبه لقاء الأطباء المغرورين حول موضوع مريضهم: لغة مجرّدة، تجريدية، مغرْبلة، منظّفة من كل واقعة واقعية، ومنطلقة، ضمن “الغرف المغلقة” في رحابة الكلمات التي لا تقدم ولا تؤخر من مسيرة مجتمعاتنا نحو الدمار والخراب، الديني الحجة وربما الأساس.
لذلك، لن تخرج هذه المؤتمرات إلا بمزيد من اليقينيات. لا أسئلة فيها، لأن الأساتذة الكبار المدعوين اليها، هم من جهابذة المؤتمرات وأعلامها، من قدمائها، المعتادين على مجد كلمتهم، على الشاشات والمقابلات. وإذا كان من “شباب” مبتدئين بينهم، فان سطوة الكهول وحدها كفيلة بإخماد أي غليان، بإحباط أية “مغامرة” في التساؤل، أو الاعتراف بعدم الفهم، بعدم الإحاطة أو الإستيعاب. فيما الواقع يضجّ بوقائع تحرّض على السؤال وتعسّر الفهم. وهم يحضرون إلى هنا، وكأنهم للمرة الأولى يحضرون، وربما الأخيرة. كأنه لم تعقد قبلهم مؤتمرات من هذا القبيل، كأنهم لم يقولوا ولم يسمعوا كلامهم وهم ينطقون به عشرات المرات، ولا سمعوا كلام غيرهم، أو قرأوا لهم. لا تراكُم على الاطلاق، في هذه الندوات. لا نظر خلفياً إلى ما سبق. وبالتأكيد، هذا الذي يقولونه، سمعناه وقرأناه على مرّ السنوات، كأنه سمفونية خلفية، لا نصغى إليها ولا نأبه بها؛ مثل مولّد الكهرباء، أو زمامير السيارات…
وطبعا، لا مناص في هذه الحالة من نرجسية فاقعة، تمدّ المؤتمرات بمزيد من أصحاب الفرادة؛ إستثنائيون يبعثون الضجر من الأعماق؛ ضجر غير سَلِس، غير سهل، من النوع التحريضي على كثرة هذه المؤتمرات:فهي يُفترض بها أن تتكلم عن واقعنا، وإذا بها تعبّر عن واقع المؤتمِرين.
ولو أردتَ أن توفّر على نفسك وقت الضجر هذا، فما عليك إلا قراءة “التوصيات” الصادرة عن هذه المؤتمرات. وفيها عُصارة “الفكر الحر والجريء” الذي صاغته هكذا عبقريات. فمن منا لم يقرأ، طوال العقد الماضي، وربما قبله، تلك العبارات الرنانة من قبيل “ضرورة إصلاح الفكر الديني”، أو “ضرورة تجديده”، أو من قبيل إقامة “الحوار مع المرجعيات الدينية” أو بين “الاسلام والمسيحية” الخ. كأنك بازاء برامج لمرشحين الى النيابة، أو الرئاسة: كلام كبير مكرر مقوْلب، يحفظ ماء الوجه، لم يعُد له طعم ولا رائحة الخ.
فيما الأهم يظل خارج أبواب المؤتمرات. وهذا الأهم ذو صلة مباشرة وغير مباشرة بما نعيشه ونتكبّده على المدى القريب، ونترقب أسوأ منه على المدى البعيد: وهو معروف، لا تخطئه عين مجرّدة. انه مارد التطرف الإسلامي، الذي لا يتوقف عن الإنبعاث والتجدد والتفرّع والانتشار. فاذا كان هناك موضوع يجدر بالمؤتمرات الإهتمام به، من بين أشياء أخرى، وبأقلام غير مجرَّبة، فهو هذا.
جزء من هذا الكلام ينطبق ربما على المؤتمرات غير الدينية أيضاً.
المدن