صفحات الرأي

ما فرص نشوء تحالف إقليمي في وجه التمدد الإيراني في العالم العربي؟

في حلقة هذا الأسبوع من «سجالات» نطرح سؤالين حول ما إذا كانت ثمة فرص لتأسيس تحالف إقليمي يقف في وجه التمدّد الإيراني في العالم العربي. وفي هذا السياق نطرح سؤالين يجيب عنهما أربعة من المحللين والمتابعين؛ السؤال الأول: هل ثمة فرص لنشوء تحالف إقليمي عربي لمواجهة المشروع التوسّعي الإيراني؟ ويجيب عنه الباحث اللبناني الدكتور هادي الأمين، والباحث السعودي الدكتور محمد بن صقر السلمي. والسؤال الثاني: وهل يمكن للعرب التصدّي لهذا المشروع عبر دعم عرب الأحواز والأقليات الإيرانية المضطهدة، كون طهران تبني مشروعها على «تحالف الأقليات»؟ ويجيب عنه الكاتب والمحلل السياسي اللبناني لقمان سليم، والدكتور علي المعموري الكاتب والباحث العراقي المتخرج في إيران

هل ثمّة فرص لنشوء تحالف إقليمي عربي لمواجهة المشروع التوسّعي الإيراني؟

نعم .. ثمّة فرصة حقيقة لنشوء هذا التحالف والتوازن/ د. هادي الأمين

لماذا كل هذه المنازعات، بصنوفها الكثيرة، مع النظام الإيراني؟ ما أسبابها؟ وهل هذا الخلافُ، بشقيه؛ المُضمر والمُعلن، يستوجب تشكيلَ تحالف عربي بغرض مواجهة هذا النظام، والوقوفِ أمامَ تمدده في العالم العربي؟ وعلى تقدير وجوب تشكيل تحالفٍ كهذا، هل ثمة فرصٌ لتشكيله؟ أسئلة كثيرة، ما كانت لتُطرحَ لولا ظهورُ ما يستدعى ذلك، أي ظهورَ النظامِ الإيراني بالمظهر الذي هو عليه الآن؛ داعمٌ لنظام الأسد في سوريا، ومنتهكٌ لسيادة الدولة الوطنية في بعض البلدان، ومُحّرضٌ على العنفِ في بلادٍ أخرى.

1- «التحالفاتُ كردٍ على التهديد» يذهبُ جمعٌ من فقهاء السياسة وعلمائها إلى تعريف «التحالفات» على أنها، في وجه من وجوهها، «تأتي كردّ على التهديداتِ التي تقومُ بها دولٌ أو تحالفاتٌ أخرى» (WALT, S.M. , 1988: 275 – 316). في واحدة من أوراقه البحثية المنشورة، لا ينسى الأستاذ بجامعة هارفارد، ستيفن والت، تعيين الأسباب الدافعة لتشكُّل التحالفات على نحوٍ أكثر دقّة، ومنها، قيام دولٍ، كبيرة كانت أم صغيرة، مقتدرة كانت أم عكس ذلك، بإظهارٍ أي سلوكٍ عدواني، ويعطي أمثلة على ذلك؛ الأولُ، ألمانيا النازية، التي، وبسبب تعاظم قوتها وطموحاتها العدوانية، أسست لواحدٍ من أعظم التحالفات ضدها، والثاني، نظام معمر القذافي، الذي دفع، في القرن الماضي، كلا من مصر، والسودان، وفرنسا، والولايات المتحدة، وتشاد، للتعاون سياسيا وعسكريا لغرض الوقوف بوجه نشاطاته ومحاولة صدِّها (WRIGHT, CLUDIA. 1981 – 1982: 13 – 41; WALT,S.M. 1985 :3 – 43).

في كتابه «The Origin of Allainces»، يذهبُ ستيفن والت إلى اقتراح تغييرٍ جذري في المفاهيم الحالية لنظم التحالفات، فهو، وخلافا لنظرية «توازن القوى» التقليدية، يناقشُ بأن الدولَ إذا أرادت القيام بتشكيل تحالفاتٍ، فعليها القيامُ بذلك لا لغرض تحقيقِ «توازن قوّة»، بل لغرضِ تحقيق «توازن تهديد» (WALT,S.M 1987).

يحدد والت أربعة معايير تعتمدها الدولُ حينَ تقييم التهديد الذي تشكله دولٌ أخرى، ويعتبرُ أن أي دولة تحملُ بعض هذه الصفات أو كلّها، فإنها ستستدعي من الدول الأخرى العمل على إيجاد «توازن تهديد»:

أ – قوتها الإجمالية: الحجمُ وعدد السكان والقدراتُ الاقتصادية ب – الجغرافيا: المسافة الفاصلة بينها ت – قدراتها الهجومية ث – نواياها العدوانية إذن، – وبالقدر الذي يسمحُ به بالمقام – تأتي نظرية «توازن التهديد» هذه، لا لتنسف نظرية «توازن القوى»، بل لتفصل «القوة» عن «التهديد»، أي، بمعنى آخر، لــ«تعطي الحق»، من جهة، لأي دولة بتنمية قدراتها العسكرية والاقتصادية.. إلخ، ما دامت لا تشكّل أي تهديدٍ لمصالح دولٍ أخرى، ولا تحملُ في جعبتها سلوكا عدوانيا لجيرانها، أقربين كانوا أم أبعدين، وهي، أيضا، من جهة أخرى، تأتي لــ«تبرر» ذهاب دولٍ نحو التحالف فيما بينها لغرض إقامة «توازن تهديد».

2 – حلفٌ عربي – «توازنُ تهديد» ضد النظام الإيراني: لماذا، ولمَ الآن؟

في اليوم الأول من شهر شباط (فبراير) عام 1979، حطّت طائرة في مطار طهران الدولي، حاملة على متنها السَّيد الخميني وعدَّة ثورته، من «حَرسيينَ» مُتطرفين، وصَحْبٍ مؤيدين، ومُريدينَ خُلَّصٍ أقربين. يومها، وقبلَ أن يتحوّل سلوك «النظام الحرسي» ويصيرَ مرتعا خصبا لصنوفٍ كثيرة من الخلط والتداخل التلفيقي، استطاعَ أن يُوقدَ الوجدانَ الجمعي للاجتماعين العربي والإسلامي، وأن يوهمَ هذين الاجتماعين بأنَّ الإيمان بهِ والاستثمار فيه، إنما هو فعلٌ مردودهُ جزيلُ الفوائد وعظيمُ العَوَائد. لم يدم الحالُ هذا طويلا، ذلك أن «النظام الحرسي»، وبسبب معادلاته العقلية وطرائق تصرفه، أثبتَ لهذين الاجتماعين عدمَ أهليته، فتداعى الإجماعُ حولهُ وانفرط عقده.

لم تنتهِ المسألة عندَ الذي تقدّم – ويا ليتها – بل تعدّت ذلك إلى تفرُّغ النظام الإيراني تفرغا كاملا لأهداف كثيرة أخرى، أدت فيما أدت إليه، إلى استدراج أزماتٍ مُفتعلة خطيرة وكبرى، منها تلك المتعلقة بالولاء الوطني والانقلاب على نظام الحكم (مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية)، والأخرى المتعلقة باحتلال الأرض (الإمارات العربية المتحدة)، والثالثة المتعلقة بانتهاك سيادة الدولة الوطنية ودعم ميليشيات مسلحة (لبنان، العراق، فلسطين، اليمن، مصر) ومشاركة السلطات الحاكمة حكمها (لبنان، سوريا، العراق)، ناهيك عن تغلغل نفوذ الأجهزة الإيرانية الاستخباراتية في جالياتٍ مسلمة كبيرة حول العالم (شرارة، وضّاح، 2013). إذن، هذه الأعمال هي أعمالٌ تهدف إلى تصديع مؤسسات الحكم في دولٍ أخرى وتشطيرها، وإلى تأليب الاجتماعات الوطنية بعضها على البعض الآخر وتقسيمها وإعمال الفرقة فيها، وإلى تحريض بعض هذه الاجتماعات على الخروجِ على أنظمتها السياسية وأجهزة الحكم فيها، وتشجيع مواطنين على محاجزة مواطنين آخرين، والمشاركة في تدمير بلاد أخرى وقتل ناسها وتمكين طاغوتها وميليشياتها، هي فعلُ تهديدٍ واضح وإظهارٌ صريحٌ للنوايا العدوانية التي يحملها النظام الإيراني ويجاهر بها ضدَّ دولٍ جارة لا تفصله عنها مسافة جغرافية بعيدة.

إذن، وفي ضوء الذي تقدم، هل ثمة حاجة – فرصة لنشوء تحالف عربي – توازن تهديد لمواجهة المشروع الإيراني هذا؟

طبعا، لعلنا أردنا من هذا السرد القليل الذي تقدم، لأفعال النظام الإيراني ونياته العدوانية على جيرانه، أقربين كانوا أم أبعدين، إلى بناء صورة متكاملة نسبيا، تقودنا نحوَ القول بوجوب تشكيل تحالف عربي – توازن تهديد جدّي يقفُ سدّا منيعا في وجه النظام الإيراني ومشروعه، ونحو القول بوجود فرصة حقيقة لنشوء هذا التحالف والتوازن، فرصة، يُثبت من خلالها هذا التحالف قدرته على إظهار احتجاج عملي ورادع على انتهاكات النظام الإيراني، وفرصة تمحو الفشل في اقتناص فرصٍ سابقة كثيرة، وتمحو أيضا سنين طويلة من الفشلِ بالردِّ عليه بمشروعِ مواجهة ناجح.

* باحث وأكاديمي لبناني

هل ثمّة فرص لنشوء تحالف إقليمي عربي لمواجهة المشروع التوسّعي الإيراني؟

لا .. الإشكالية الكبرى غياب مشروع عربي من دون استبعاد فرص بنائه بالمطلق/ د. محمد السلمي

بطبيعة الحال تظل هناك فرص كبيرة لبروز تحالف إقليمي عربي لمواجهة المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة العربية، إلا أن هذا التحالف يواجه عدة تحديات حقيقية تحتاج إلى عمل دبلوماسي كبير قبل تكوين أسس هذا التحالف واستراتيجياته.

ندرك جيدا أن التقلبات التي تعصف بالمنطقة العربية تقف حجر عثرة في طريق بناء وحدة عربية في مواجهة المشروع التوسعي الإيراني، كما أن الانقسامات العربية – العربية تؤجل دائما العمل العربي المشترك في مواجهات التحديات الإقليمية والدولية. الأمر الأكثر تعقيدا في أعقاب الانفتاح الغربي على إيران بعد الاتفاق النووي المبدئي بين القوى العظمى وإيران يكمن في انفتاح دول عربية على إيران، هذا الانفتاح يدفع تصفية حسابات إقليمية والانتصار لمسائل حزبية بحتة، في ظل تجاهل تام لهذا الانفتاح «المتسرع والعاطفي»، في مقابل تهديدات المشروع الاستراتيجي الإيراني في المنطقة.

الواقع أن أحد أهم أسس المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة يكمن في العمل على محورين رئيسين؛ أولهما مشروع يركز على تفتيت أي تكتلات قد تقف في وجه هذا المشروع أو تؤدي إلى تأجيله، ويتحقق ذلك من خلال تسليط الضوء على الخلافات بين أعضاء مثل هذه التكتلات وتضخيمها والعمل على الحيلولة دون حلها. أما ثانيهما فيعتمد، من جانب، على توطيد العلاقات الثنائية بعيدا عن أي تكتلات سياسية، ومن جانب آخر «شيطنة» الدول التي على علاقة مضطربة مع هذه الدولة والسعي إلى تعميق هذه الخلافات.

إن الإشكالية الكبرى التي كانت، ولا تزال، تواجهها دول المنطقة العربية في مقابل المشروع الإيراني تعدّ غياب مشروع عربي حقيقي لمواجهة الأطماع والتوغّلات الإيرانية في الداخل العربي، تارة تحت غطاء مذهبي، كمزاعم الدفاع عن الأقليات الشيعية في العالم العربي، وطورا تحت راية إسلامية ترفع الورقة الفلسطينية.. بينما الهدف الحقيقي تسجيل مكاسب سياسية، وتشكيل قاعدة شعبية، وبناء خلايا نائمة وأذرع عسكرية موالية لطهران في الدول العربية.. في ظل ضعف وشتات عربيين.

من أجل تحقيق تحالف عربي صلب يواجه المشروع الإيراني في المنطقة ينبغي على الدول العربية العمل على مستويين رئيسين: الأول، فردي بحيث تقوم كل دولة على حدة بسدّ جميع الثغرات التي أدت إلى وجود إيراني حالي، أو تسمح بتسرّب مستقبلي إلى الداخل العربي والعمل على تقوية الجبهة الداخلية وتعزيز الوحدة الوطنية على كل الأصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية. أما المستوى الثاني، فيأتي نتاجا للمستوى الأول، ويتبنى فكرة العمل الجماعي والتحرّك كفريق متكامل ومتجانس بهدف إفشال المشروع الإيراني وتحجيمه، وبالتالي تحويله من حالة الهجوم إلى حالة الدفاع والانكفاء على الداخل لمواجهة الاستحقاقات المحلية التي ظل النظام الإيراني يتهرّب منها طيلة العقود الثلاثة الماضية.

من جانب آخر، تحتاج الدول العربية إلى إعادة النظر في سياسة تعاملها مع إيران، ومجابهتها وفقا لنمط يتوافق ومنهجية تفكير الشخصية الفارسية، خاصة عندما يكون الحديث عن الآخر العربي في الفكر الإيراني. ولتبسيط هذه النقطة، ينبغي أن ندرك جيدا كيف تنظر الشخصية الفارسية إلى الدول والحكومات العربية، وإيمان هذه الشخصية الراسخ بأن العرب غير قادرين على مواجهة إيران، وغير مؤهلين لذلك، وأن إيران التي يمتد تاريخها لأكثر من 2500 سنة وما حققته من حضارة وثقافة هي المؤهلة لتصبح – من وجهة النظر الإيرانية – قوة إقليمية ضاربة لا يمكن لدول حديثة الإنشاء أو الاستقلال مواجهتها أو الوقوف في وجه مشاريعها في المنطقة.

ولقد دعم هذا الفكر القومي الفارسي، القديم والمتجدّد، إيمان رجل الدين السياسي، الذي يتولى زمام الأمور في إيران، بعد انتصار ثورة 1979م، بعناصر جديدة أصبحت القاعدة الأساسية لبناء النظام الجديد. واليوم يتمحور هذا النظام بصبغته الدينية حول تراث المذهب الشيعي بنسخته الإيرانية، وهو بدوره يؤمن بأدبيات الفقه الإمامي الاثني عشري وبنظام «ولاية الفقيه» ومشروع تشكيل «الدولة المهدوية» مقدمة ذلك وأسس تحققه، ويضع إيران في مواجهة مباشرة مع دول الجوار العربي.

بعبارة أكثر وضوحا، يؤمن ساسة إيران بأن صمت الدول العربية في مقابل تجاوزات طهران وتدخّلاتها المتكرّرة في شؤونها الداخلية، بل وحتى الاعتراضات الدبلوماسية العربية الخجولة أحيانا، ناجمة عن عجز هذه الدول عن المواجهة، مما يمنح الساسة الإيرانيين حالة من الشعور بالغرور الطاووسي، ومن ثم التمادي في تدخلاتهم وتوغلاتهم في الداخل العربي.

لذا فإنه أصبح من الضرورة بمكان البدء في تشكيل تحالف عربي يوقف المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة، ويضع حدا لدعم طهران لمثيري الشغب والقلاقل في المنطقة، الذي يصب في نهاية المطاف في خدمة المشروع الإيراني، حتى وإن ظهر ذلك بنكهة طائفية وصراع مذهبي، بينما هو في واقع الأمر مشروع سياسي بحت امتطى جواد الطائفية بسبب غياب أي عنصر آخر في الداخل العربي قد يساعد على إنجاح المشروع التوسعي ويحقق أهدافه واستراتيجياته.

* باحث سعودي متخصّص في الشؤون الإيرانية

هل يمكن للعرب التصدّي عبر دعم عرب الأحواز والأقليات الإيرانية المضطهدة كون طهران تبني مشروعها على «تحالف الأقليات؟»

نعم .. نكره النظام ولكن المسألة الأهم هي «كيفية» كراهيته/ لقمان سليم

لا يحتاج المرء أن يكون سوريا أو لبنانيا، (شيعيا أو سنيا)، أو حتى إيرانيا ليكره إيران.. (إيران النظام). حسبه أن يكون شاعرا، حتى بلغة منسيّة أو مندثرة، وليس بالضرورة شاعرا أحوازيا، وحسبه أن يكون مجرّد مطالع هاوٍ لأحوال العالم، لا سيما هذه المنطقة منه، ليكرَه إيران تلك. أما إن اتفق له أن كان سوريّا يعد سنوات البؤس البعثي، كما يعدّ البراميل المتفجرة، أو لبنانيا يدفع يوميا ثمن استيلاء «حزب إيران» على الحياة السياسية في بلده، أو إيرانيا ضاق ذرعا بجنون العظمة المهدوي، فحدّث ولا حرج.

هؤلاء، وأمثالهم كثير، ممن دفعوا، قبل سواهم، ثمن التمدد الإمبراطوري لـ«إيران النظام» تلك من قبل أن تنتخب روحاني رئيسا للجمهورية، ومن قبل أن نَحَّت جانبا عداوة «الشيطان الأكبر»، بل من يوم أن أثبت خاتمي، سلف روحاني في حلاوة اللسان، فشل «الإصلاح» مع «ولاية الفقيه» وفي ظلها، هؤلاء لا يحتاجون إلى من يبشّرهم بأنه لا مستقبل يُرَجّونه لمواطنيهم ولبلادهم، إيران ضمنا، طالما أقامت «إيران النظام» على حالها من الجبروت، وطالما أقاموا، هم، على حالهم من «الاستضعاف».

أقول قولي هذا، على بيّنة مما هو عليه من إرسال ومن مبالغة، حسما لأصل المسألة: دفاعا عن النفس، إن لم يكن إلا هذا، لا مفرّ لنا، الآن، وهنا وهناك، من طهران نفسها إلى غزة، مرورا بالمنامة وبغداد ودمشق وبيروت وسواها، لا مفرّ لنا من أن «نَكْرَهَ إيران». على أن بيت القصيد ليس أن نَكْرَهَ إيران، ولكن «كيف نكرهها»؟

«كيف نكره» إيران، بحيث يؤدي هذا الكُره الغاية السياسية المنشودة منه، فيساهم في هذه اللحظات الحرجة من الجَزْر الوطني والقومي على امتداد العالم العربي. وفي هذه اللحظات الحرجة من استعلاء العدمية تحت شتى عناوينها، بما في ذلك العناوين المذهبية، و«إيران النظام»، بصرف النظر عن يدها الطولى خلال العقود الماضية، فيما نحن فيه اليوم من جزْر ومن عدَمية هي المستفيد الأول منهما؛ فيساهم في الحفاظ على أفق ما مفتوحا، لا بل متخيَّلا، خارج هذا الجَزْر وتلك العدمية، ويؤسس، يوما ما، على الأرجح ليس بالقريب، لتسوية مع إيران متحرّرة من أوهام القوة، ومن مطامعها القورشية.

إذا كانت الأسباب الموجبة لـ«كره إيران»، في كل مكان من الأمكنة التي نجحت إيران تلك في إخضاعها لغلبتها، أو حيث لا تزال محاولاتها في سبيل ذلك قائمة على قدم وساق، وفي صفوف كل الجماعات التي فرضت عليها إيران تلك ولايتها باسم «الفقيه» أو باسم المصالح العليا لـ«الأمّة العظيمة»، إذا كانت تلك الأسباب تحصيل حاصِل، فلا بد لهذا الكُرْه الذي يجب أن يُحمل على محمل الطاقة الخام الآيلة للتّصفية والتكرير، اللهم أن ندعه يُهدَر في مصارف العَدَمية.. لا بد لهذا الكره، المختلَف في مآتيه وفي تعبيراته وفي مفرداته أيضا، من أن يُوَظّف في مشروع عام، أو قل في مشاريع موضعية عدة تحت مظلة مشروع عام، لا بأسَ أن يُوصف سِنانُه بـ«العربي» طالما أن العروبة التي يحيل إليها ليست العروبة المستلهمة وثنيات «الدم» و«الأرض»، وإنما عروبة قيم ومصالح جامعة، وألا يُسْتَحى من أن يكونَ لكل واحد من هذه المشاريع مراسيمه التطبيقية.

اليوم، في 2014، علينا أن نُسَلِّم بأن إيران التي كرهنا في السرّ لعقود، والتي بات أضعف الإيمان إشهار الكره لها، أنجزت تسللها إلينا وتغلغلها في حياتنا.. وأنها اليوم تتقدم بيننا، وعبر حدودنا الداخلية، وفي حواضرنا حاسرة الوجه لا مبالية بسفورها هذا، مطمئنة إلى خلو الميادين التي تتقدم فيها من أي «مقاومة» يمكن أن تعترض طريق تقدمها.

مقول القول إن إدارة العلاقات العربية – الإيرانية بالإحالة إلى مفردات «سياسة الجوار»، وأدواتها المختلفة، سواء اتخذت سياسة الجوار هذه منحى انفتاحيا «تسوويا»، أم اتخذت منحى توجسيا صداميا، بات قاصرا عن الإحاطة بواقع الحال المستجدّ.. بحكم ما نجحت إيران في غزوه من العالم العربي، من يوم أن كان «تصدير الثورة» بندا صريحا على جدول أعمال «النظام» إلى يومنا هذا، ناهيك بردعه أو باحتوائه.

أضف إلى ذلك أن أيما سياسة ترى إيران على أنها «جوار» تتنازل، بل قُلْ تتخاذل، ابتداءً، عن السعي إلى إحصاء الأضرار التي ألحقتها «إيران النظام» بنا، وبعلاقة الجوار بين العالم العربي وإيران، وتسقط من الحسبان، استطرادا، موجب جبر هذه الأضرار..

من ثم، ولأنه على المرء في الحَرْبِ، على ما ينصح المثَل الفرنسي، أن يتصرّف كما لو أنه في الحرب، فلا مضيعة للوقت في التمَلّي من سياسات النظام النازي حيال الجماعات المزعومة «جرمانية»، من بولندا إلى الفولغا، أو ما يُعرف بـ«الفولكس دويتشه»، لتشخيص سياسات إيران تلك. ولا حرج، ولا مبالغة، ولا مثالية على الإطلاق من التّوسّل، بـ«كُرْه إيران» (النظام)، ومن تزكية الاستثمار في صياغة منظومة جديدة من «الكُرْه الذّكي» لها، شريطة أن تكون لحمة هذه المنظومة وسداها سد الذرائع المذهبيّة التي تسللت منها إيران إلينا قبل ما تمكّنته.

* كاتب ومحلل سياسي لبناني

هل يمكن للعرب التصدّي عبر دعم عرب الأحواز والأقليات الإيرانية المضطهدة كون طهران تبني مشروعها على «تحالف الأقليات؟»

لا .. أي محاولة لاستنساخ الصراع سوريا في منطقة أخرى سيؤدّي إلى الخراب/ د. علي المعموري

ما تشهده المنطقة هو سقوط مشاريع الآيديولوجيات القومية والدينية التي كان لها قابليات واسعة لإيجاد ائتلافات ووحدات مشاعرية باءت كلها بالفشل في نهاية الأمر. ما تحتاجه المنطقة حاليا ليس تحالفا إقليميا من نوع ما سبق، لا توجد له أرضية للتحقق من الأساس، بل تحالفات عقلانية على أساس المصالح المشتركة والتعامل الحكيم مع الجميع، بما فيه ما يُدعى في الخطابات الآيديولوجية بـ«العدوّ».

لن يخرج أي من الأطراف المتصارعة في السياق الطائفي القائم منتصرا، بل ستلحق الهزيمة بالجميع. وخير دليل على ذلك هو ما تشهده سوريا من قتل ودمار شامل لم يُستثنَ منه أحد، بما فيهم السنّة والشيعة أنفسهم والأقليات بمختلف اتجاهاتها السياسية. هذا مضاف لاستنزاف كبير للأموال والطاقات التي كان من شأنها أن تطوّر بلادنا وتقوي أواصر التعاون والتعامل البناء بين شعوبنا وحكوماتنا.

وعليه، فأي محاولة لتكرار الصراع القائم في سوريا في منطقة أخرى، مثل دعم مشاريع الانفصال في المناطق العربية في إيران، سيؤدّي إلى نموذج آخر من الخراب، وسيذهب بكل الفرص القليلة، التي ما زالت موجودة للتغلب على تصدّع العلاقات والتعاون الحكيم والعقلاني بين القوى المؤثرة في المنطقة.

ليس هناك أي أفق إيجابي للاستمرار بمشروع الصراع القائم، بل على عكس ذلك هناك ما يكفي من الأدلة والنماذج لإثبات الآثار السلبية التي ستلحق بجميع الأطراف في المنطقة في حال استمرارها على سياساتها التصارعية.

في المقابل يكمن الحلّ في التأسيس لخطاب عقلاني يدعو إلى التعاون البناء مع جميع الأطراف للحد من الخسارات التي تتحملها شعوبنا. وهذا يتطلب بكل وضوح الابتعاد عن الأسس القومية والدينية في الطروحات السياسية في هذا المجال. بل يجب أن تُبتَنى هذه الطروحات على أسس المصالح المشتركة، التي هي كثيرة جدا بين دول المنطقة.

من الطبيعي أن الحل العقلاني يتطلب فترة زمنية أكبر، وجهدا علميا وعمليا أوسع، ونظرة إنسانية أشمل. ولكن إذا علمنا أنه ليس هناك في النهاية حلّ سوى ذلك، وأن الأطروحات الآيديولوجية الأخرى لن تؤدي بالنتيجة سوى إلى المزيد من الخسائر، فلن نحيد عن الحل العقلاني باتجاه بدائله.

إن المنطقة لها إمكانية وقابلية واسعة لتؤسّس في المستقبل غير البعيد نوعا من الاتحاد الشامل بين كل الأطراف القائمة حول الخليج العربي أو الفارسي (ولا يهم الاسم بمقدار ما تهم المصالح الحقيقية التي تضيع حاليا وسط المعارك القائمة بيننا). يجب وضع حد لمنطق الفعل التهاجمي ورد الفعل الدفاعي، لأن ذلك لم يخلق سوى دوامة متكررة ومتصاعدة من الصراع.

المنطقة تحتاج إلى ساسة شجعان وعقلاء ليتبنوا الخطاب العقلاني ويتعاملوا مع المواقف المتضادة، وحتى العدائية، بمنطق المصالح والبحث عن الحلول العلمية للتغلّب على المشكلات، وليس الخطابات العدائية والحماسية المؤدية للمزيد من الصراع والخسائر.

التعامل الحكيم مع الصراع القومي والديني القائم في المنطقة يتطلّب دراسات علمية استراتيجية شاملة لمختلف أبعاد هذا الصراع من جهة، ومن جهة أخرى، إرادة سياسية جدية للعمل وفق نتائج تلك الدراسات. وتشمل تلك الأبعاد المواقف السياسية لبلادنا، والاتجاهات غير الحكيمة لوسائل الإعلام لدينا، والثغرات الثقافية والاجتماعية التي تمنعنا من فهم الآخر بشكل صحيح.. وغير ذلك مما يرتبط بصراع الهويات المؤدلجة والمتأزمة مع نفسها وغيرها.

ليس من الضروري علينا أن نجرّب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وندفع بعشرات الملايين من الضحايا لكي نصل إلى عقلانية الاتحاد الأوروبي، بل يمكننا التعلّم من تجاربهم واستخدام مناهجهم وآلياتهم في التعامل مع الواقع المتصارع لدينا.

* كاتب وباحث عراقي درس في إيران

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى