صفحات الثقافة

“ما في حكي وما بقي حكي أدّام كل هذا الموت…”


ماجد كيالي

منذ عام ونصف باتت حياتنا محسوبة بتظاهرة هنا أو هناك، وباعتصام هنا أو هناك، وفي من ضرب، ومن اعتقل، ومن قتل، من الأصدقاء، أو الجيران، أو المعارف، أو من هذه الحارة أو تلك، في مدن و”ضيع” سورية. منذ عام ونصف بات إيقاع حياتنا يمضي مع نشرات الأخبار، بين محطة ومحطة، ومع صفحات الفيسبوك، بين صديق وصديق، ومع ترصّد مزيد من المعلومات من هذه الجهة أو تلك.

مع الزمن لم يبق ثمة كلمات يمكن قولها بشأن مايجري حقاً في سورية، فلقد عجزت الكلمات، ونضبت، فما يجري يصعب وصفه، أو حتى تصوّره، فهو شيء مهول، ومروع، ومفجع، وموجع، ومأساوي، بقدر ماهي الثورة السورية مدهشة، بشجاعة السوريين الرائعين، وباستعدادهم العالي للتضحية، وبتضامنهم الحميمي، وبإصرارهم غير المسبوق، وبجوعهم الذي لايضاهى إلى الحرية. حتى الصور المبثوثة لايمكنها أن تحيط بكل هذا القتل الأعمى، والتدمير المعمم، والتنكيل الاهوج، فما يجري لوأد ثورة الحرية والكرامة أضعاف أضعاف ما تبثّه الأقنية الفضائية، والشبكة العنكبوتية، وأصلاً فإن ما يبثّ هو اقل القليل، وهو نتاج جهد شجاع، يقوم به “فدائيون” حقاً، بدليل أن كثيرا منهم لقوا مصرعهم، أو اختفوا، في سبيل الحقيقة.

هكذا، ففي الأيام التي تلت ماجرى في الحولة والقبير والحفّة، لم أعد أستطيع أن أتجاوب مع صديقتي خولة، ابنة تلبيسة (فثمة أكثر من خولة رائعة في سورية). كانت خولة تحيطنا، عبر صفحتها، بما يجري في قريتها لحظة بلحظة. في إحدى رسائلها قالت خولة: “عاجل…قصف عنيف ومدمّر وغير مسبوق على تلبيسة هو الأعنف حتى الآن، الصواريخ و قذائف الهاون تتساقط أغزر من المطر و لا نعلم ما عدد الجرحى و اشتعال النيران في المنطقة الغربية من المدينة غربي الطريق العام و الأهالي يستغيثون..أين المراقبون؟!…أين العالم؟! ياالله مالنا غيرك ياالله.” لم استطع أن اكتب شيئاً…ثمة شيء كثير يجتاحني من القهر والعجز والغضب.

الصديقة العزيزة رفيدة (فلسطينية سورية) تعيش مع زوجها وولديها في برزة بدمشق، كانت دائما تحدثنا عن ما تكابده هناك. في مرة كتبت: “بدنا قلوبكم معنا… هذا اضعف الإيمان.. نحنا محاصرين بكل أنواع الأسلحة..برزة الله يحميكي ويحمينا.” وكانت قبلها كتبت: “ما في حكي أدّام (أمام) الموت.. الدموع والوجع.. ما في حكي ادّام مطر من القذائف والرصاص فوق راسك .. بيوت عم تحترق.. وأولاد عم تصرخ ونسوان عم بتولول…ما في حكي.” وقبل ذلك كتبت “موت بطيء..ياعالم..عم منموت موت بطيء.” رفيده هذه تعرّض بيتها مرارا للانتهاك، مثلها مثل حارتها، التي تعتبر من المناطق الساخنة في دمشق، وهي ذاتها تعرّضت لضرب مبرح من الشبيحة، ومع ذلك فقد رفضت، وعائلتها، عروض كثيرة لمغادرة الحي، فهي تقول “اللي بيصير على جيراننا بيصير علينا.. راسي مرفوع مع هيك شعب”.

كوليت بهنا كتبت، قبل أيام، تناجي ربها: “يارب..اجعل من حضن كل معتقل وسادة طريّة لرفيقه المعتقل (المنهنه) من التعذيب..اجعله كحضن أمه وأخته.. حنوناً ومعطراً ومطرزاً بحروف الرأفة..يارب..اجعل ذاكرتنا مستيقظة صبحاً وليلاً كي لانسهو عن آلامهم في غفلة ما”. وكتبت أيضا: “في الوقت اللي عم نشرب فيه قهوتنا الصباحية.. أنتوا عم تشربوا المرّ.. عم نتأفف وضجرانين من الجبنة واللبنة..وأنتو عم تستحلوا شقفة خبزة طرية..شوية شوب وعجقة بخلونا نصير نزقين.. أنتو شو عاملين بهالفرن اللي محشورين فيه؟؟..عرق ملح بإصبعتنا بوجعنا ساعتين.. مين عم يداوي جروحكم ويمسح دموعكم؟؟ صباح الصبر ياكل المعتقلين..يا كل اللي بنعرف أسماءهم واللي ومابنعرف عنهم غير إنهم ولاد وصبايا بلادي اللي متل الفلة ..شو ماقلنا مقصرين .. ياريت الكلمة بتجيب نتيجة كنا ضلينا عم نحكي..” وتروي كوليت حادثة حصلت معها، إذ تقول:”من مدة ماحاكيتو..واحد من البياعين اللي بشتري من عندو..قلتلو: ماعم لاقيك.. وين غاطط؟؟ قال لي: والله غبت يومين تلاتة للعزا..الله أكرمنا بابن عمي شهيد..شعب بقول (الله أكرمنا) وبيرضى بقضاء الله وقدره بكل صبر وبعضّ ع جروحه شعب مابينهزم..نعم ..إيمانهم يقوينا”. كوليت هذه كتبت عن نفسها “وصيّة” قالت فيها: “ماحدا يلفني بالكفن متل بونبونة بلا سكر..ماحدا يحشرني بتابوت متل سمكة سردين..ماحدا يعمل العلم شادر فوقي..بدي منكم بس قنينة سفن آب..وشوية بزر وفستق للتسلاية..وكل مرة تحكولي عن أخبار السينما..” صديقتها هالا محمد أجابتها: “احسبي حسابي ياكوليت”. فردّت كوليت: “معناها صار بدنا كازوزتين”. وفي ذات يوم صاحت كوليت: “ياهدوك..يللي بتنتموا لضيع الساحل بكل طوائفو..إذا كنتوا سوريين صحيح يفترض تعتبروا أنو هالضيع اللي عم تنقصف بتخصكم..مابدكم تزعلوا عالبشر..ازعلوا عالشجر..عالطير..عالزيزفون والشنكليش والسوركي والزعتر البري والأرض السمرا اللي بتغنولها سميرا وأنا الحاصودة ..ولك ازعلوا ع بنات آوى ودياب الغابات..كونوا منحبكجية لترابكم ..ازعلولكم ع شي شغلة”.

الشاب رشاد (فلسطيني سوري) لم يتحمّل قلبه فكتب على صفحته: “كنا كفلسطينيين نبكي حالنا..ونشكي من تخلّي العالم عنا! بتنا اليوم كفلسطينيين نحسد أنفسنا على وضعنا مقارنة مع ما يحصل للشعب السوري!” أما الشاعر الفلسطيني إياد حياتلة فيكتب: “ينتابني الخجل هذه الأيّام عندما أكتب شيئاً عن فلسطين..فأشعر أنّني مدينٌ باعتذارٍ لأصدقائي السوريّين.”

حقا هذا وضع يصعب تحمله، هذا فوق طاقة البشر، المشكلة انه في غضون ذلك تأتي رسالة من صديق بعيد، لم يعش يوما في سورية، يتحدث فيها عن مؤامرة وعن عصابات…فكم يكون حجم الألم، لاسيما إذا كان هذه الصديق شخص مثقف وأكاديمي، أي أن شغلته المعرفة والبحث عن الحقيقة؟! لا أستطيع أن أصف أحاسيسي ومشاعري، لكنني كتبت له وقتها، مايلي: “احترم رأيك، فأنت حرّ فيه…لكن رجاءً لاتبعث لي بهكذا رسائل، كل ما اطلبه أن تتفهمني… لقد عرفت رأيك.. شكرا لك. لكن الصديق لم يرتح لردي، فكتب معاتباً، معتبراً موقفي بمثابة رفضاً لحريته في الرأي! كان جوابي كالتالي: ياصديقي العزيز، شكرا لك، أنا معك في حرية رأيك، لكن آمل منك أن تتفهّم وضعي، فنحن هنا لانتحدث عن اختلاف على رأي، ولا نتجادل حول قضية سياسية أو فكرية، نحن هنا نتحدث عن اختلاف في رؤية الواقع الذي يجري أمامنا، أنت لاتريد أن ترى الواقع، ولا تريد أن تعرف ما يجري حقاً. والأنكى أن هذا يأتي بعد عام ونصف، وبعد كل ما جرى…لذا مجددا احترم رأيك، لكن لاترسل لي عن ذلك، لأنه ليس بإمكاني أن أكذّب ما أراه وأسمعه وأعيشه. لايمكنني أن أنسى أو أتجاهل أن ثمة أصدقاء لي فقدوا واحدا من أبناءهم أو أخوتهم…لا يمكنني أن أكذب أن ثمة عشرات من معارفي المباشرين، وأضعافهم من معارفي البعيدين، من المناضلين السلميين والعلمانيين، قضوا في السجون…أو نكّل بهم…رجاء افهمني وقدّر ألمي وعجزي وقهري ولا تزد من شجوني.

وقتها، ومن كل هذا الوجع، كتبت على صفحتي: “إذا كانت درعا وضواحيها، ودمشق وضواحيها وحمص وضواحيها وحماه وضواحيها وحلب وضواحيها واللاذقية وضواحيها والدير وضواحيها والقامشلي وضواحيها..وإدلب وضواحيها..والرقة وضواحيها..وإعزاز ومعرة النعمان وبنش والبوكمال والضمير والرستن والبيضا والقصير وتلبيسة وكفر نبل والحفّة والقبير والحولة وبابا عمرو وباب السباع والخالدية وحي القصور وجورة الشياح والزبداني ودوما وبرزة والقابون والقدم وعسالي والزاهرة والمعضمية والجديدة وحرستا والميدان وسقبا وحمورية وجوبر وحرستا والهامة ودير قانون وقدسيا والمزة وكفر سوسة وبستان القصر والجميلية وحلب الجديدة والسكري والانصاري والحمدانية والمدينة…إذا كانت هذه كلها إرهابية… وتشترك في مؤامرة…فمن هي سورية إذا؟! ومن هو الشعب السوري حقاً؟! وماهي هذه المؤامرة؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى