صفحات الرأي

ما قبل السياسة وما بعدها/ رشيد بوطيب

 

 

درجت النخب السياسية العربية على الاعتقاد بأن الشعوب العربية لم تبلغ سن الرشد السياسي بعد، ولربما كان هذا صحيحاً، إذ كيف نطلب ذلك من شعوب حرمت من حقها في الحرية والعدالة والتعليم، ودخلت الحداثة كموضوع لها، وفي أحسن الأحوال كمستهلكة سلبية لمنتوجاتها.

لكن المشكلة لا تنتهي هنا، فما لا تريد أن تفصح عنه الأبويات الحاكمة، هو أنها ما برحت تعمل من أجل الحيلولة دون تحقيق ذلك الرشد السياسي، لأنه يعني بالضرورة مساهمة مباشرة للشعوب في اختيار حكوماتها. وبغض النظر عن كون مفهوم الشعب إشكالياً ولا يمكن اعتباره كلاً منسجماً، يتكلم بصوت واحد، كما ذهب وأوضح ذلك المفكر السياسي الألماني يان فيرنر مولر، إلا أننا في السياق العربي نتحدث عن طبقة عريضة من المسحوقين، تمثل غالبية المجتمع، وتعيد السياسات القائمة إنتاج انسحاقها وهامشيتها. وحتى أقصر حديثي على السياسي فقط، فقد عمدت النخب الحاكمة منذ الاستقلال إلى ضرب الأحزاب الجماهيرية، التي كان عليها أن تتحول إلى مدرسة سياسية حقيقية. لقد انصهرت تلك الأحزاب أكثر فأكثر بمنطق الدولة، وتحولت في دول شمال أفريقيا إلى مجرد ديكور سياسي لا يقدم ولا يؤخر، وفي أحسن الأحوال، لا يتجاوز دورها في الحكومة دور الحكومات التكنوقراطية، فهي تنفذ ولا تفكر، إدارة لا سياسة، وفي أغلب الأحيان إدارة للأزمة.

لم أراهن يوماً على تلك الأحزاب، بمختلف تياراتها، كحاملة للتغيير، وهي ربما لعبت دوراً مهماً في المعارضة، لكنها سرعان ما استسملت لمنطق “النخبة” وتخلت عن برامجها، حين دخلت الحكومة. بل قد نقول الأمر نفسه عن النخب الحاكمة نفسها، فهي لا تمارس السياسة، ولا يتعدى دورها الجانب الأمني والمقاولاتي. وبلغة أخرى، إنني أعتقد أن المنطقة برمتها لم تدخل عصر السياسة بالمفهوم الحديث للكلمة.

لكن رب قائل: إن الشك بالشعب وبمبدأ السيادة الشعبية لا ينفصل عن التجربة السياسية الغربية نفسها، والكل يعرف أن نخب أوروبا الغربية في الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، عملت وسعها لإبعاد الشعب عن السياسة، باعتبار أنه تورط في الوصول بالفاشيات إلى الحكم. لكن هل يمكننا اليوم أن نقارن بين النخب الأوروبية بالأمس والنخب السياسية العربية اليوم، التي تشكك بقدرة الشعب على اختيار الطريق الصحيح؟ نعم ولا. نعم، لأن كل الأسباب قد تدعونا اليوم للتخوف من خيار الشعب، والذي قد يعود بنا عقوداً إلى الوراء، ولكن في الآن نفسه، إذ ما يميز النخب الأوروبية عن العربية يكمن في أنها فتحت الباب أمام مرحلة تعلم كبيرة، قد نعتبرها تنويراً ثانياً بامتياز، تنويراً سياسياً، وهو ما لم يحدث في السياق العربي، لأن هدف النخب العربية الحاكمة تمثل في الحفاظ على النظام عبر استمرار وصايتها على المريض. لهذا، يمكننا أن نجزم بأن السياسة، والتي رأى مفكر مثل عبدالله العروي أنها متضخمة في السياق العربي وحاضرة في كل مكان، ليست بسياسة وإنما وصاية، وأننا لم ندخل زمننا السياسي بعد، والذي هو زمن صراع وليس زمن إجماع مفروض من فوق، يكتفي الشعب بمباركته، ولا تتوقف النخبة الحاكمة عن تخويف الشعب من الخروج عليه. أما في الدول الأوروبية مثلاً، فيمكن أن نقول بأنها تعيش اليوم زمناً لا يقل خطراً، وهو ما يصطلح عليه بما بعد السياسي، نتيجة للسيطرة الرأسمالية المالية على السياسة، وتحويلها إلى مؤسسة لشرعنة سيطرتها وحماية استثماراتها. ولربما فسر هذا ذلك الإنتشار الكبير للأحزاب الشعبوية، والتي تظل، في نهاية المطاف، دعوة للعودة إلى السياسة، ولكن من الباب الخلفي للهوية.

* كاتب مغربي

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى