ما لا تعرفه عن الحرب يا ولدي/ فاروق يوسف
لماذا تهزّ سريري؟، كنتَ قد سألتني يوم كنتَ في سنّ السابعة وعدتَ إلى النوم. هل اخترقت تي 52 وهي الطائرة الشبح فضاء حلمكَ حين كانت تمر من فوق بيتنا؟ لم أخبركَ يومذاك أن يد الحرب هي التي هزّت سريركَ المترف، وهي التي حفرت لي قبل أن تولد بسنتين قبراً لأتمدد فيه قريباً من عابدان. لم نكن يومذاك نعرف شيئاً عن العالم الافتراضي. كانت واقعيتنا فجة في رخصها، وقحة في عدوانيتها.
من هنا يمكنكَ أن ترى العدو، قال لي ضابط الرصد. لم أجرؤ على أن أسأله: “وهل هو عدوّي الشخصي لكي أراه؟ في الحروب لا يتخذ العدوّ هيئة شخص بعينه. لست في مبارزة، على غرار ما كان يجري في أوروبا القرون الغابرة. في شرق البصرة رأيتُ عام 1982 جيشاً مهزوماً، كنتُ واحداً من أفراده. في البلبلة رآني صديق لي وأنكرني. ربما كره أن أراه مهزوماً ولم تمر في باله فكرة هزيمتنا المشتركة. ولكن هل يُهزَم الجنود في الحروب؟ سيكون من الصعب عليكَ أن تجيب عن سؤال من هذا النوع وأنت ترى الحرب على شاشة التلفزيون، فالحرب لا تصلح موضوعاً للنظر. الحرب تُعاش ولا تُرى. الجزء الأهمّ منها يظلّ عصيّاً على الوصف: جوهرها، زمنها المبهم وعظتها. اما رثاثتها فهي التي تخضع لضراوة الحواس المباشرة. شيء منها يذكّر بالجمال المتشنج. لذة الألم التي لا مفرّ منها.
ألهذا لا تتقادم الحرب؟ أحياناً تتهرأ حين ينسى المقاتلون أسبابها فتصبح ملهاة، كما حدث في الحرب الأهلية اللبنانية، وفي الحرب العراقية – الإيرانية التي كان مخططاً لها أن تستغرق أسبوعين مزهرين بالوقائع المفاجئة والصدمات الحية فإذا بها تأكل ثماني سنوات ميتة من عمري الشخصي، لحمها لا يزال يرتجف. لقد حرصتُ على أن لا تخسرَ ثماني سنوات من عمرك حين سلّمتكَ للغربة. أن تكون في لا مكان خير من أن تستسلم لمكان يسلب من عمركَ سنوات، ستندم لأنكَ لم تعشها. فجأةً صار عليَّ أن أحصي خسائري، من غير أن أكون طرفاً في رهان مسبق. ثماني سنوات أخذتها الحرب من عمري. أين اختفت؟ لا يوميات في الدفاتر، لا نظرات إلى الأشجار، لا أقدام على الأرصفة، لا فاكهة متعفنة في الصحون. لقد مرّت كما لو أنها دقيقة واحدة متصلة من غير ثوان، من غير زفرة متهالكة يمكن أن تحلّق بعاشقين يجلسان على مصطبة تقع خارج الأمل.
تمرّ الحرب عليكَ مثل فكرة باردة. تعتذر المذيعة لأن ما تعرضه القناة التلفزيونية يمكن أن يخدش الحياء البصري. تنظر ببلاهة ولا تبحث عن أصدقاء لكَ بين القتلى. الجثث لا تُسمّى. ما لا تعرفه، أنه يمكنني من هذا المكان النائي أن أسمّيهم واحداً واحداً. أصدقائي الذين صُفّوا على الجدار ليتلقّوا رصاصات عدوّ لم يكونوا معنيين بهويته. كان النهار خريفياً أكثر مما يجب. ستقول لي إنكَ جمعتَ من النرجس البرّي ما لا يمكن إحصاء عدد زهوره، ولا أخبركَ أن يد الحرب قطفت من أصدقائي عدداً أكثر. كان هناك نهارٌ خريفي في شرق البصرة تمنيتُ أن لا يمرّ بسجلاّت الملائكة يوم تُطوى الصحف. لكن تلك الصحف لم تُطوَ بعد، ولن تُطوى. فالحرب لا تموت مثلما يموت ضحاياها. كان على أولئك الضحايا أن لا يستبشروا خيراً بموتهم. لن يكون أولادهم إلا صورة رمادية منهم. لقد ورثوا عبقرية أن يكونوا ضحايا لموت يجدد ملائكته. فالموت لن يكون قديماً. مثله مثل الحرب. كلاهما يصدر من جهة واحدة. ملائكة الموت هم خدم في حرب مستمرة لا تحتاج دائماً إلى سبب. يقال إن هناك يوماً واحداً عاش فيه العالم بسلام منذ أن انتهت الحرب العالمية الثانية. أين يقع ذلك اليوم لأذهب إليه وأعيش حياتي كاملةً فيه؟
كانت الكذبة قد انطلت علينا. هل تقصد الحياة نفسها باعتبارها كذبة؟، ستسألني. يهرب الناس من الحياة إلى الحرب، كما لو أن جنونهم الاستهلاكي لا يكفي سبباً لتهشيم معنى العيش. سيكون من الصعب عليَّ أن أجيب عن سؤال من نوع: لِمَ يقتل الناس بعضهم البعض؟ إنهم بطريقة أو بأخرى ينتحرون. يهربون من أشباحهم السعيدة. وعلى الرغم من أني أرى فيكَ اليوم صورة المنتصر على قَدَره، أكره المنتصرين في الحروب. ما الذي يعنيه أن ينتصر الحلفاء على هتلر وهم الذين لم يسعوا إلى منع وقوع حرب، راح عشرات الملايين ضحية لها؟
في الحرب يتاجر مَن يأمن على نفسه بمَن لا يملك أيّ ضمان من موت محقق. ستكون تجارة السلاح مجرد ذريعة لتجارة البشر. في سبعينات القرن الماضي ذهب الكثيرون إلى أفغانستان من أجل أن يموتوا. يتجدد المشهد في سوريا الآن. تضحك يا ولدي لأنك تسافر لأسباب سياحية. لكن الموت بالنسبة إلى آخرين صار سبباً سياحياً. ستكون الجنة المتخيلة في انتظارهم مثلما تعرفُ أنتَ، أن منتجعاً في جنوب تركيا سيكون في انتظارك لتمضي فيه أسبوعين مع زوجتك. ستكون فكرتكَ السياحية مضحكة بالنسبة إلى من سيجد النبي في انتظاره إلى مائدة الغداء. لقد سلبكَ السلم الشيء الكثير من شخصية المحارب المدافع عن عرضه وأرضه ودينه.
بالنسبة إليك، القداسة لله وحده. في الوقت الذي لا تتحقق فيه تلك القداسة إلا من خلال قدّاسات مختلف عليها ستكون سبباً مقنعاً لقيام حروب لا نهاية لها. ما بين عامي 2006 و2008 عاش أقرباؤك في العراق حرباً طائفية حصدت مناجلها مئات الألوف من الرؤوس بسبب تفجير ألحق الضرر بمقامين مقدسّين لدى شيعة العراق. ستكتشف أنكَ فجأة لم تعد شيعياً. لقد أكسبتكَ آدميتكَ هوية أخرى. هوية منصفة وليست محايدة. لن تقف بين اثنين كما لو كنتَ واحداً منهما. لقد عبرتَ إلى الضفة الأخرى. الضفة التي لن تكون فيها الحرب ممكنة. أنتَ مواطن كونيّ، في الوقت الذي يفتقر فيه كل المتحاربين إلى تلك الصفة. لو كانوا مواطنين حقاً، لما تمكنت منهم لغة الحرب. أنتَ مواطن، ولديكَ لغة مختلفة. وهي نعمة أتمنى أن لا تحتاج إلى البحث عن ضرورتها. لقد التقيتُ في الحروب التي عشتها بشراً، كانت اللغة قد فقدت بين شفاههم قدرتها على أن تكون سلاحاً للإقناع. كان السلاح بالنسبة إليهم هو الجهة الوحيدة التي تصنع اللغة. كانوا قتلة وإن ظهروا في صور المناضلين، المجاهدين، المدافعين عن الأمة (أية أمة؟)، المنذورين للشهادة من أجل القيم العليا (أية قيم؟). أنتَ حرّ، بلسانكَ وأفعالكَ. تلتفت لترى، وتنصت لكي تفهم. أنتَ حرّ، وتحلم أن يكون الآخرون أحراراً مثلكَ. وهو ما يعني أنك تخوض حرباً، ستكون حربك الخاسرة الوحيدة. ذلك لأنك تخوضها ضدّ بشر استعبدتهم الحرب، فصاروا مادتها لا موقع تفكيرها. فالحرب مثل الحبّ، بلا رأس. وهي تولد مرة واحدة ولا تتكرر. ما من حرب تشبه أخرى. البشر هم الذين يتكررون. البلاهة البشرية تصنع أيقونتها داخل الحرب. أجمل ما في الحرب أن نقع في التكرار. عادات تسمح لنا بأن نكون ورثة لما لم نكن نتوقع أن نرثه.
الحرب يا ولدي خدعة. لكنها خدعة مَن يصل أولاً إلى معناها القذر. معنى أن تكون منتصراً لكي تخفي جريمتكَ. معنى أن تدفن ضحاياكَ لكي تقيم لهم نصباً تذكارياً. وهذا ما يمكن أن تنساه الشعوب في خضمّ انتظارها لما يمكن أن تسفر عنه حرب هي في حقيقتها حاضنة لحروب لم تولد بعد. فما لم تفهمه البشرية يا ولدي، أن الحرب لا يمكنها أن تمهد إلا إلى سلام موقت. وهو سلام لا يقبل الوصف، ذلك لأنه لن يكون متاحاً إلا لأقلية تفكر في شنّ حروب جديدة.
النهار