ما نوع علاقة القبلية بالديموقراطية؟
د. علي محمد فخرو
منذ بدئ ثورات وحراكات الربيع العربي وموضوع الإنتقال إلى الديموقراطية من قبل مجتمعات دول مجلس التعاون يطرح باستمرارية أكثر وبأمل أكبر. وسيظل هذا الموضوع الشاغل الأهم لكثير من الكتاب والإعلاميٍّين والمشتغلين في السياسة عبر المستقبل المنظور حتى حين إنتقال هذه المجتمعات إلى أنظمة ديموقراطية معقولة.
لكن، في اعتقادي، أن هناك جانبين من جوانب هذا الموضوع الكثيرة المعقدة والمختلف من حولها يستحقان إعطاءهما اهتماماً أشدًّ بكثير مما أعطي لهما حتى الآن أثناء التعامل مع موضوع الديموقراطية.
الجانب الأول يتعلق بعلاقة الديموقراطية والقبلية سواء أكان، إبرازاً للتماثل إن وجد، أو للتناقضات وهي عديدة، أو لمدى صلاحية تركيبة وقيم القبلية لتكون أحد جسور الانتقال السٍّلمي من الأنظمة القبلية المتجذرة في مجتمعات دول الخليج العربية إلى نظام ديموقراطي حديث في مبادئه وقيمه وتنظيمه.
هنا يجب تذكير أنفسنا بأن التركيبة القبلية، كعلاقات اجتماعية وسياسية بين مجموعات من الناس يعتقدون بوجود مشترك عائلي ومصلحي يجمعهم، هذه التركيبة موغلة في القدم. لقد وجدت قبل الإسلام وقبل المسيحية، وبالطبع قبل الدولة الحديثة، وهي بالتالي متجذرة في الثقافة الجمعية. ومع أنها موجودة في كل الأرض العربية إلاً أنها على أشدًّها في منطقة شبه الجزيرة والخليج العربيًّين.
من هنا الأهمية القصوى لوجود دراسات وبحوث تسلًّط الضوء، بموضوعية وتحليل تاريخي عميق، على ما ذكرنا من جوانب التماثل والتضادد والإلتقاء والإستفادة بالنسبة للعلاقة بين القبلية الموجودة والديموقراطية المؤمَّلة.
لقد درس البعض هذا الموضوع من قبل وخرجوا بنتائج متباينة. البعض اعتبر أن التعايش بين القبلية والديموقراطية ممكن، والبعض اعتبر أن وجود أيًّ علاقات وقيم قبلية في المجتمع يشكٍّل عائقاً أمام الإنتقال إلى ديموقراطية حديثة قريبة من ديموقراطية مجتمعات الغرب الأوروبي والأمريكي.
لكن ذلك قد تمً قبل ثورات وحراكات الربيع العربي التي غيرت نوع ومدى وعمق الوعي الشعبي بمبادئ الديموقراطية، ورفعت سقف المطالب والآمال وما يجب أن يأتي به المستقبل القريب.
كذلك من الملاحظ أن الكتابات والمناقشات حول مستقبل الديموقراطية في أرض العرب تكاد تقتصر على البحث في مدى صحًّة الإدٍّعاء بأن قيم الدين الإسلامي تتعارض مع قيام نظام ديموقراطي. إن ذلك لن يكفي. فكما أن الإسلام متجذًّر كدين وثقافة وعلاقات في المجتمعات العربية، كذلك الحال مع تجذُّر القبلية التي كما ذكرنا وجدت قبل ظهور الإسلام.
وإذ نطرح أهمية حسم هذه الموضوعات، خصوصاً نوع علاقة الدين الإسلامي والقبلية العربية بالديموقراطية، وذلك تمهيداً لتجاوز الجدل الدائم حولهما، فلأننا نتذكًّر جيداً ما قاله منذ سنين لي كوان يو، الكوري الجنوبي، من أن قيم مجتمعات آسيا تتعارض مع الديموقراطية، إذ أنها مبنيًة على الولاء الأعمى للسلطة. لكن، مع ذلك، نجحت العديد من مجتمعات آسيا في الشرق البعيد والقريب، كاليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وأندونيسيا على سبيل المثال، نجحت في الإنتقال السلمي الى أنواع من الديموقراطية المعقولة والقابلة للتطور وتجاوزت الجدل حول هذا الموضوع.
الجانب الثاني الذي يجب أن يناقش بشجاعة وبدون غمغمة يتعلق بظاهرة خليجية جديدة مقلقة . إذ لم يكفنا ألماً وحسرة وجود الكثير من العقبات لإنتقال مجتمعات دول مجلس التعاون إلى نظام ديموقراطي حديث معقول ومقبول من الشعوب، حتى فاجأتنا الوقائع، بعد قيام ثورات وحراكات الربيع العربي، باستعمال البعض للثروات البترولية الهائلة لتشويه أو تعقيد أو حرف أو منع مسيرة انتقال بقية المجتمعات العربية، في شرق الوطن العربي وغربه، من الأنظمة الإستبدادية السابقة إلى نظام ديموقراطي عادل مقبول . إن ذلك يتم عبر دعم علني وخفي لقوى لا تؤمن، فكراً وممارسة، بأهم الأسس التي تقوم عليها الديموقراطية.
إنها قوى لديها تردٌّد كبير بشأن حريات العقيدة والتعبير والنقاش والتجمع، بشأن حقوق الأقليات، بشأن مساواة ومشاركة المرأة، بشأن مدى مدنيًة المجتمعات، بشأن نوع العلاقة مع العصر الذي نعيش، إلخ..
إن دعم مثل تلك القوى التي تربك يومياً المشهد العربي الإنتقالي الحالي، وتبعده عن المهم إلى الهوامش، هو كما يظهر، محاولة لإيقاف المدً الربيعي العربي عند حدوده القطرية، وتفصيله خارج المشاعر العروبية الواحدة والمصير العربي المشترك. وهكذا يريد البعض أن تصبح ثروة البترول الهائلة عقبة في طريق النهوض العربي بدلاً من تكون قاطرة تقود النهوض العربي في كل أصقاع الوطن.
هذا الدور الذي يراد لثروتنا أن تلعبه سيصبح شيئاً فشيئاً عقبة جديدة تضاف إلى العقبات الأخرى التي تقف أمام إنتقال مجتمعات مجلس التعاون إلى الديموقراطية . إنه دور يحمل الكثير من المخاطر وقلة المروءة.
القدس العربي