ما هو سرّ اختفاء عناصر “داعش” في سورية؟/ عبسي سميسم
مع إعلان انتهاء المعارك ضد تنظيم “داعش” في سورية، والسيطرة على كل المناطق التي كانت بيده، وآخرها مدينة البوكمال التي كان من المفترض أنها تحوي آلاف المقاتلين الذين هربوا من حصار المناطق الأخرى، كانت المفاجأة أن النظام أعلن الاستيلاء عليها من دون الإعلان عن مصير عناصر التنظيم الذين اختفوا مع اختفاء دولتهم، ومن دون أن تعطي أية جهة تبريراً منطقياً لهذا الاختفاء. وكانت كل المعارك التي خاضها “النظام” ومليشيا قوات سورية الديمقراطية ضد “داعش” تقوم على حصار التنظيم ضمن قطاع جغرافي محدد من كل الجهات، ومن ثمّ الإجهاز عليه بهجوم بري بعد قصف المنطقة بالطيران الحربي تمهيداً للاقتحام. ولكن ما أن كانت تتم السيطرة على منطقة محددة حتى يتبادر فوراً إلى الذهن السؤال البديهي: “أين اختفى عناصر داعش؟”. وكانت التبريرات تأتي حسب كل معركة، ولكنها كلها كانت تشير إلى نتيجة واحدة هي انسحاب عناصر التنظيم إلى مناطق لا يزالون يسيطرون عليها، إما من خلال ثغرة تُفتح لهم بدعوى الحفاظ على حياة المدنيين، أو من خلال اتفاق بوساطة وجهاء عشائر المنطقة من دون الحديث عن تفاصيل تلك الاتفاقات.
قبل معركة الرقة، وتحديداً في معارك مليشيا “قسد” في ريف حلب الشمالي، والتي كانت أكبرها معركة السيطرة على مدينة الباب، كانت القوات المهاجمة تحاصر التنظيم من ثلاثة اتجاهات، وتترك له ثغرة كي يهرب منها باتجاه مدينة الرقة، حيث كان يجري الحديثُ على أنّ التنظيم يجمع قواه في المدينة، قبل أن تصلها مليشيا “قسد” وتحاصرها من الاتجاهات كافة، ليعود الحديث مجدداً عن مصير عناصر “داعش” في الرقة، إلى أن كشف تحقيقٌ أعدّته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” عن وجود صفقة سرّية، أدّت لإجلاء أعداد كبيرة من مقاتلي التنظيم من داخل مدينة الرقّة برفقة عائلاتهم وأسلحتهم.
التحقيق الذي عنونته “بي بي سي” بـ”سرّ الرقة القذر”، أوضح أن الصفقة تمّت بين “قوات سورية الديمقراطية” و”التحالف الدولي” من جهة، وتنظيم “داعش” من جهةٍ أخرى، موضحةً أن “قسد” والتحالف لا يريدون الاعتراف بها”.
وبحسب أحد السائقين الذين ساهموا في نقل عناصر التنظيم، فإن الرحلة بدأت في 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، واستمرت ثلاثة أيام، ونقلت كذلك أطناناً من أسلحة وذخائر التنظيم. وقال السائق إنه قام مع عشرات السائقين الآخرين “بنقل عناصر داعش مع أسلحتهم وعائلاتهم مقابل وعود بآلاف الدولارات بشرط أن تبقى العملية سرية”، موضحاً أن “السائقين لم يتلقّوا أي أتعابٍ مقابل هذا العمل”. وأضاف “نقلنا حوالى 4 آلاف شخص، بما في ذلك النساء والأطفال، على متن مركباتنا ومركباتهم معاً. وعندما دخلنا الرقة، كنا نظنّ أنّ هناك 200 شخص لنقلهم، ولكن في حافلتي وحدها نقلت 112 شخصاً”.
وفي معارك القلمون التي خاضها كل من “حزب الله” اللبناني وقوات النظام ضد “داعش”، جرت صفقة مشابهة لنقل عناصر التنظيم إلى مناطق سيطرته في ريف دير الزور الغربي، تخلّلها خلاف بين قوات التحالف وقوات النظام على إتمام هذه الصفقة التي أدّت بالنتيجة إلى وصول عناصر التنظيم الى محافظة دير الزور.
ومع التراجع المستمر لـ”داعش” في كل معاركه، أصبح التصوّر لدى المتابع لسير تلك المعارك، أنّ آلافاً من عناصر التنظيم يجب أن يكونوا قد تجمعوا في مدينة البوكمال، إلاّ أنّ هذا التصوّر سرعان ما تبيّن أنه خاطئ، مع انتهاء السيطرة على آخر معاقل التنظيم في سورية. وبدأت تظهر تصوّرات معظمها يقوم على الاستنتاج، بما يخصّ مصير عناصر التنظيم الذين يقسمون بين عناصر أجنبية “مهاجرين”، وهم يشكّلون معظم قادة التنظيم، وعناصر محلية من السوريين “أنصار”، ومعظمهم من العناصر العاديين ومن الشباب ذوي الأعمار الصغيرة.
فهناك من فسّر اختفاء عناصر “داعش” رغم السيطرة على كل المناطق التي كان يحكمها، بأنّ من تبقّى موالياً للتنظيم من قيادات وعناصر لا تزال ملتزمة بفكره، قد لجأ إلى بعض الجبال المنتشرة في صحراء تدمر بريف حمص الشرقي وبعض المناطق الصحراوية الوعرة في ريف دير الزور الشمالي، وذلك بهدف استجماع قواهم تمهيداً لتحويل شكل المواجهة مع القوى التي يحاربونها، بحيث يعتمدون أسلوب العمليات الانتحارية والهجمات المباغتة من دون أن يكون لهم مكانٌ ثابت يسهل الهجوم عليه من قوى تمتلك سلاحاً جوياً. فيما رأى محللون عسكريون أن هناك عدداً من قادة “داعش” هم بالأساس عملاء لأجهزة استخباراتية تابعة لدول، وكانوا يقومون بأدوار استخباراتية لصالحها، وهؤلاء تمّ سحبهم من قبل الدول التي أرسلتهم. كما يرجّح البعض أن يكون قسمٌ كبيرٌ من العناصر المحلية التي انتسبت للتنظيم لأسباب غير إيديولوجية، قد عادوا إلى عائلاتهم وتخلّوا عن التنظيم، فيما قسمٌ منهم أجروا مصالحات مع القوى التي دخلت مناطقهم، سواء مع النظام أو مع مليشيا “قسد”. وهناك من يبالغ لأسباب سياسية، ويتهم جهة ما بأنها هي من احتوت عناصر التنظيم أو سهّلت عمليات خروجهم، إلاّ أنّ المرجح أن تكون كل العوامل السابقة هي السبب وراء اختفائهم.
في هذا السياق، قال المحلّل العسكري العقيد حاتم الراوي لـ “العربي الجديد” إن “جميع الأطراف متورّطون بسحب عناصر “داعش” وإخفائهم بعد أن أتمّوا مهامّهم الاستخباراتية”، مضيفاً أن “عمليات نقل عناصر التنظيم إلى ملاذات آمنة، بدأت مع حزب الله اللبناني عندما أخرج تنظيم داعش في القلمون إلى دير الزور، وتلتها بعدها عمليات إجلاء واسعة لعناصر التنظيم في الرقّة”.
وعن تفسير الاختفاء المُفاجئ لعناصر “داعش”، يقول الراوي إن “القياديين في الصفوف الثلاثة الأولى، سحبتهم عناصر الاستخبارات التي جنّدتهم، واستعادتهم بعد أن انتهت مهامهم”، لافتاً إلى أن “أجهزة الاستخبارات هي من صنعت داعش وجنّدت أهم الخبراء العسكريين المدرّبين لديها ليكونوا قياديين فيه”. وأشار الراوي إلى أن من بقي من عناصر التنظيم اليوم، هم الأنصار، أي أبناءُ المناطق الأساسيون الذين انضموا إلى “داعش” في مناطقهم، إضافةً إلى عددٍ قليل من المهاجرين الذين جاؤوا اعتقاداً منهم بوجود دولة خلافة.
وبيّن الراوي، أنّ داعش “غيّر سياسته في الفترة الأخيرة وانتقل من أسلوب التمركز إلى أسلوب الهجمات المُنفردة”، موضحاً أن “نقطة المقتلة للتنظيم هي أنّه قام بتأسيس دولة وإنشاء مؤسّسات على مساحة جغرافية محدّدة ما جعل القضاء عليه هدفاً سهلاً”.
وعاد “داعش” عندما تقلّص نفوذه إلى سياسة “الذئاب المنفردة”، وفقاً لوصف الراوي، الذي أشار إلى أنه “على الرغم من خسارة التنظيم لمناطقه، إلّا أن وجوده لم ينته حتّى الآن، كونه سيبدأ بعمليات الاختباء والافتراس، وهو ما سيجعل مهمّة القضاء عليه أمراً غاية في الصعوبة”.
واستبعد الراوي أن تنتهي العمليات العسكرية ضد التنظيم قريباً بسبب دخول المعارك معه مرحلة جديدة، تتجلّى في التخلّي عن التمسّك بالمساحات الجغرافية، والتخلّي عن الأسلحة الثقيلة وخوض المعارك بمرونة عبر الهجمات المنفردة.
العربي الجديد