ما هو مُتّفق عليه سورياً/ عمر قدور
فجأة بدا أن العديد من الجبهات ينهار أمام قوات الأسد المدعومة بالميليشيات الشيعية والطيران الروسي؛ تفوقُ الأخير وقدراته التدميرية لا يفسر وحده سرعة الانهيارات، ولا يفسر السرعة التي تنتقل بها الحملة من غوطة دمشق الشرقية إلى أحيائها الجنوبية، وأخيراً إلى ريف حمص الشمالي. بلا تقليل من أرجحية حلفاء الأسد العسكرية، وحده وجود اتفاق دولي وإقليمي يفسّر هذه السرعة على الأقل، وهو أيضاً ما يفسر انسحاب الميليشيات الكردية من معقلها في عفرين، عندما أيقنت من عدم وجود دعم يغطي مواجهتها الجيش التركي.
لنا أن نخمن فحوى الاتفاق الدولي والإقليمي بوصفه دخولاً في مرحلة جديدة، أبرز ملامحها التخلص مما يُرى أنه فوضى سلاح وفوضى مرجعيات خارجية مترابطتين. الصيغة التي ستنتهي إليها هذه المرحلة مضبوطة جيداً من قبل الرباعي الدولي والإقليمي، روسيا وأمريكا وإيران وتركيا، بمعنى الإشراف المباشر على حملة السلاح جميعاً. عودة مناطق سيطرة حساسة، مثل تلك المحيطة بالعاصمة إلى قوات الأسد لا يعني الكثير لهذه القوى في ميزان التخلص مما تراه فوضى سلاح غير معروفة النتائج، ولا تعني الكثير عطفاً على اتفاقها القديم على أن الحل في سوريا سياسي وليس عسكرياً.
إذاً لا مكان لما بات يُسمى “النموذج الليبي” في سوريا، والمقصود به حالة الفوضى التي أعقبت إسقاط القذافي، ذلك بعد اتفاق صريح بعدم السماح بتكرار النموذج العراقي أيضاً. جدير بالذكر أن الخشية من تكرار النموذج العراقي هي ما كان يدفع إلى السؤال المرفوض في أوساط الثورة عن البديل، فمن وجهة نظر دولية كانت المعضلة دائماً في أن هذا النوع من التركيبة الاستبدادية يفتقر إلى مقومات ومرونة النظام الحقيقية، بمعنى أنه بقدر صلابته ووحشيته “وبسببهما تحديداً” معرض للانهيار دفعة واحدة، وهي المغامرة التي لا يريد الغرب الخوض فيها أو تحمل مسؤوليتها.
يمكن فهم الرضا الغربي عن التدخل العسكري الروسي على هذه الأرضية، أرضية ضبط فوضى السلاح، ومن ثم تأهيل تنظيم الأسد ليصبح نظاماً، وهذه عملية تسير بنشاط في شقها الأول، دون أن يوازيها نشاط مماثل في الشق الثاني. مسؤولية عدم تأهيل تنظيم الأسد تُلقى غالباً على طهران التي تعتمد أسلوب دعم الميليشيات، وتطمح إلى تكريس دولتها في سوريا على غرار النموذج اللبناني، بعد أن فقدت فرصتها في تكريسها على غرار النموذج العراقي بسبب المشاركة مع موسكو.
استبعاد النموذجين الليبي والعراقي ليسا وحدهما هاجس القوى الدولية، أمريكا وروسيا على نحو خاص، أيضاً هناك النموذج الأفغاني الذي يؤرق الطرفين. واشنطن حرصت منذ التدخل الروسي على إرسال تطمينات بأنها لن تتصدى له كما حدث في أفغانستان أيام رونالد ريغان، وفي الوقت ذاته حرصت على تكرار إعلانها عدم نيتها التورط وتحمل المسؤولية كما حدث في أفغانستان وما يزال يحدث. المواجهة التي لا يريدها الروس في سوريا لا تريدها الإدارة الأمريكية أيضاً، وفي حربهما المشتركة على التنظيمات الجهادية تجنّبٌ للدرس الأفغاني الذي دفع كل منهما ثمنه بطريقة مختلفة عن الآخر.
ضمن حساسية النموذج الأفغاني يأتي تطلّع واشنطن إلى توريط الحلفاء الدوليين والإقليميين في تسلم مسؤولية المناطق التي حررتها بمساعدة الميليشيات الكردية من داعش؛ قد يكون إخراج هذه السياسة مناسباً لأسلوب المقاولات الفظ الذي يتفاخر به ترامب، إلا أنه يستثمر جيداً في الخوف من الانكفاء الأمريكي عن المنطقة، وهو الأسلوب الذي اعتمده أوباما. سياسة ترامب بخلاف سلفه تلعب على استبعاد نموذج آخر أيضاً هو النموذج اليمني، أي النموذج الحوثي في اليمن، ولهذا التوجه أنصار إقليميون كثر، إلا أنه أيضاً نقطة خلاف مركزية بين واشنطن وموسكو. فالأخيرة لديها مخاوف حقيقية من فك الارتباط مع طهران، وإيران التي لاعبت الأمريكيين في العراق لن تعجز عن إزعاج حليفها عندما يقرر التخلي عنها.
بقاء بشار الأسد أو عدمه غير موجود ضمن هواجس القوى الدولية أو الإقليمية، على الأقل في هذه اللحظة، بل يُرجح أن يكون بقاؤه مطلوباً حتى يتم ضبط الساحة السورية والإمساك بها جيداً. تقرير بقائه أو تنحيه أمر يرتبط بمرحلة لاحقة، وربما يتوقف على قدرة موسكو على الإمساك بمفاصل القوة في تنظيم الأسد، ولا تُستبعد تنحيته في وقت ما لكونه عقبة أمام تأهيل زمرته العسكرية والأمنية لتصبح نظاماً.
هذا مطابق أيضاً لما بات يُعرف في المفاوضات بتأجيل عقدة الأسد، والبدء بالاتفاق على قضايا أخرى مستقبلية، إذا تجاوزنا ما في قصة التأجيل من مآرب مختلفة لمجموع الفرقاء الدوليين والإقليميين. الفكرة الأساسية المشتركة هنا هي استبعاد عوامل القلق من المستقبل، ولا وجود لما يقلق السوريين ضمنها بل هي عوامل القلق الخارجية أولاً. إن شرط الانتقال من وجهة نظر أمريكية وغربية ضمان مستقبل تنتفي فيه هواجس النموذج العراقي والليبي واليمني والأفغاني، بينما شرط الاستقرار الذي يطالب به الغرب بحسب طهران هو بقاء تنظيم الأسد، وبقاء سيطرتها عليه مباشرة أو من خلال ميليشياتها. موسكو التي تلعب بين شَرْطي الانتقال والاستقرار معنية أولاً بما يضمن نفوذها في سوريا والمنطقة، ومعنية بعدم المقامرة بالنفوذ الذي حصّلته حتى الآن إدراكاً منها لهشاشته.
ما يجمع الفرقاء كلهم عدم وجود سياسة بالمعنى الإيجابي، باستثناء الطموح الإيراني الذي لم يعد في أحسن حالاته اليوم. تركيا مثلاً هاجسها الموضوع الكردي قبل أي اعتبار آخر يخص سياستها السورية عموماً، ودول الخليج المنشغلة بخلافها لم تعد المسألة السورية في جدول اهتماماتها. أما الغرب فاهتمامه منصب على تلافي النماذج السيئة السابقة التي يرى أنه دفع ثمناً باهظاً بسببها أكثر من تركيزه على بناء استراتيجية مشتركة للتعامل مع القضية السورية. الحل السوري بهذا المعنى ما يزال يُعرّف سلباً، هو فقط حل يستبعد حلولاً أخرى سبق تجريبها، بينما لا أفق واضحاً أمام جميع الأطراف لاجتراح نموذج سوري خالٍ من مخاوف سابقيه. السير خطوة خطوة لتجنب المخاوف لا يعني ضمان النجاح، لأنه لا يأتي ضمن تصور مشترك لسلة متكاملة. أهم من ذلك، إن نقلة تتجاوز أخطاء السياسات الدولية السابقة تتطلب وجود قيادات تملك رؤى استراتيجية حقيقية، وإلا كانت الخطوات الصغيرة لا تعدو كونها سياسات الممكن قصيرة النظر التي يجترحها سياسيون صغار؛ في اختيار واحد من هذين الاحتمالين لا نحتاج وقتاً طويلاً للتفكير.
المدن