صفحات العالم

ما يصح على حلب لا يصح على دمشق


ماجد كيالي

طرح جهاد الزين في مادته: “تدمير دمشق وحلب: مسؤولية المعارضة ودولها” سؤالاً غاية في الأهمية يتعلّق بطريقة عمل الثورة السورية في مكوّنها العسكري، المتمثل في “الجيش الحرّ”، وضمن ذلك غلبة الطابع العسكري على الفعاليات الشعبية للثورة، ومخاطر دخول “الجيش الحر” إلى أحياء المدن للاحتماء فيها، ما يعرّضها للتدمير الوحشي، والبُعد الدولي الذي يفترضه أو يتطلّبه وجود هكذا مكوّن.

لا تكمن المشكلة في هكذا سؤال، ولا في غيره، لأن فتح الأسئلة، وإعمال النقد، هو من صلب العملية الثورية ذاتها، ولأن الثورات تنطوي أساساً على مخاطرات وأخطاء ومشكلات، وقد ينجم عنها هزائم أو تراجعات، خصوصاً أن التاريخ لم يعرف ثورة نظيفة أو كاملة أو ناجزة. ولا شكّ أن ذلك ينطبق تحديداً على الثورة السورية، التي انطلقت من المستحيل، كثورة شعبية وعفوية، خرجت من خارج عباءة الأحزاب السائدة والنظريات الجاهزة، والتي استمرت على الرغم من كل الصعوبات والتعقيدات والتحديات.

لذا مع تأكيد مشروعية السؤال المطروح إلا أنني أعتقد بأنه جانب الصواب في الإجابة عليه، التي جاءت بطريقة إطلاقية وعامة، فربما أن ثمة أكثر من جواب على السؤال المطروح، بل إنني اعتقد بأن هكذا إجابة قاطعة طمست أهمية السؤال ذاته.

عموماً ليس ثمة متّسع هنا لمناقشة مشروعية الثورة المسلّحة، فهي ربما تستوجب ذلك وربما لا، مع أن الثورات الشعبية والسلمية هي الأفضل والأكثر يقينية للمستقبل، ليس لأنها أقل كلفة، وهذا بحد ذاته أمراً مهماً، وإنما لأن الثورات المسلحة تفضي، في الأغلب، إلى إشاعة ثقافة العنف، وقد ينجم عنها ارتدادات على المجتمع ذاته، كما أنها ترسّخ ذكريات قد تهدّد أو تعكّر سلامة العيش المشترك، فضلاً عن أن الثورات المسلحة تعتمد في مواردها (السلاح والمال) على الخارج ما يجعلها، في الغالب، مرتهنة له.

إذن، السؤال لا يتعلق بالمشروعية وإنما بإدارة العمل المسلح، بالطريق الأسلم والأقوم والأجدى، وفي هذه الحال فإن السؤال المطروح لم يميّز بين حالتي حلب ودمشق. ذلك أن تطور الفعالية العسكرية للثورة السورية في دمشق نجم عن تطور هذه الحالة في ريفها، من الضمير ودوما والتل إلى الزبداني ورنكوس مروراً بالغوطتين الشرقية والغربية. وبديهي أن تجد هذه الفعالية مجالها الحيوي في مدينة دمشق ذاتها، التي لم تكن في عداد المدن الهادئة، على ما توحي المادة، ذلك أن أحياء دمشق كانت دخلت، منذ الأشهر الأولى، على خط الثورة السورية، وكان هذا الدخول يتوسّع كمياً وجغرافياً طوال الأشهر الماضية. هكذا فإن أحياء مثل برزة والقابون والميدان والمزة والحجر الأسود والتضامن وحرستا وجديدة عرطوز والمعضمية وداريا وجوبر، ثم ركن الدين والمهاجرين وشيخ محي الدين (بدرجة اقل)، كلها كانت من النقاط الساخنة في مسيرة الثورة السورية. أما عدم تمكن هذه الأحياء من التجمع في ساحة (أو ميدان) في  دمشق، لإظهار القوة المدنية والسلمية للثورة، فيعود إلى أن النظام كان يتعامل بقسوة بالغة مع المتظاهرين، منذ الأسابيع الأولى للثورة، أي قبل نشوء “المجلس الوطني” وغيره بستة اشهر، وقبل بروز ظاهرة العسكرة والانشقاقات في الجيش.

ومعلوم أن مواجهة المتظاهرين السلميين كانت منذ البداية تتضمن استخدام أقصى قدر من العنف، مع وجود عدة طبقات، يتمثل أولها بعصابات الشبيحة، وثانيها بأجهزة الأمن، وثالثها برصاص القناصة، ورابعها بالوحدات الخاصة، وخامسها، بالجيش الذي يستخدم الهاون والراجمات والدبابات والحوامات. هذا كله يفسّر كل هذا القتل والمعتقلين والمصابين والمشردين في سوريا، وكل هذا الدمار الذي لا يمكن تخيله، أو حتى تصديقه.

اقصد من كل ذلك التنويه إلى أن بروز الظاهرة المسلحة في دمشق جاء في سياق طبيعي يختلف عنه في حلب، التي يمكن إحالة ما يجري فيها إلى خطّة، أو طموح ما عند المعارضة، في سياق محاولتها خلق واقع جديد، يمكن أن يؤسس لمعادلة سياسية جديدة في الصراع مع النظام، لاسيما مع أفول المراهنات على أي نوع من التدخل الدولي، بما في ذلك فرض مناطق آمنة وحظر جوي، وذلك بعد 16 شهراً على اندلاع الثورة.

الى ذلك فإن السؤال المطروح يصحّ على حلب التي تأخّرت عن مواكبة مسارات الثورة، ليس لأنها موالية للنظام، وإنما بسبب تجمّع عوامل عديدة فيها قيّدت حركتها، أو أعاقت وصول مستوى الحراكات فيها إلى ذات مستواه في المدن الأخرى.

المعنى أن هذا الأمر يتعلّق تحديداً بصوابية، أو عدم صوابية، مبادرة قيادة “الجيش الحر”، إلى تجميع قواها في حلب، وفتح معركة السيطرة عليها، وما إذا كان هذا الخيار أكثر جدوى من الخيار المتمثّل بسياسة “اضرب واهرب”، أو المتمثّل بالسيطرة على مراكز قوة النظام في محيط حلب ذاتها، تمهيدا للسيطرة اللاحقة عليها، وهما خياران كان يمكن لهما أن يجنّبا المدينة الهجمة التدميرية التي باتت تتعرّض لها.

والحال فمع إقرارنا بأن أي حرب، أو أية ثورة، لابد سينجم عنها أثماناً باهظة، فإن إدارة الحرب، أو الثورة، تتطلّب إدارة أفضل للموارد البشرية ولأرصدة القوة المتاحة، والكامنة، مثلما تفترض، أيضاً، تحقيق اكبر قدر من الانجازات بأقل قدر من الأكلاف. لذا فإن سؤال الجدوى في معركة حلب محقّ، لكنه يتطلّب بحث صوابية المبادرة بأكملها، وما إذا كانت منبثقة من خطة محكمة ومعدّ لها أم أن القصة مجرّد مخاطرة وتجربة أخرى.

وفي الواقع فإن تساؤلات وهواجس مماثلة تستمد مشروعيتها من معرفة ضعف إمكانيات “الجيش الحر” التسليحية، مقارنة بالجيش النظامي، لاسيما مع واقع عدم وجود مضادات للطائرات لديه، وانكشافه في الأحياء التي يحتمي فيها لهجمات الحوامات والطائرات الحربية. ومعلوم أن قيادة هذا “الجيش” لطالما شكت من افتقادها لمضادات الطائرات وضعف التسلّح، ومن وجود قرار دولي بعدم تسليمها أسلحة معينة (رغم كل التهويل الذي يحكى عن دعم الجيش الحر). ومن تتبع كل العمليات التي قام بها هذا “الجيش” يمكننا ببساطة معرفة الأسلحة التي يحوز عليها، والتي هي مجرد أسلحة فردية، مع قواذف مضادة للدروع، بينما لم تسجل أية عملية قصف صاروخي، أو إسقاط طائرة بمضادات الطيران المناسبة، وذلك حتى هذا التاريخ، ما يفسّر انسحاباته من المناطق التي تصبح عرضة للهجمات الصاروخية من الجو أو من البر.

فهل خيار “حلب” يقف وراءه قرار دولي بتسليح “الجيش الحر” بعد مرور 16 شهرا على الثورة؟ وهل بات هذا الجيش يمتلك مضادات للطيران مثلا؟ وهل ثمة جديد، على الصعيدين الدولي والإقليمي، يتطلب توليد أفق سياسي جديد، ومنطقة محررة؟ أم انه مجرد قرار آخر، ينطوي على مخاطرة، أو مغامرة، غير محسوبة، أو غير مدروسة؟

هكذا، ومهما كانت إجاباتنا على التساؤلات السابقة ينبغي التمييز بين الأحوال في دمشق والأحوال في حلب، لاسيما من ناحية القرار السياسي والإدارة والقدرات العسكرية (بغض النظر عن تقويمنا لما يجري). وتالياً لذلك ينبغي الحكم على “خيار حلب” ليس بناء على صوابية أو عدم صوابية هذا الخيار، فقط، وإنما على المعطيات المحيطة به، والإمكانيات التي تم اتخاذ هذا الخيار بناء عليها.

تلك هي إجاباتي على الفكرة المهمة التي طرحها جهاد الزين، أما ملاحظاتي عليها فتتمثل في تحميله “المعارضة المسلحة” المسؤولية عن تدمير حلب ودمشق، وبشكل إطلاقي، رغم إقراره بأن “وحشية النظام وعنفه وإجراميته، كنظامٍ استبدادي، تدفع سوريا بكاملها أساساً ثمن عدم وجود طريقة سلمية لتغييره، مثل ليبيا والعراق”. وبرأيي فإن هذه العبارة التأسيسية تفسّر أشياء كثيرة مما يحصل في سوريا، وتحدّد على من تقع المسؤولية الأخلاقية والسياسية والقانونية حقاً، بما في ذلك تعيين من المتسبّب الحقيقي في كل مايجري على كل الأصعدة.

نعم قد تكون المعارضة السورية المسلحة خاطرت، وتسرّعت، في فتحها معركة حلب، مع وجود خيارات أخرى بديلة، لكن مسؤولية أعمال القتل والتدمير تقع على عاتق الذي يملك القدرة على فعل كل ذلك، والذي يقف وراء كل أسباب اندلاع الثورة السورية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى