مبادرتين سياسيتين لحل الأزمة في سوريا –مقالات مختارة لكتاب سوريين-
تجميد سوريا بحسب دي ميستورا/ عمر قدور
بينما يسعى المبعوث الدولي إلى سوريا “ستفان دي ميستورا” للحصول على موافقة محلية ودولية على خطته القاضية بتجميد الوضع في حلب أولاً، يركز النظام عملياته العسكرية لمحاصرة المدينة، ويهمل نقاطاً كانت تُعدّ إستراتيجية إلى وقت قريب، مثل معسكري الحامدية ووادي الضيف في محافظة إدلب. في اللغة السائدة، سيكون من حق النظام تحسين شروطه على الأرض قبل التجميد، فيما لو تم الأخير. وفي المزاج الدولي السائد، لا يوجد اكتراث حقيقي إزاء مصير المدينة، والإدارة الأميركية وحلفاؤها المقرّبون في الحلف ضد داعش سبق لهم تجاهل التحذيرات الفرنسية والتركية في ما خصّ هجوم قوات النظام والميليشيات المتحالفة معها على المدينة.
لكن الأهم، بحسب ما تسير عليه خطة دي ميستورا، أن مفاوضات التجميد أيضاً ستستغرق وقتاً، تقدّم فيه كل الأطراف المنخرطة في الصراع “داخلياً وخارجياً” تحفظاتها على الخطة، ومن ثم يُصار إلى تعديلها لإرضاء كافة الأطراف، الأمر الذي يبدو عسيراً جداً، إن لم يكن مستحيلاً. من هذه الناحية، وعلى فرض سير الخطة بعد تعثّر في العديد من المحطات، ستكون هناك معارك ضارية في أكثر من موقع سوري بغية اكتساب ما يمكن اكتسابه قبل تنفيذ الخطة هناك، لأن خطة “حلب أولاً” في أحسن حالاتها لا تطمح إلى وقف عام متزامن لإطلاق النار، بل تحلم أن تصبح حلب نموذجاً مشجعاً في ما بعد للمناطق الأخرى، من خلال حوافز دولية تُقدّم للنظام والمعارضة معاً.
المبعوث الدولي، بموجب حديث أدلى به لجريدة الحياة اللندنية، يراهن أيضاً على قرار “بسيط” من مجلس الأمن يدعم خطته. تفسير كلمة “بسيط” هنا لا يحتاج إلى نباهة، فالمطلوب هو قرار لا يحمل صفة الإلزام، ولا ينطوي على عقوبات رادعة، وبالتأكيد لن يكون تحت الفصل السابع. وإذا استعرضنا العتبة المتدنية من التوافق الدولي حول سوريا، فلعلّ أعلى ما يمكن أن يتمخض عنه مجلس الأمن هو بيان رئاسي يدعم خطة دي ميستورا، وليس مستبعداً أن تصر روسيا على تضمينه عبارة تدعم جهودها “الخاصة” للحل في سوريا، وليست مستبعدة في المقابل تلبية الغرب الطلبَ الروسي، طالما أن الغرب غير معني بتلك الجهود، وطالما أنه مقتنع بفشلها.
يروّج دي ميستورا لخطته بأنها تسير من تحت إلى فوق، بعد فشل سلفه الإبراهيمي في جنيف2 القاضي بالحل من فوق، غير أن الأقرب إلى الواقع هو أنه لا يسير عكس سلفه، بل يستلهم “غزة وأريحا أولاً”، رغم إصراره على عدم وجود نوايا تقسيمية في الخطة. لننحِّ جانباً الإطار السياسي لاتفاقية أوسلو، فـ”حلب أولاً” تتقاطع مع البنود التنفيذية للاتفاقية من جوانب عديدة، أولها إيلاء أهمية قصوى للواقع الاقتصادي، وعزله مؤقتاً عن المعضلة السياسية الكبرى، ومن ثم انتظار أن يؤدّي الانتعاش الاقتصادي المأمول على الجانبين إلى نتائج سياسية. بالطبع هذا لا يعني تجاهلاً لقضية الأمن والأمان التي باتت أولوية قصوى لدى شريحة متزايدة من السوريين، لكن البدء بحلب وانتظار ما ستسفر عنه التجربة، في حال تطبيقها، يعني مرة أخرى عدم الاكتراث بمعاناة ملايين السوريين الذين سيبقون حتى إشعار آخر تحت قصف قوات النظام، وتحت حصارها المعنون بـ”الجوع أو الركوع”.
إننا، بدقة أكبر، أمام “عملية تجميد”. الفارق بين التجميد وعملية التجميد هو كالفارق بين عملية سلام واتفاقية سلام. وكما كانت اتفاقية أوسلو مجرد بروتوكول تمهيدي لعملية شاقة، لم تنتهِ خلال عقدين ولا يُعرف متى تنتهي، كذلك هي عملية التجميد المعرّضة للتعثّر أو التعنت أو التراجع عند أي تفصيل، ما دامت الخطة المسرّبة لا تضع إطاراً زمنياً حاسماً للمناطق السورية كلها، وما دام الإطار الزمني الذي يخص حلب ذاتها قيد النقاش، القابل بدوره للتسويف والنسف في أية لحظة. يُذكر هنا أيضاً أن إسرائيل أفرغت عملية أوسلو من محتواها الوطني العام عندما تمكنت من فرض بروتوكولات خاصة ببعض المناطق، الخليل مثالاً، الأمر الذي ليس بمستبعد في سوريا أيضاً، حيث قد يطالب النظام بالأخذ بخصوصية كل منطقة على حدة. وإذا كان المبعوث الدولي ينفي النوايا التقسيمية عن خطته فإن تحويلها إلى مجموعة من الحالات المتمايزة قد يقضي على البعد الوطني العام.
يحتاج السوريون حلاً جذرياً سريعاً، ذلك ما لا تتوفر النية من أجله لدى المجتمع الدولي الذي يمثّله دي ميستورا، وربما كان انطلاقاً من هذا يسعى إلى “تجميد سوريا” في انتظار لحظة الحل. غير أن المنطق الذي ينصّ على كون الحرب أداة سياسية يعني عدم القدرة على إحلال السلام ما لم يكن هناك اتفاق مبدئي بين الأطراف المنخرطة في الصراع، إلا إذا جرى التوافق على التجميد كنوع من استراحة للمحاربين ليس إلا، وما لم تُؤيّد خطته بقرار قوي، لا بسيط، من مجلس الأمن فإن الاحتمال الأخير هو الأقوى.
أطرف ما يقوله المبعوث الدولي هو أن تفسير جنيف متروك للسوريين، ما يعيد إلى الأذهان العرض الذي قدمه وفد النظام في جنيف2، ورفضه التام لأي بحث في المرحلة الانتقالية. على أية حال، وفق منطوق دي ميستورا الحذر، يجوز لنا التمسك بتشاؤم العقل، ما دام هو نفسه لا يمتلك تفاؤل الإرادة، وما دام يبدو سورياً أكثر مما يجب بقوله “لا أحد يقدّم ضمانات سوى الله، وأنا مؤمن بالله”!
المدن
سورية في ألعاب الأمم/ حسن قاسم
سبق لروسيا، التي ضاقت ذرعاً بأزمتها، أن رفضت إقراض اﻷسد بليون دوﻻرٍ أميركي، ما يمكن تفسيره كضغط عليه للقبول بخطة دي ميستورا لتجميد الصراع، والتي أبدى اﻷسد قبولاً مبدئياً بها دون أي مبرر عملياتي، في حلب خصوصاً، وهي جبهة ﻻ يُظهر فيها درجة كافية من الضعف تدفعه للقبول بالتجميد. في حين يستمر اﻷميركيون بسياساتهم الرمادية المراوحة، والتي ﻻ يبدو من أفقٍ لها عدا استمرار استنزاف الحليف الروسي للأسد، استنزاف وصل درجاتٍ بات فيها الروس أضعف من احتمال حدتها بعد انخفاض أسعار النفط، واحتمال امتداد الانخفاض ليشمل أسعار الغاز، حيث تشكل المادتان ما نسبته 61 في المئة من مجمل الصادرات الروسية في النصف الأول من 2014، وتُقدر الخسارة السنوية لروسيا جراء تدهور أسعار النفط وحده بـ 109.5 بليون دولار، تدهور حافظت السعودية على آخر عتباته عند 67 دولار للبرميل بعد رفضها خفض معدل الإنتاج في اجتماع أوبك الأخير.
على الجانب الآخر، تحاول تركيا، ومنذ بداية الثورة، دفع الإدارة الأميركية نحو سياسةٍ أكثر إنتاجاً وجذريةً في سورية، ولا يُبدي الأتراك ضيقاً أقل حيال سياسة أميركا الاستنزافية في سورية، وإن لأسبابٍ مختلفةٍ عن الأسباب الروسية، ضيق عبّر عنه الرئيس إردوغان في تصريحاته الأخيرة، عندما وصف سياسة أميركا في سورية بالوقحة، وهي درجة غير مسبوقة من التصعيد في سلسلة تصريحات الرئيس التركي المنتقدة للإدارة الأميركية.
ومع ذلك، سيكون من الصعب المراهنة على هذا التقارب الموضوعي بين تركيا وروسيا لجهة التوصل لحلٍ وإن بشكلٍ تمهيديٍّ في سورية، فالروس ﻻ ينظرون للتجميد كمدخلٍ لحلٍ في الوقت الراهن، وإن نظروا ﻻحقاً، فإن مدخلاً كهذا لن يفضي لحلٍ مقبول سورياً على اﻷقل، إن لم يكن إقليمياً (تركيا بشكلٍ خاص) أو دولياً (أميركا)، تجميد الصراع سيتيح لروسيا فرصة التقاط أنفاسها، وقد تكتفي تركيا بالتلويح به، لإعادة خلط اﻷوراق في وجه اللاعب اﻷميركي، وتعكير صفو اطمئنانه ﻻستمرار حربه الاستنزافية في سورية، أملاً في دفعه لتغيير سياساته نحو اتجاهاتٍ أكثر إنتاجاً، ما يتلاءم مع التطلعات التركية التي عبر عنها المسؤولون الأتراك في غير مناسبة. ولعل زيارة الخطيب اﻷخيرة إلى موسكو تأتي في سياق استثمارٍ تركيٍّ في اﻷزمة الروسية للضغط على اﻷميركيين، وإشعارهم أن الصراع ليس على درجة اﻻستقرار التي يظنون، وأن منافذ فاتهم سدها جيداً قد تُفتح على ما لم يحتاطوا له كفاية. انطلق الخطيب من الدوحة إلى موسكو، وهو مما يجب أخذه في الاعتبار، وعاد منها ليزور مخيماً للضباط المنشقين تشرف عليه السلطات التركية وتمنع زيارته دون إذنٍ مُسبق، في تحركٍ يوحي بأن استثماراً تركياً في الأزمة الروسية قد بدأ. ولعل التصاعد في حدة التصريحات اﻷميركية تجاه اﻷسد، وربط الرئيس أوباما نجاح الحرب على داعش، التي سبق لتركيا أن تحفظت على الاستراتيجية الأميركية فيها، بإزاحته أولاً، يأتي في سياق محاولة أميركا تهدئة حلفائها، برسالة يمكن قراءتها؛ أن ليس من الضروري القيام بمناورة من هذا النوع، رسالةٌ رد عليها الرئيس إردوغان بتصريحات تؤكد اﻻعتراض الحازم على سياسة أميركا تجاه حلفائها.
حتى الآن، لا يمكننا التأكد من نجاح تركيا في استثمارها هذا، لكن المؤكد أن نشاطاً ديبلوماسياً أميركياً انتاب الملف السوري عقب زيارة الخطيب الموسكوفية، وسيكون من المشروع الاعتقاد بأنها سببٌ له، أو أن السبب يعود لتوسع مساحات سيطرة فصائل إسلامية أقرب لتركيا في الشمال السوري، على حساب فصائل سبق أن صنفها اﻷميركيون كمعتدلة وكانت في حسابات دعمهم، وهو أيضاً مما يصب في سياق الضغوط التركية على الحليف الأميركي المراوح، وإن بأدوات تختلف عن الاستثمار في الأزمة الروسية، استثمار ستزيده زيارة بوتين لأنقرة قوةً، حيث لا يمكن، بل ومن غير المنطقي، الاكتفاء بالتأكيد على الطابع الاقتصادي لها، ما قد يُمَكن الاستثمار التركي من تجاوز نتائج زيارة المعلم اﻷخيرة إلى موسكو، وينذر بتحوله ضغطاً ﻻ يمكن للأميركيين تجاهله، وهم مقبلون على اجتماعٍ مصغرٍ لأصدقاء سورية الأكثر مباشرةً للملف، تبدو تركيا الأشد حماساً له.
* كاتب سوري
الحياة
الحل الروسي في سورية: غروزني مثالاً/ برهان غليون
هل هناك فرصة للحل السياسي للحرب السورية المشتعلة منذ أربع سنوات؟ وهل أصبح النظام السوري جاهزاً لذلك؟ وما الذي دفع موسكو إلى التحرك الدبلوماسي، اليوم، بموازاة تحرك دي ميستورا الذي يكشف العجز الكامل للأمم المتحدة عن القيام بأي دور؟
في نظري، وحسب ما تسرب، حتى الآن، من معطيات، هناك بالفعل إرهاصات لبدء مفاوضات حول الأزمة السورية. لكن، ليس من أجل إيجاد حل للأزمة، يلبي الحد الأدنى من مطالب السوريين الذين أصبحوا ضحية صافية للمصالح الإيرانية والروسية والدولية، وإنما لتكريس المكتسبات التي حققها فرسان الحرب الحقيقيون، إيران وروسيا، وشرعنتها، وإنقاذ الجلاوزة الأشرار من حلفائهم “السوريين” الذين لم يترددوا في استخدام الغاز الكيماوي، لقتل أبناء وطنهم وأطفاله. وهم يسعون، في ذلك، إلى استباق المرحلة المقبلة التي يمكن أن لا تكون بعيدة جدا، والتي قد يضطرون فيها، مع انهيار حصان ركوبهم أو انكساره، إلى التفاوض على تفكيك نظام الاحتلال الذي فرضوه على السوريين.
لو كانت لدى الروس والإيرانيين إرادة حقيقية في إنهاء الحرب السورية، لما تطلب الأمر كل هذه المناورات والتحضيرات الجديدة، والتصريحات المواربة والمتناقضة، ولا الاجتهاد في انتقاء المعارضين، وفرزهم، حسب الطلب. فماذا كان بإمكان طهران وموسكو أن تطلبا من المعارضة أكثر من أن تتخلى عن هدفها الأول في إسقاط النظام، وأن تقبل الدخول في حكومة انتقالية، مناصفة مع نظام القتلة نفسه، وقد قبلته؟ وماذا كان في وسع المعارضة أن تقدمه للنظام، أكثر من التصالح مع نظام قاتل، بعد مئات آلاف الشهداء وملايين المشردين، وتدمير المدن وتسليمها للمتطرفين من كل الآفاق؟ وما المشكلة في العودة إلى مثل هذا الحل الذي اتفقت عليه الدول ومجلس الأمن، وقبلت به كل أطياف المعارضة، إنقاذاً لما تبقى من البشر والحجر؟
الجواب أن المشكلة في الحل الذي رفضته هذه القوى الثلاث في جنيف، القائم على مبدأ الانتقال السياسي الذي اتفق عليه الجميع، باستثناء إيران والنظام، أنه يخاطر بأن يقود إلى وضع حد للاحتلال الإيراني والوصاية الروسية على سورية ومنظومة القتل والإرهاب التي يستخدمها للحفاظ على نفسه، حتى لو كان ذلك على مدى متوسط. المطلوب، بالعكس، من أجل تكريس الاحتلال والوصاية الإبقاء على منظومة القمع والإرهاب التي يمثلها ما يسمى النظام السوري الذي أصبح مرتكزا وحيدا لهما. ليس هناك أي تفسير آخر للتخلي عن إطار مفاوضات جنيف لصالح حلول بهلوانية ضعيفة، إن لم يكن الهدف تشليح المعارضة أوراقاً وتنازلات أكثر، وتحويلها، في النهاية، إلى خاتم في إصبع نظام الاحتلال المثلث، والتغطية على دناءة الأهداف، ولا أخلاقية المصالح التي تكمن وراءها.
ليس لهذا الطرح أي علاقة، كما تدعي موسكو، بالحفاظ على مؤسسات الدولة. فلا يضمن بقاء الدولة ومؤسساتها في كل مستويات الإدارة المدنية والاقتصادية والاجتماعية، والتي ليس لأي سوري مصلحة في تفكيكها أو التخلي عنها، سوى السلام القائم على التفاهم الحقيقي بين أبناء الشعب السوري، وتوصلهم إلى تسوية تنهي عهد الاحتلال والوصاية والقتل المنظم. ما يطالب به الروس والإيرانيون المحركون للأسد ومنظومته هو الحفاظ على أدوات الاحتلال الطويل: الجيش الذي تحول إلى ميليشيا فاشية، ومنظمات المرتزقة الأجنبية الممولة على أسس طائفية، وأجهزة الأمن العسكري والسياسي التي تشكل النواة الصلبة للسلطة المافيوية. فليس هناك أي أمل في استمرار النظام المشترك، الإيراني الروسي المافيوي، من دون حماية هذه الأجهزة من أي تغيير، والإبقاء عليها في يد الأسد، أو من يحل محله، ويقوم تماما بدوره، من الطغمة القاتلة نفسها.
وبينما يعد الروس المقصلة لقطع رأس الثورة، ربما بمساعدة بعض أبنائها الذين أعمى أبصارهم البحث عن دور، أو شوشت حساباتهم العاطفة الأبوية الفائضة، تتطوع الأمم المتحدة، عبر مبعوثها، ستيفان دي ميستورا، بحمل المنشفة لمسح الدماء المسفوكة، ومواساة أيتام الثورة بقطرة من الماء وكسرة الخبز التي حولها حصار الجوع إلى سم زعاف.
لم يطلق الروس والإيرانيون، بعد أن أعدموا مؤتمر السلام في جنيف بشكل متعمد، وبقسوة لا حدود لها، مناورتهم البائسة الجديدة، رفقاً بالسوريين، أو تحننا عليهم. فعلوا ذلك، لأنهم أدركوا أنهم وصلوا، في استخدامهم القوة وتوسعهم وسيطرتهم، إلى أقصى ما يمكن لهم فعله، ولم يبق أمامهم، بعد ذلك، إلا الانحدار. وفكروا أن من مصلحتهم أن يستخدموا التطلع الشعبي والعالمي للسلام من أجل تكريس مكاسبهم، وفرض شروطهم على المعارضة. وما يقترحونه حلاً، كما تسرب من معلومات حتى الآن، هو تطبيع/تجميد الأوضاع والتوازنات والمصالح القائمة، لجماعات النظام وأمراء الحرب، وإخراجها بعد مفاوضات قرقوشية، في صورة حل سياسي يكرس، بالطرق السياسية والحيل والمناورات، ما لم يعد بإمكانهم الحفاظ عليه بالوسائل العسكرية، كما يدق إسفيناً عميقاً في جسد المعارضة الهش والضعيف والمقسم أصلاً.
فقد خسر النظام، في سنوات المواجهة الطويلة الماضية، الكثير من قدراته العسكرية، وإلى حد كبير، السيطرة على الآلة الميليشيوية التي استخدمها، حتى الآن، ضد الشعب والمعارضة، واستنفد طاقاته، وأصبح من الصعب عليه أن يجددها بسهولة. ولم يعد أمامه إلا مواجهة المرحلة المقبلة التي ستشهد فيها هذه القوى نفسها حركة الارتداد عليه، وعلى نفسها، أمام انعدام أي أمل، بعد اليوم، للحسم العسكري التي وعدت به. وهو، منذ الآن، يعتمد على شراء خدمات المرتزقة المحترفين من أفغانستان وغيرها، لسد الثغرات العديدة في جبهاته.
فطهران، الممولة والمخططة للحرب والمستفيدة الرئيسية منها، تواجه، بعد فشل نظامها في التوقيع السريع على الاتفاق النووي مع الغرب، تقلص مورادها المتزايد مع الانخفاض المتواصل في أسعار النفط، واستمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ سنوات طويلة. ولن يكون في وسعها مواجهة أعباء حرب الاستنزاف التي أطبقت عليها كالفخ، وليس من المؤكد أن الإيرانيين قادرون على تحملها إلى فترة طويلة.
أما روسيا التي وصلت إلى طريق مسدود في أوكرانيا، فقد يئست من إمكانية تحقيق حسم عسكري ساحق، على مثال الحل الذي حققته هي في غروزني عاصمة الشيشان، أي الاستسلام الكامل للمعارضة. وهي تعتقد أن بإمكانها الاستفادة من معطيات الحرب الدولية ضد الإرهاب من أجل تعويم نفسها دبلوماسيا، وفتح تجارة جديدة رابحة مع واشنطن التي تفتقر لأي خطة في سورية، والمراهنة على انقسام المعارضة، لتهميشها وتقليص مطالبها وتدجينها. وليس هناك ما يمنع من تجريب طرائق أخرى، مع تراجع قدرة الطرائق العسكرية على الحسم، وتفاقم كلفها المالية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، من أجل تحقيق الهدف في هزيمة الثورة السورية، وتأكيد شرعية النظم، مهما كانت السياسات .
بالنسبة لنا، نحن السوريين، أي حل، مهما كانت مظاهره الآنية، لن يكون مقبولاً، ولا مفيداً، ولن يشكل مرحلة على طريق إنهاء المحنة الإنسانية والسياسية السورية، ما لم يتضمن: 1. تفكيك نظام الاحتلال الذي دمر حياة الشعب السوري في السنوات الأربع الماضية بأركانه الثلاثة: الميليشيات المرتزقة المرتبطة بطهران والممولة منها والفيتو الروسي الذي يجسد الوصاية على البلاد، ومنظومة القتل المنظم والإبادة الجماعية المافيوية للأسد 2. الإقرار الصريح والواضح بحق الشعب السوري الكامل في تقرير مصيره، تحت إشراف الأمم المتحدة، وليس أي دولة أخرى، وبضمانة رسمية وعلنية منها. 3: محاسبة المسؤولين عن الجرائم الوحشية وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبت، ولا تزال، في السنوات الأربع الأخيرة. وسيكون من العار على الامم المتحدة وجميع الدول والقوى السياسية المعارضة وغير المعارضة أن تقبل القتلة وفرسان السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة شركاء في إعادة إعمار ما هدموه، بدم بارد وعن وعي وسابق تصميم، وأن يعيد توحيد الشعب من استخدم كل الوسائل الدنيئة لتقسيمه وتمزيقه، وأن يؤهل الدولة، من حولها، إلى آلة للحرب والقتل والدمار، وأن يبني الامة من سلمها للاحتلال. من مثل هذه الشراكة الخبيثة لا يمكن أن يولد شعب، ولا أن تنتعش سياسة، ولا أن تنهض أمة، أو تقوم دولة أو ينشأ اقتصاد. إنها وصفة الحرب الأهلية الدائمة، والتعطيل الكامل لفرص استعادة سيادة الدولة وحكم القانون وعمل المؤسسات، ومن وراء ذلك تكريس نظام الاحتلال الداخلي والخارجي، على ما يأملون أن يكون حطام ثورة الفقراء والمعذبين والمشردين من أبناء سورية الشهيدة. لكنهم واهمون.
العربي الجديد
لا حلّ في سوريا من دون إشراف دولي/ غازي دحمان()
تصطدم أغلب التسويات التي يجري تداولها لحل الأزمة في سوريا بعقدتين، الأولى بقاء بشار الاسد في السلطة وهو شرط صار من المستحيل قبوله ولا حتى التعايش معه واقعياً ذلك أن الغالبية العظمى من السوريين ترى فيه المسؤول المباشر عن بحر الدم والمأساة في سوريا وإن استمراره يعني تمديدا لهذه الحالة المأسوية على جميع السوريين، بما فيهم الموالين، أو المحسوبين على نظام الأسد، والعقدة الثانية، تتمثل بعدم توافر بديل يستطيع الحفاظ على الدولة واستمرارها في اليوم التالي بعد سقوط رحيل نظام الاسد، وخاصة بعد أن ثبت فشل المعارضة في أكثر من مناسبة وعلى أكثر من صعيد، وعدم اثبات جديتها في بناء هياكل وأطر قادرة على تسيير شؤون بلد يحتاج لمستلزمات كثيرة حتى يتمكن من معاودة العيش تحت سقف الحياة.
تنطلق معظم المبادرات من فرضية تعب السوريين من الازمة، لم توفّر الأزمة سورياً واحداً من دون أن تنهكه، ولم تفرق بين معارض وموال، الجميع دفع أثماناً تفوق طاقته وقدرته على التحمل بأضعاف، أيضاً تراهن تلك المبادرات على تعب المجتمع الدولي برمته، ذلك ان الأزمة تدولت بطريقة انسيابية وسهلة حيث أصبحت كل الدول متورطة بطريقة او اخرى نتيجة التداعيات الكثيرة التي أفرزتها، بحيث أن المبادرات والحلول تبدو وكأنها تبحث عن مخرج لأزمة العالم المتكاثرة، فمن أزمة النازحين وإمكانية توفير الغذاء والمأوى التي بات العالم يعجز عن سد يومياتها وبالكاد تستطيع المنظمات الإغاثية تأمين الضروري لكل شهر، إلى أزمة دول الجوار حيث باتت اكثر من دولة تقف على عتبة الانفجار الاجتماعي والاقتصادي «لبنان والاردن وتركيا»، إلى أزمة الفارين عبر المتوسط إلى الدول الاوروبية، حيث بدأت بعض الدول تشهد تململا اجتماعيا كما حصل في المانيا أخيرا.
ويفيد تفحص الواقع الميداني في سوريا، والخريطة الموازية له، على الجبهتين، ما يسمى بنظام الاسد، وجبهة المعارضة، أنهما ليسا أكثر من حالتين افتراضيتين اكثر منهما واقعيتين، وإذا كان بعضهم يرى مثلا أن التشتت ينطبق فقط على جانب الثورة، حيث يصلح هنا القول ان المعارضة في الحالة السورية ليست سوى عنوان عريض يشمل في خانته معارضات لنظام الأسد، تلتقي فقط عند هذه النقطة، ولكنها لا تجتمع في جسم واحد، حتى ان اجتماعها في إطار سياسي أمر مستحيل لا اليوم ولا غدا، لاختلافاتها في الايديولوجيا والاهداف والوسائل، لدرجة يصعب ضمّها في إطار ائتلاف معارض واحد، ولا حتى ضمن عشرة ائتلافات.
لكن على الجانب الاخر أيضا فإن جسم نظام الاسد ينطوي على هشاشة وفوضى أكثر بكثير مما هو واضح على السطح، وشخصية بشار الاسد في هذه المنظومة، ليست أكثر من عنوان لجهات عديدة، تجتمع عند نقطة قمع الثورة وحقدها على الأخر، ولكنها باتت تختلف في كل شيء، وخاصة في ظل فوضى البنى الكثيرة التي صنعها النظام وإيران وأضاعوا مفاتيح وعناوين أغلبها، حتى ان بعضها لم يعد يحتاج للتمويل الذي كان يتحصل عليه منهما، وصار يؤمن موارده من اقتصاد الحرب الذي يقوم على النهب والسرقة وفرض الخوات والضرائب وبيع السلاح للمعارضة، وباتت له مصالحه في استمرار الحرب بأي طريقة كانت.
تشكل هذه الخريطة أحد أعقد المشاكل التي تواجهها الجغرافية السورية، ولا نقول السلطة السياسية السورية، لأن هذه الفوضى ستطوي جميع القيادات السياسية الحالية، الحاكمة والمعارضة، ولزمن طويل، وفي أحسن الأحوال قد تتحول بعض هذه القيادات إلى فئوية ولجبهات معينة، لا يشبه الوضع السوري سوى الحالة الصومالية، البلد الذي تفككت فيه السلطة والجغرافية والمجتمع، وانتهت إلى قبول العالم بهذه الحالة، شرط أن يتم، قدر الإمكان، التخفيف من تأثيراتها الإقليمية وإبقاءها محليا، حتى مجرد التفكير بإمكانية إعادة إعمار سوريا صار كابوساً يهم الكثير من الدول ألا تواجهه يوماً ما، وتتمنى لو تستمر الظروف غير المناسبة لحصول مثل هذا الحدث،
تذهب أفضل الحلول التي يتوافق عليها المجتمع الدولي إلى تشكيل توليفة من السلطة والمعارضة ويتم الترويج لهذا الحل على أنه مثالي شرط قبول الأطراف به والتزامهم بمقتضياته، على أساس أن اجتماع الطرفين كفيل بتسكين الجبهات واستعادة السلطة والامن وإمكانية ضبط الأوضاع في البلاد، ونتيجة للتوصيف السابق للحالة السورية فإن ذلك لا يعدو ان يكون مجرد أفكار نظرية ليس لها نظائر موازية على الأرض، وليس من المنتظر أن تخلص النوايا لإنجاح مثل هذا الحل، وسيكون مجرد فرصة لإفشال الأخر وإظهاره بمظهر الغير قادر على إنجاح الحل، بمعنى أنها هذه التوليفة ستتحول إلى جبهة إضافية من جبهات الحرب ليس أكثر.
وبناءً عليه فإن الحل يتطلب مساهمة خارجية، على هيئة قوات أممية، تتشكل من دول من الإقليم ودول خارجية، وتساهم في فرض الحل وإدارة مرحلة انتقالية يتم خلالها تفكيك عدّة الفوضى على الأرض السورية وتشكيل جيش وطني وقوات شرطة وتستعيد عمل المؤسسات وتؤسس لوضع دستور جديد، وبقاء هذه القوى لمدة 5 أعوام على أقل تقدير، تنظم خلالها عملية مصالحة سورية وإعادة الإعمار وعودة النازحين.
ربما يعتقد بعضهم ان هذا الحل غير وطني وأنه يعيد سوريا إلى مرحلة الاستعمار، وقد يكون هذا الاعتقاد صحيحاً، لكنه يغدو بديلا مقبولا أمام حالة تدمير النسيج الوطني التي حصلت في سوريا وأمام هذا الطوفان من المآسي والنكبات التي لا تتوقف والتي لا يبدو أن ثمة فرصة لتوقفها، وما لم يقم العالم والسوريين بهذه الخطوة الجريئة فما من ضمانة لعدم استمرار الحرب لعقود قادمة واتجاه دول العالم والإقليم إلى إتباع استراتيجية الحد من التأثيرات الخارجية للأزمة ما أمكن عبر إغلاق الحدود والانسحاب من الالتزام تجاه النازحين وإهمال القضية شيئا فشيئا لتتحول مع الزمن الى حرب منسية تأكل كل اخضر على الأرض السورية.
كل الحروب الكبرى انتهت بحالة شبيهة من ذلك، لم يكن ممكنا انقاذ البلاد إلا عبر تنازلات مؤلمة، بعضها طاول السيادة الوطنية وبعضها طاول الوحدة الترابية للبلاد، وبكل الحالات توجّب على الشّعب دفع أثمان معينة، وإذا كان ممكنا الاختيار فإن أفضل البدائل الممكنة تبقى القبول بفكرة اشراف قوى خارجية على الحل هو أقل الخسائر الممكنة، على الأقل قد يضمن إعادة الإعمار والنازحين وحصول مصالحة على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.
() كاتب من سوريا
المستقبل
دي مستورا لا يريد حلب/ نائل حريري
ليست مهمة المبعوث الأممي المشترك الخاص بسوريا ستيفان دي مستورا سوى حقل من الألغام. أوحت في بداياتها أنها لن تكون سوى تسويف وانتظار للتغيرات الطارئة القادمة التي حظيت مهمته بالحصة الأعظم منها (انفلاش القوة الداعشية، ثم التكتل الدولي في مواجهتها). لكنه برغم ذلك يتحلى بالواقعية والدأب اللذين جعلا مهمته محط أنظار منذ باشر مهامه وافتتح مكتباً آخر لعمله في دمشق هذه المرة لا في جنيف وحدها.
كان اللقاء الوحيد الذي حضرته في مكتبه بدمشق مثيراً للاهتمام، إذ لا يبدو دي مستورا مهتماً حتى الآن بالأضواء الإعلامية والمؤتمرات الصحافية، وما زال ينقب في فضاءات الممكن السياسي وارتباطاته على الأرض. وخرجت من اللقاء محملاً بثلاث أفكار رئيسية أهمها أن أرضية 2012 لم تعد صالحة لإعادة إنتاجها واستجرارها، وإن لم نقم بمجاراة العام 2014 والتفكير على أساسه، فلا وجود لحل على الإطلاق.
على عكس سلفه الأخضر الابراهيمي، أبدى دي مستورا اهتماماً أكبر بالملفات المحلية العالقة التي أهملتها الأمم المتحدة. يتلخص جزء من هذا الإهمال الضخم في مهمة الابراهيمي نفسها وظروف تشكلها: لا فريق على الأرض السورية، ما من مراقبين ولا مشرفين مدنيين أو عسكريين، وما من قدرة حتى على الضغط باتجاه التعاون مع الأمم المتحدة في أبسط مهماتها غير التنفيذية: دخول لجنة تقصي الحقائق المستقلة الخاصة بسوريا والتابعة للأمم المتحدة.
وبعد أكثر من عامين على تصاعد أصوات المجموعات المدنية السورية التي تطالب بمشاركة حل «من أسفل لأعلى» مع الحل السياسي، يحاول دي مستورا الآن جس نبض هذه الحيثيات، ومشاركتها مع حل سياسي ما قد يلوح في الأفق. صحيح أن هذا الحل السياسي غير ناجز حالياً – بل هو أقرب إلى ألا يكون موجوداً على الإطلاق – لكن هذا لا يمنع من استجماع تفاصيل ما هو ممكن، فهو برغم كل شيء لم يطرح مبادرة بعد، وكل ما يقوم به هو إلقاء بعض الأفكار من حين لآخر، ليتلقفها الإعلام ومراكز صناعة القرار ومراكز الأبحاث ويصنع كل منهم مواده الدسمة على أساسها.
ثمة ملامح تشي بجدية ما يريد أن يكرسه دي مستورا، وهو حل سياسي بعيد يحتاج لتشكيل أرضية أكثر صلابة لاستدامته. وهو بالتالي ليس في عجالة لصياغة حل محلي ناجز بكل ما فيه الآن للانتقال إلى حل سياسي أشمل، ولا هو يسير على خطى سلفه الابراهيمي الذي كان يسعى إلى العكس (حل سياسي شامل على طاولة مفاوضات دولية قبل الحديث عن أي تفصيل على الأرض). ما يقوم به الآن هو أقرب لتجهيز الأرضية المناسبة في كلتا المساحتين، وهو يراوح جيئة وذهابا لاستكشاف مدى تعاون كل جهة على حدة.
من هنا، فإن «فكرة تجميد النزاع» ليست مجرد خطوة في حل ناجز جاهز ببرنامج يغطي سنوات طويلة من عكس الأزمة أو حلها أو الخروج منها، بقدر ما هو خطوة أولى أساسية لإقناع كثير من الأطراف بإمكانية المضي في الحل قدماً، خصوصاً أن «مجموعة لندن 11» (أو «دول أصدقاء سوريا») لا تملك أي قناعة لاستثمار أموالها في حلول السلام على الأرض، ما لم تجد نموذجاً يمكن البناء عليه.
أمام دي مستورا عدد من النماذج التي يمكن البناء عليها كنقطة انطلاق، لتقييم التجربة ثم تعميمها وبناء المزيد عليها. لكن المؤكد أن حلب ليست إحدى هذه النماذج على الإطلاق. فهي الحلقة الأكثر تعقيداً على الأرض، والتي يتناحر فيها أكبر عدد من القوى المحلية والإقليمية والدولية، إلى درجة يصعب معها إنجاز أي تقدم حقيقي غير قابل للكسر. ولا يتفق ذلك مع واقعية دي مستورا ولا فهمه لطبيعة المسألة. حلب ساحة كبيرة وضخمة، ومن البديهي أن تهدئتها ستكون الأكثر تأثيراً في الأرض السورية. لكن ما هو بسيط وواضح وقابل للتطبيق أهم بكثير من المعقد والصعب الذي لا يمكن تطبيقه.
لا توجد صيغة معلنة لما يطرحه دي مستورا الآن، لكن المؤكد هو أنه لا يفكر بمنطقة هنا أو هناك، بل يفكر بسلسلة من الإنجازات التي تسهل محطاته اللاحقة. لعله اختار أن يلقي بالمنطقة الأكثر خطراً وتعقيداً كطعم سياسي وإعلامي، ليبحث آخر حدود الممكن في التفاوض على كل ما هو دونها. إذا كان ثمة تعاون واتفاق جزئي بشأن العمل على حلب، فعندها لن تكون الزبداني أو الغوطة الشرقية مثلاً إلا أوراقاً سهلة بالمقارنة معها. ثمة مناطق تضم تكتلات عسكرية واضحة بقيادات معروفة وحدود أكثر برودة، وهي قادرة على تقديم نماذج عملية وواقعية. ولن يكون من المنطق في شيء الابتعاد عنها نحو مساحة متأزمة ومنذرة بالفشل الذريع، إلا إذا كان دي مستورا لا يريد حلب أساساً، على الأقل ليس الآن.
السفير
ردود أفعال ولا مبادرة/ ميشيل كيلو
ما دام “الائتلاف الوطني” هو الجهة المعترف دوليا بتمثيلها السياسي للشعب السوري، فإن وضعه هذا يلزمه بإنجاز أمرين:
أن يصير الاعتراف الدولي به قانونياً فقط، لأن الاعتراف القانوني يحله محل النظام في مؤسسات الشرعية الدولية والإقليمية والعربية، ويمنحه حقوقه ويلزمه بواجباته، ويجعله الممثل الوحيد لشعب سورية، والمخول بإدارة دولتها، والتعبير عن مواقفها ومصالحها.
أن يكون الطرف الذي يطور مبادرات وأفكاراً تتعلق بالحل السياسي للقضية السورية، بدل أن يكون الطرف الأقل تفاعلاً مع ما يقدم على الساحات الخارجية من حلول، والأقل تأثيراً عليها.
بقول آخر: لا بد من أن يهجر “الائتلاف” السياسات التي تقوم على ردود الأفعال، ويحرص على ألا تأتي ردود أفعاله متأخرة، وناقصة أو متناقضة، بما أن إعلاناته الرسمية عن مواقفه ليست منتظمة، ولا تصدر غالباً عن الناطق الرسمي باسمه، الغائب، معظم الوقت، عن شؤونه ومهمته. في حين يشرّق كل عضو فيه ويغرّب على هواه، ويجتهد “على كيفه”، حتى في أخطر القضايا، وسط افتقار الائتلاف إلى عادة “سيئة”، هي إصدار بيانات رسمية حول القضايا السورية العادية أو الطارئة، وغيابه “الحميد” عن تقاليد عمل عام، تأخذ بها جميع التنظيمات الناشطة في حقل وطني مفتوح، وتتجلى في متابعة الأحداث أولا بأول، واتخاذ مواقف معلنة وواضحة منها، بعد نقاش موسع داخلها، يعبر فيه الجميع عن معلوماتهم واجتهاداتهم ووجهات نظرهم الخاصة، لكنهم يتفاهمون، في نهاية النقاش، على موقف يلزم كل عضو ائتلافي، إلا إذا كان عارضه خلال النقاش، وتمسك بحقه في معارضته بعد إقراره. عندئذ، يكون من واجبه التأكيد في أحاديثه الإعلامية والخاصة على أن ما يقوله ليس موقف الائتلاف، بل هو موقفه الشخصي.
وقد كانت هناك دوماً حاجة إلى قيام “الائتلاف” بمتابعة متأنية ودقيقة ما قد يكون مطروحا للحوار من سيناريوهات خاصة بالحل السياسي في سورية، ليبادر إلى تقديم تصوراته حولها حتى قبل إعلانها، ويؤثر في مضمونها والأطراف التي قد تتخذ موقفا منها، ويكون الجهة التي بادرت، بينما قام غيرها بخطواته متأخراً عنها. الخيار الثاني أن تعقد قيادة الائتلاف جلسات تناقش سائر احتمالات ونتائج الصراع الدائر في سورية، وتضع سيناريوهات حلول متنوعة، تتقاطع معها، شريطة اتفاقها مع المصالح العليا للشعب السوري ومطالبته بحريته، وإفادتها على خير وجه من الحلول والتصورات الدولية المطروحة حيال تسويات الصراع المحتملة، وتمر بآلية معينة، تبدأ بمواقف متناقضة ثم تتقارب تدريجياً لتلتقي، في النهاية، على حل يلبي المشترك من مصالحها، أو مصلحة القوة المتغلبة منها. وفي الحالتين، يكون على الائتلاف أن يبقى، كوالد الصبي، في موقع المبادر إلى التأثير على الآخرين، عبر صياغة حل يقبلونه، أو إعلان موقف حيال ما يطرحونه، يرغمهم على أخذ مصالح ومطالب السوريين بالحسبان في ما يفعلونه، أو يريدون تحقيقه من حلول. لكن، مثل هذه العادة “اللعينة” لا وجود لها فيه، بل هناك “مطبخ سري” محدود العدد من أعضائه، يتولى تقرير ردود أفعاله على مبادرات الآخرين، وتعيين موقفه بما يقترحه هؤلاء، بدل مبادرته هو إلى تعيين مواقفهم بما يعلنه من حلول، يجب أن تحقق تفاوضياً ما يقاتل في سبيل تحقيقه من أهداف عبر المقاومة المسلحة.
لا شماتة: من يراقب ردود أفعال الائتلاف على مبادرة دي مستورا سيضع يده على سلوك الائتلاف: بدل مواجهتها بخطة مقابلة، يتم الاكتفاء بردود أفعال متقطعة عليها.
العربي الجديد
عن سوريا وحلفائها: انتصار “لعبة الانتظار السورية”/ محمد صالح الفتيح
شكلت زيارة وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، لموسكو، واستقباله من قبل الرئيس الروسي، لأول مرة، مناسبة للتمعن في علاقة دمشق بحلفائها، ولا سيما بعد أربع سنوات هي عمر الأزمة السورية. وخلال السنوات الماضية، أشار العديد من المحللين، وتحديدا الغربيين منهم، إلى أن سوريا قد أصبحت معتمدة، بشكل حيوي، على حلفائها، وأن هذا الاعتماد قد يكون السبب في تقلص دورها لتتحول إلى «تابع مطيع»، ولتفقد دورها السابق كحليف صاحب قرار مستقل. دراسة مكانة سوريا بين حلفائها اليوم ليست بالمسألة الثانوية. فالأزمة السورية، في شق كبير منها، كانت تجسيداً لمساعي خصوم دمشق لإضعافها وتحجيم دورها الإقليمي، أكثر من مسعاهم لإسقاط النظام السوري بحد ذاته. فالمطلوب كان إما نظاماً بديلاً منقاداً أو تحجيم النظام الحالي وإلزامه حدود بلده. الحكم على نجاح هذه المساعي يعتمد، بشكل كبير، على معرفة موقع سوريا بين حلفائها: فاستمرارها بالاحتفاظ بنفس الموقع القوي بين الحلفاء يعني استمرار ممارستها دورها الإقليمي ويعني، بالتالي، أن المسعى المعادي قد فشل. وفي المقابل، فإن ضعف سوريا، وتقلصها لتصبح مجرد «تابع» لأحد حلفائها، يعني أنها ستتحول إلى «ورقة» بيد ذلك الحليف وبالتالي ستكون، عملياً، قد ضعفت في وجه الخصوم، وتحقق المطلوب.
تأخذ مسألة الموقع بين الحلفاء، الدوليين والإقليميين، أهمية خاصة في حالة سوريا، وهي الدولة الصغيرة الحجم والمتواضعة الموارد والتي نجحت منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، في انتزاع دور إقليمي كبير مستفيدة من شبكة علاقات دولية، تبدو متناقضة إلى حد ما. ولعل العامل الرئيسي الذي سمح لها بممارسة هذا الدور هو، من ناحية أولى، حرصها على إبقاء شعرة معاوية مع مختلف الأطراف، ومن ناحية ثانية، عدم السماح لحلفائها بالتدخل في سياساتها الداخلية والخارجية. فاستطاعت الجمع بين المتناقضات: أولاً عبر الحصول على الدعم شبه المطلق من الاتحاد السوفياتي وثانياً عبر الإبقاء على قنوات مفتوحة مع الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً، وثالثاً عبر الاحتفاظ بالقرار السيادي، في الشؤون المحلية والإقليمية. فعلى سبيل المثال، رفض الرئيس الراحل حافظ الأسد الضغوط السوفياتية، في مطلع السبعينيات، لتوقيع اتفاقية صداقة بين سوريا والاتحاد السوفياتي، ودخل الجيش السوري لبنان مخالفاً رغبة لاتحاد السوفياتي، الذي عبر عن غضبه بوقف واردات السلاح الجديد، والذخيرة، وقطع الغيار للجيش السوري. لكن السياسة السورية أثمرت عن قبول الاتحاد السوفياتي بدور سوريا في لبنان وتوقيع اتفاقية صداقة، مطلع الثمانينيات، ليس فيها ما يقلق دمشق. ولكن هل تغير الأمر اليوم؟ هل فقدت سوريا استقلالها وأصبحت تابعة أو، على الأقل، معتمدة إلى حد كبير على حليفتيها روسيا وإيران؟
إن ظروف الأزمة السورية، والحصار الديبلوماسي والاقتصادي، دفعا سوريا بالفعل إلى الاعتماد بشكل متزايد على حليفيها الروسي والإيراني، فلا يمكن إنكار دور المعونات الاقتصادية والعسكرية الروسية والإيرانية في مساعدتها على الصمود. ولكن لا ينبغي التسرع والاستنتاج أن مكانة دمشق قد تراجعت أمام حلفائها، على الأقل ليس إلى حد لا يمكن إصلاحه. فالاستراتيجية السورية التي تعتمد طول النفس وعدم التسرع في تقديم تنازلات لا يمكن التراجع عنها، والتي يشار لها أحياناً في الأدبيات الغربية باسم «لعبة الانتظار السورية»، تنظر إلى الأزمة الحالية على أنها حالة موقتة، عابرة، ويمكن تصحيح أي تقهقر قد يقع، وأن الانتظار، والصبر، سيسمحان بتلافي تبعات هذا التقهقر من خلال الاستفادة من الأحداث المستجدة على الصعيد الدولي والإقليمي. هكذا، فإن دمشق التي بدت، في العامين 2011 و2012، بحاجة ماسة لمساندة موسكو، بدت لاحقاً، من خلال صمودها في العامين التاليين 2013 و2014، وكأنها قد منحت موسكو فرصة للعودة بقوة إلى ساحة الشرق الأوسط. وقد برزت صحة مقولة طول نفس دمشق، على وجه الخصوص، عندما سقط حليف موسكو في أوكرانيا، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، برغم كل المساعدات الروسية التي كان أحدها شراء موسكو سندات مالية أوكرانية بقيمة 15 مليار دولار، وهي مساعدات لم تحصل دمشق حتى على عُشرها. مستجدات العالم 2014 أثبتت لموسكو أنها أيضاً بحاجة إلى دمشق.
وقد نجحت سياسة طول النفس السورية أيضاً في حفظ استقلال القرار السوري أمام الحليف الإيراني. فقد رفضت دمشق الدعوات الإيرانية لتقديم تنازلات لـ «الإخوان المسلمين» أو تشكيل حكومة ائتلافية يُعطى فيها دور ما لمعاذ الخطيب، أو لغيره من المعارضين الإسلاميين. وقد ظهرت ثمار «سياسة الانتظار» السورية عندما تأزم الصراع في العراق وأُطيح بنوري المالكي، حليف طهران، وظهر أن الولايات المتحدة وتركيا والسعودية تملك بالفعل أوراقاً قوية في العراق وأن دورها ينافس الدور الإيراني وأن إيران، بالتالي، بحاجة إلى دمشق وأن الظروف لا تسمح بفرض إملاءات معينة عليها.
وقد كان لافتاً في مقابلة وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، مع صحيفة «الأخبار» اللبنانية مؤخراً، أنه شرح تفاصيل العلاقة السورية الإيرانية وأشار إلى أنه قد قال، بشكل مباشر، لوزير الخارجية الإيراني، جواد طريف، «إن صمود سوريا هو الذي يمكّنك من التفاوض من موقع قوي مع الغرب حول الملف النووي». وهنا لا يمكن للمرء أن لا يستشعر نبرة التحذير والتذكير في كلام المعلم. هذه النبرة تذكرنا بما حصل بين سوريا وإيران في العامين 1986 و1987. فبعد حوالي سبعة أعوام من التحالف بين دمشق وطهران ومساندة الأولى للثانية خلال الحرب مع بغداد، تضاربت المصالح السورية الإيرانية حول عدد من الملفات كلبنان، خصوصاً في الصراع بين «حركة أمل»، المحسوبة على دمشق، و»حزب الله»، المدعوم من طهران. وخلال تحالفهما، قدمت دمشق لطهران المساندة الديبلوماسية والدعم العسكري، من خبراء ومعدات، في الحرب مع بغداد، وفي المقابل قدمت طهران لدمشق مساعدات مالية ونفطاً بأسعار مخفضة. لكن عندما وقع الخلاف، حاولت طهران أن تضغط على دمشق من خلال التهديد بوقف الصادرات النفطية لها إن لم تسدد دمشق المستحقات المالية المتوجبة عليها. فردت دمشق، التي كانت تواجه أزمة اقتصادية ومالية كبيرة، بأن لوحت بأنها ستعيد النظر في العلاقة المقطوعة مع بغداد وبأنها ستسمح للملك الأردني حسين بالقيام بالوساطة التي طالما عرض القيام بها. تراجعت طهران وعاودت تصدير النفط وتجمد التقارب السوري ـ العراقي.
لكن الخلاف تجدد في العام التالي، 1987، حول الملفات نفسها، خصوصاً بعد وقوع حوادث من قبيل حادثة «ثكنة فتح الله» في بيروت الغربية في شباط 1987. كان ذلك العام هو الأسوأ لدمشق من الناحية الاقتصادية، حيث عانت من عجز مالي كبير منعها حتى من تمويل وارداتها من القمح والمواد الغذائية. سمحت سوريا مرة أخرى للملك حسين بالتوسط مع العراق، وأثمرت الوساطة الأردنية هذه المرة عن توافق على عقد لقاء قمة ثلاثي يجمع الرئيس حافظ الأسد والملك حسين والرئيس صدام حسين. حصل هذا اللقاء بعيداً عن الإعلام يوم 27 نيسان 1987، في قاعدة عسكرية في الصحراء شرق الأردن، وذلك بعد ساعات من عودة الرئيس حافظ الأسد من زيارته الشهيرة للاتحاد السوفياتي. لا معلومات دقيقة حول تفاصيل ما حصل في ذلك اللقاء. ولكن ما هو معروف هو أن طهران تراجعت ووافقت، في 30 نيسان 1987، على منح سوريا مليون طن من النفط مجاناً، بشكل سنوي. لم تقطع العلاقة بين دمشق وطهران، لكن بدا أن ملامح جديدة رسمت لهذه العلاقة، وأن هذه العلاقة ستستمر على أساس الندية والتعادل لا الهيمنة، حتى في حال ضعف أحد الطرفين.
اليوم أيضاً، لا تزال سوريا تملك خيارات كثيرة، برغم تراجع موقفها التكتيكي. وإن كانت إيران وسوريا تحالفتا في الماضي في وجه العراق وكان تقارب سوريا والعراق ضابطاً لطموحات إيران، فإيران وسوريا اليوم متحالفتان في وجه السعودية، والتقارب السوري ـ السعودي اليوم يبدو ممكناً أكثر من أي وقت مضى مع تزايد الشكوك الأميركية بجدوى الاستمرار في الحرب ضد الرئيس بشار الأسد ووسط تهديدات «داعش» بالتوجه إلى السعودية، ووسط التقارب الأمني السوري المصري، الذي لا يبدو أن السعودية تعترض عليه. وهنا تحديداً يبدو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مؤهلاً للعب دور الوساطة بين الخصوم الذي لعبه في السابق الملك حسين، خصوصاً أن مصر تحبذ أن تعزز السعودية وجودها في المنطقة، لأن هذا سيأتي على حساب تركيا الأردوغانية. وإن كان اعتراض إيران على التقارب السوري العراقي في الثمانينيات اعتراضاً مفهوماً، بسبب الحرب العراقية الإيرانية، إلا انه من المستبعد أن تعترض إيران، بصوت مرتفع، على تقارب سوري ـ سعودي محتمل ولا سيما أن المسؤولين الإيرانيين لا يزالون يطلقون تصريحات ودية تدعو السعودية لتعزيز التعاون المشترك معهم.
لا يقصد من الفقرة السابقة الإشارة إلى أن هناك خلافاً سورياً ـ إيرانياً مقبلاً، أو أن هناك تقارباً سورياً ـ سعودياً وشيكاً، بل إن المقصود هو شرح تعقيدات شبكات العلاقات في الشرق الأوسط وشرح التوازنات التي ما زالت تضمن ضبط إيقاع التحالف السوري ـ الإيراني. وهذه التوازنات، في جوهرها، هي ما تعتمد عليه سياسة طول النفس ولعبة الانتظار السورية. وهي السياسة التي ضمنت أن سوريا لن تكون «ورقة» في جيب أحد.
السفير
كم مرة تلدغ الثورة السورية من جحر واحد؟/ أسعد مصطفى
تجاوزت الثورة السورية كل الثورات في قدرتها على التضحية والتحدي، وتحقيق انتصارات مذهلة في مواجهة تحالف قوى كبرى مع النظام توهمت كسر إرادة الشعب السوري باعتماد الإبادة وانتهاك الحرمات والتهجير والتدمير. ومع فشلهم وخيبة حيلهم ولكسب الوقت لجأوا إلى مبادرات لم يوفروا غطاء لتطبيقها بسبب تعطيل مجلس الأمن، وعدم التزامه بمسؤولياته القانونية والأخلاقية.
دي ميستورا المبعوث الدولي الخامس يريد وقف القتال في حلب، قلعة الشمال، فيها أكبر التشكيلات العسكرية تماسكا والتزاما ولا يمكن إسقاطها، وهي متصلة مع تركيا التي فتحت قلبها ومرافقها للسوريين وأحاطتهم بحدب واحترام ما عرفوه في وطنهم الأم منذ أكثر من 40 عاما، وحجة المبعوث الدولي البدء من الأسفل بعد أن فشل المجتمع الدولي (أو لم يرد) المعالجة من الأعلى (تغيير النظام) يريد وقف القتال في حلب تمهيدا لوقفه في أماكن أخرى، وإقامة مناطق تدار لا مركزيا لم يفصح عنها، ومن ثم الحوار مع النظام، وبعدها تقاتل المعارضة وجيش النظام معا «داعش» الخطر الوحيد، أما جرائم النظام فهي قتل من نظام طائفي يتلحف بالعلمانية والتقدمية مسموح به.
الغوطة محاصرة وعصية منذ أكثر من عامين ودرعا وإدلب يتقدم رجالها، لا بأس أن يتفرغ النظام لتدميرها تمهيدا لوقف القتال فيها، وخوفا من أن يتصل أبطال الغوطة الذين يخترقون حصارهم من الداخل بثوار درعا وثوار القلمون وينهار النظام المفكك الذي يعيش أسوأ أيامه داخليا وهو يسوق شباب الطائفة إلى الموت دفاعا عنه، وخارجيا وقد رأى الحلفاء عمق مأزقهم معه، وبقية المناطق تترك للقصف والاعتقال كل يوم.
دي ميستورا الذي يتمثل وضوح مشروعه في إبهامه، ولم يتطرق لرأس النظام والجيش والأمن، يجب أن يسأل ما هو مشروعه السياسي للتغيير، وأفقه الزمني، ماذا عن مقررات جنيف 1 التي أقرها مجلس الأمن، ووافقت عليها مجموعة أصدقاء الشعب السوري، ولماذا لم يعاقب من دفن جنيف 2 بدل تقديم مبادرات جديدة تكافئه لأنه ثبت على إجرامه؟
بوغدانوف على التوازي يصرح من لبنان الذي يحج إليه دوريا بأن المطلوب الآن حوار سوري – سوري غير رسمي دون شروط مسبقة (على الطريقة الإسرائيلية). يقولون روسيا غيرت موقفها وبوغدانوف يكذب ذلك علنا.
النظام أفشل مهمة 4 مبعوثين دوليين وعرب حتى الآن بحوارات خادعة.
فاروق الشرع ممثل النظام قال عن المفاوضات بداية الثورة مع ما يسمى بمعارضة الداخل إن نجاحها 5 في المائة تجاوزا. النظام لا يعرف المفاوضات إلا لتمرير مرحلة وهو لا عهد له ولا ذمة وهذه عقيدته السياسية المخادعة التي رسخها مؤسس النظام الطاغية الأب.
بعد الدابي ومود وأنان والإبراهيمي ألا يجب أن نسال أنفسنا كم مرة يجب أن تلدغ الثورة السورية من جحر واحد.
هناك مجموعة من الحقائق لا يمكن القفز فوقها؛ أولاها أن الثورة السورية التي قدمت حتى الآن نصف مليون شهيد وأكثر منهم من المصابين والمفقودين والمعتقلين وأكثر من 14 مليون من المهجرين ووطنا دمر أكثر من نصفه لا يمكن أن تتوقف قبل تحرير سوريا من النظام المجرم ورغم محاولات الحصار والتفتيت، ولن يستطيع العالم كله أن يهزم الثورة السورية. وثانيها أن القبول بمشاريع جزئية والحوار مع النظام جعلا البعض من أنصار الثورة يعيدون حساباتهم، وثالثها ليس هناك عاقل في المعارضة يعتقد أن إدارة أوباما بخلاف رأي كبار مسؤوليها ورجالات الحزب الجمهوري وبالتناغم مع روسيا ستبادر بعمل جدي لإنهاء معاناة السوريين وتحقيق حريتهم ما لم تفرض الثورة واقعا يلزمهم بذلك. ورابعها أن القضاء على الإرهاب دون تغيير النظام سوف يخلق إرهابا أعتى لنظام أتقن استخدام هذه التنظيمات والكل يذكر «فتح الإسلام» وصاحبه شاكر العبسي في لبنان، وأن أي حلول تقفز فوق أهداف الثورة وتتجاهل ذوي الشهداء والجرحى والمغتصبات محكوم عليها بالزوال مع أصحابها.
إن البديل الموضوعي والملح يتمثل بدعم الثوار على الأرض وتوحيد التشكيلات المقاتلة لمحاربة النظام و«داعش»، وليس لأي هدف آخر، والتمسك بالمنطقة العازلة والآمنة التي تصر عليها تركيا، والتنسيق مع الدول الشقيقة والصديقة التي تقف مع الثورة منذ انطلاقتها لفرضها وهي مطلب الثورة منذ 3 سنوات، وإحياء فكرة عقد مؤتمر وطني نادت به شخصيات معارضة قبل جنيف 2، وأن يتولى الائتلاف الدعوة لعقد المؤتمر بمشاركة كافة مكونات المعارضة المدنية والعسكرية للاتفاق على مشروع وبرنامج واحد يتمسك به الجميع ويوحد المواقف التي ستفرض احترام العالم المفقود في مرحلة هي الأخطر حتى الآن.
لنتذكر دوما أن حلفاء النظام لم يسمحوا له بالتراجع خطوة واحدة عن مواقفه وجرائمه في ظل انتصارات الثورة التي هددت مواقعه على امتداد الأرض السورية فكيف له أن يوافق على الرحيل بعد توقيف القتال معه ومحاورته كشريك في ظل رعاية دولية، من يضمن من؟!
* معارض سوري
الشرق الأوسط
عن مأزق السياسة الروسية في سورية/ منير الخطيب
من الصعب أن ترث روسيا الدور السوفياتي في سورية، فتلك حقبة انتهت إلى الأبد، كما لن تنفعها مبادراتها الركيكة والتي فات أوانها في ما يتصل بإيجاد «حل سياسي» للقضية السورية، في إنقاذ ما تبقى من الرصيد الأخلاقي للسياسات السوفياتية السابقة في ضمائر السوريين. فذلك الرصيد أصبح هباءً منثوراً بفعل السلاح الروسي الذي فعل الأفاعيل بالسوريين وممتلكاتهم وأرزاقهم، وبفعل إجهاض روسيا أي مخرج سياسي للمأساة السورية، من دون أن ننسى تلطي السياسة الأوبامية المترددة والمرتبكة خلف ذاك الفجور الماكيافيلي في السياسة الروسية تجاه نكبة السوريين.
يتردد، أخيراً، أن روسيا ستقوم برعاية حوار سوري – سوري، يضم معارضين وشخصيات من النظام، بهدف الوصول إلى «حل سياسي». صحيح أن تزامن تآكل الروبل الحاد مع تآكل النظام السوري بفعل التعفن الناجم عن استنزافه المستمر هو وراء الاندفاعة الروسية الديبلوماسية الراهنة. لكن معضلات مستعصية ستواجه السياسة الروسية في سورية مستقبلاً، منها ما يتصل بالمنظور الروسي لمضمون «الحلول السياسية» في سورية المحكوم بالرؤية السلطوية البوتينية، بوصفها أكثر الرأسماليات ابتذالاً وتأخراً نتيجة ولادتها «مافيوياً» من عملية تفسخ النظام الشيوعي التي تماثلها عملية التفسخ البعثي. وذلك المنظور لا يكترث بمواضيع مثل الحرية وحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون، وبالتالي فـ «الحل السياسي»، وفقاً له، لا يغدو أكثر من مسألة توسيع لـ «الجبهة الوطنية التقدمية» القائمة، وتشكيل حكومة «وحدة وطنية». وهذا في كل الأحوال منظور متأخر عن إدراك حجم أو عمق التحول التاريخي الحاصل في سورية.
كما أن مداخل الحضور السوفياتي في سورية منتصف القرن الماضي، سواء تلك التي تعلقت ببناء الجيش السوري «العقائدي» وتسليحه، أو التي ارتبطت بالبعد «النضالي» للأيديولوجيا الشيوعية «الكدحانية»، وجذبت التيار القومي العربي الذي أمسك بالسلطة حديثاً حينذاك، وقادته إلى الانضواء في سياسة المحاور المفروضة بشروط الحرب الباردة، هي ذاتها المخارج التي ستخرج منها روسيا من سورية. لأن الخيار الوطني السوري يملي على السوريين، بداهة، تغيير بنية الجيش وإعادة هيكلته وطنياً، وتقليص التضخم المفرط في التسليح، وتجنب سياسة المحاور القائمة على حساب المصلحة الوطنية السورية، وذلك كله سيؤدي إلى تحجيم الحضور الروسي في سورية.
وعلى رغم انقسام السوريين مذهبياً وطائفياً وقومياً، واختلافهم سياسياً وفكرياً، وتمايزهم اجتماعياً وطبقياً، فإذا نظروا إلى روسيا بعين الانقسام الأول، سيكون هواهم ليس هوىً روسياً، لأن السلاح الروسي دمر مناطق الأكثرية السنّية. وإذا نظروا إليها بعين الاختلاف السياسي الفكري، فالإسلاميون والليبراليون والديموقراطيون والناشطون في الحراك المدني السلمي وقسم من اليساريين هواهم ليس هوىً روسياً أيضاً. وإذا نظروا بعين التمايز الطبقي الاجتماعي، فالسلاح والموقف الروسيان كانا موجّهين ضد الأغنياء والفقراء وضد سكان المدن والأرياف على حد سواء. لذا غدت روسيا دولة منبوذة بالنسبة إلى غالبية السوريين.
ومما يزيد من نبذها أن البوتينية، كنموذج سلطوي في الحكم، تنتمي إلى ماضي البشرية المرتبط بالاســـتغلال والتــسلط والاستبداد والتحكم المطلق، ولا يمكن أن يكون لها حضور مســتقبلي في ظل تحــولها إلى مصدر للنفور الكوني، بخـاصة أن ثورات «الربيع العربي» انتفضت في وجه نسخ كاريكاتورية عنها، وبوتين زعيم بمواصفات الزعماء العرب ولكن بشروط روسيا.
لهذا، فروسيا نموذج آفل، وهي لن تستطيع مواصلة كسر إرادات السوريين، وستدفعها عوامل التحول التاريخي الكبير التي حدثت في بلادنا إلى خارج المستقبل السوري.
* كاتب سوري
الحياة
مبادرتان سياسيتان.. بدلا من واحدة.. لحل الأزمة السورية!/ بكر صدقي
في الوقت الذي تواصل طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة غاراتها على مواقع تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في العراق وسوريا، يعمل كل من المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا ونائب وزير الخارجية الروسي بوغدانوف على مبادرتين سياسيتين لحل الأزمة في سوريا. ويعتمد اللاعبان الأممي والروسي، كل من جانبه، على صيغة «الغموض الخلاق» فلا يتسرب شيء من «المبادرتين» إلا بالقطارة. من المحتمل أن كلتا المبادرتين غير ناضجتين لتطرحا على أطراف الصراع للقبول أو الرفض، بقدر ما تتم بلورتهما بالتوافق مع تلك الأطراف. لكن منهجية كل منهما باتت معلنة ويمكن تلخيصها فيما يلي:
تقوم مبادرة دي مستورا على الانطلاق من الميداني إلى السياسي، ومن الجزئي إلى الكلي. هذا ما يعنيه «تجميد القتال» بدءاً من مدينة حلب، أو ما يعرف بـ»حلب أولاً». وهو ما يعني توافق النظام والمجموعات المعارضة المسلحة في مدينة حلب على وقف العمليات القتالية ليحتفظ كل طرف بمواقعه، وفتح ممرات لعمليات الإغاثة للمدنيين. بنجاح هذه المرحلة الأولى تنقل التجربة إلى مواقع أخرى فيها جبهات قتال بين الطرفين، وهما قوات النظام والميليشيات الأجنبية التي تقاتل إلى جانبه من جهة، وما يسمى بـ»المعارضة المعتدلة» من جهة ثانية. يتجنب دي ميستورا التطرق إلى موقع الميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية التي تقاتل في حلب إلى جانب النظام، كما لم يعلن عن القوى المشمولة بصفة «الاعتدال»، وإن كان مفهوماً وضع كل من تنظيم الدولة «داعش» وجبهة النصرة خارج المشاورات في إطار المبادرة.
هذه الإنجازات الجزئية على مستوى الميدان، إذا تم تحقيقها، باتت الطريق سالكة نحو الحل السياسي الشامل الذي سيجمع النظام والمعارضة في قوة واحدة لمحاربة داعش وأخواتها.
تنطلق المبادرة الروسية، في المقابل، من فوق إلى تحت، أي من «الحوار» بين النظام والمعارضة في موسكو ثم في دمشق، وصولاً إلى حل سياسي يتوافق عليه الطرفان في نوع من تقاسم السلطة بينهما. من المحتمل، هنا أيضاً، أن الحل السياسي ليس هدفاً بحد ذاته، بل مجرد وسيلة لإعادة التموضع لتشكيل جبهة موحدة ضد «التطرف».
ما يوحي بجدية موسكو هذه المرة بخلاف المناسبات السابقة، ومؤتمر جنيف 2 ضمناً، هو أن ممثل بوتين القوي بوغدانوف ذهب «بنفسه» إلى الائتلاف المعارض في اسطنبول ليطرح عليه الأفكار الروسية الجديدة، في حين أنها طالما تجاهلت هذا الإطار المعترف به دولياً، وفضلت التعامل مع معارضة قريبة منها و»معتدلة» في معارضتها للنظام الكيماوي في دمشق كهيئة التنسيق وتيار بناء الدولة ومجموعة قدري جميل والشيخ معاذ الخطيب.
ما الذي غيَّرَ من السياسة المتصلبة لموسكو في دفاعها عن النظام وجعلها تبذل جهوداً دبلوماسية بحثاً عن حل سياسي؟ يربط كثير من المراقبين بين هذا التغير وما انتهت إليه المفاوضات الدولية مع إيران بشأن مصير برنامجها النووي. فالتمديد الذي ترافق مع تصريحات متفائلة من الجانبين الأمريكي والإيراني أقلق موسكو بصورة جدية، وهي الحاضرة على طاولة المفاوضات والعارفة بدقائقها، من تقارب أمريكي – إيراني قد يرقى إلى مستوى التحالف ويترك موسكو خارج كل الحسابات في رسم مصائر الإقليم المضطرب الممتد من العراق إلى لبنان مروراً بسوريا، خاصةً وأن علاقة نظام دمشق الكيماوي بإيران تتجاوز في متانتها علاقته بموسكو بكثير. أضف إلى ذلك أن الإدارة الأمريكية تبدو بعيدة كل البعد عن البحث عن حلول سياسية للأزمة السورية، وتقتصر اهتماماتها على مواصلة الحرب على داعش في العراق وسوريا، وعلى ترتيب تحالفاتها مع الدول الاقليمية في خدمة هذه الحرب.
موسكو التي باتت تعيش عزلة دولية خانقة بسبب ضمها لشبه جزيرة القرم واستمرارها في تغذية الاضطرابات في شرق أوكرانيا، وآثار العقوبات الاقتصادية الغربية المطبقة بحقها التي بدأت تظهر بقوة، إلى جانب التكاليف الباهظة للحرب النفطية عليها من خلال خفض الأسعار، راحت تبحث عن مخارج أو مسكنات لأزمتها المتفاقمة. من ذلك زيارة بوتين الباذخة إلى أنقرة وما نتج عنها من اتفاقات اقتصادية طموحة. ومن ذلك حركتها الدبلوماسية النشيطة بحثاً عن شركاء سوريين من النظام والمعارضة على أمل تحقيق إنجاز دبلوماسي كبير لبوتين يعوّضه عن عزلته الدولية وتدهور حال الاقتصاد الروسي.
من جانبها، لا تبدو واشنطن على أي درجة من القلق أو الاستياء من تفرد موسكو بالمسألة السورية. من المحتمل أن إدارة أوباما تعرف محدودية تأثير القيادة الروسية على نظام دمشق الكيماوي، وتراهن على شريكها الإيراني الذي يتفرد بهذا التأثير. إضافة إلى أنها على دراية عميقة بمشكلات المعارضة السورية، سواء من حيث هزال تمثيلية الأطر السياسية جميعاً بما فيها الائتلاف، أو من حيث قوة المنظمات الإسلامية المتطرفة كداعش والنصرة مقابل تراجع وزن المجموعات المسلحة المعتدلة المحسوبة على الجيش الحر. من هذا الإدراك الواقعي لمفردات المشكلة السورية، تركت الإدارة الأمريكية المجال لموسكو لتلعب في الوقت الضائع بلا جدوى عملية، مع إمكان الاستفادة من المشاورات التمهيدية الجارية على خطي دي ميستورا وبوغدانوف معاً لإنضاج وضع قد تتلقفه واشنطن مستقبلاً لفرض تصورها الخاص للحل السياسي على الأطراف. وذلك من غير أي تلكؤ في حربها المتواصلة على داعش، تلك الحرب المديدة التي سترسم خطوط تحالفات جديدة عبر الإقليم وصولاً إلى خلق ستاتسيكو جديد لما بعد الحرب.
الإنضاج المشار إليه في الأسطر السابقة هو قياس مدى الإرهاق الذي أصاب السوريين من سنوات أربع من حرب مجنونة قتلت ربع مليون وشردت نصف السكان. طريقة استجابة الأطراف للمبادرتين الأممية والروسية ستشير إلى مدى الإرهاق الذي أصابها. ينطبق ذلك على كل من النظام والمعارضة. وبصورة أولية يمكننا أن نلاحظ التجاوب الإيجابي المعلن من الطرفين مع كل من المبادرتين، على رغم الشروط المتطرفة التي طرحاها. لم نعد نسمع ذلك الرفض المسبق الصاخب للمبادرات السياسية الذي كنا نسمعه كثيراً إزاء المبادرات السابقة، مع أن المبادرتين الجديدتين أكثر هزالاً من سوابقهما وأقل قابلية للتطبيق.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
اللواء دي ميستورا العلي..والرهان على الوقت/ مؤنس حامد
لم يحمل المبعوث الدولي ستفان دي ميستورا، جديداً في حقيبة حل الأزمة السورية، وعلى الأغلب، يستعيد دي ميستورا أوراق ضابط القصر الجمهوري اللواء سالم العلي، التي قدمها للرئيس بشار الأسد، قبل ثلاثة أعوام. ولا يفارقها سوى في موضوع الغطاء الدولي، وفي تثبيت مناطق السيطرة. كأن يكون الأمر سرقة أدبية، أو نقل بتصرّف.
ولعل العلي، المقرب من الأسد، حين قدم أولى تجاربه الناجحة في مدينة الهامة القريبة من دمشق، كان يدرك أن خطته ستخضع للترميم الدائم. وقد استعملت فيها الهامة، كفأر تجارب من أجل الوصول إلى وصفة الأسد السحرية في إستراتيجية إعادة السيطرة.
كانت قد بزغت الفكرة في ذهن العلي، ووافق عليها الأسد، وتبناها الإيرانيون في ما بعد، على أثر التراجع السريع لسلطة الأسد، وعدوى الثورة التي اجتاحت معظم المحافظات السورية بداية عام 2012. واعتمد فيها العلي على تحديد ثلاث مراحل رئيسية؛ الأولى تتمثل في تحويل مناطق المعارضة إلى جزر معزولة عبر عملية تقطيع أوصال وحصار عسكري، وتترافق مع إفراغ جزئي للسكان. والثانية تتلخص في عقد هدن منفردة مع قوى الأمر الواقع، بشرط تفريغ المناطق الثائرة من قوتها العسكرية الثقيلة. وفي المرحلة الثالثة يتم تنفيذ إعادة اجتياح لهذه المناطق.
ومن الجلي، أن فكرة تجزئة القوة المناوئة للأسد كانت الحامل الرئيس لهذه الخطة. وقد نفذت بالتزامن في جميع المناطق التي يعتبرها النظام ذات أولوية إستراتيجية لبقاء العاصمة دمشق تحت سلطته. فقد بدأت في مدن الحزام الغربي للعاصمة، ثم في برزة المشرفة نارياً على وسط دمشق، وبعدها في يبرود التي تعتبر عقدة منطقة القلمون ومركز حراسة طريق دمشق – حمص، وصولاً إلى مدينة حمص التي أعلن الإيرانيون بعد توقيع هدنتها ولادة مرحلة جديدة من عمر الثورة السورية.
ولعل رهان العلي، الذي أشرف شخصياً على جميع هذه الهدن، تركز على تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في جزر المعارضة المحاصرة، تلك الأزمات التي تزداد مع الوقت، وتعيد تشكيل المزاج العام لسكان المناطق المحاصرة، بحيث تجذب الهاربين من الفوضى إلى حضن الأسد مجدداً.
وعلى الأغلب فقد حافظ سالم العلي على مرونة كافية في خطة الحصار والهدن، بحيث يمكن أن تتماشى مع أية أهداف للنظام قد تطرأ مستقبلاً. وذلك على خلاف الخطة بنسختها الثانية مع دي ميستورا.
فالرجل يهمل عمداً مقدمات حصار النار والجوع التي دفعت سكان المناطق المحاصرة للقبول بهذه الهدن. لكنه يظهر دائماً أمام خريطة مدينة حلب التي يوشك النظام على إطباق الحصار عليها، وهو ظهور له دلالته التي لا بد من فهمها.
وإضافة إلى ذلك، قام بوضع سقف محدد لخطته، واقترح ضمان تثبيت هذا السقف بقرار دولي ملزم، حيث توقف عند منظومة الجزر المعزولة، بما فيها جزيرة المهاجرين حيث يقيم الأسد. خصوصاً وأن المجتمع الدولي غير شغوف بالقصص ذات النهايات المفتوحة، ويطلب دائماً الـ day after في أية ورقة عمل قد يقبل بقراءتها.
لكن، ما الذي سيدفع دي ميستورا للمطالبة بتقاعده المتأخر قبل إتمام وصفته السحرية؟ أو الخيالية كما يصفها بعض من يعرف الوقائع جيداً على الأرض السورية؟
يقول الرجل الهرم أن خطته حصلت على موافقات ضمنية من أطراف دولية كالولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا والإتحاد الأوربي وإيران. لكنه يتناسى أن الموافقات غير المعلنة لا تعني الموافقة الفعلية، وتنتظر قصة نجاح لتستطيع أن تقيم نتائجها، وأن تتخذ منها موقفاً، وهو ما لن يحدث مع دي ميستورا.
فالإدارة الأميركية غير مكترثة حتى الآن، ويبدو أنها لا ترى في سوريا سوى الجهاديين الذين وصفهم هنتنغتون بالخطر الأخضر، والحديث مع هؤلاء تعتبره أحد خطوطها الحمر. أما الروس فهم خائفون من فقدان نفوذهم في مستقبل الأزمة السورية بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، وبعد بدء أعمال التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد السلفية الجهادية.
ولعل اعتراض المرشد في طهران على وضع بيضه السوري، في سلة القرارات الدولية الملزمة، ليس أكبر العقبات التي تواجه دي ميستورا، بل تكمن العقبة الأكبر في انقطاع اتصاله مع الأتراك، بينما يدفعون إليه بأذرعهم في شمال سوريا، قيس الشيخ وأحرار الشام وجيش المجاهدين، ليضعوا أمامه شروطهم التعجيزية للموافقة على خطته. فالإخوان لا يفضلون أن يكونوا خارج لعبة السياسة، ويريدون أن يوحوا للجميع بأنهم طرف مرن، ويمكن الحديث معه دائماً، حتى وإن لم تكن هناك جدوى من هذا الحديث.
إذا ليست هناك موافقات جدية كما يقول دي ميستورا، لكنها المقدمة التي يبني عليها الرجل لتسويق خطته، ووضعها في سياق مقبول، وهو توحيد المعارضة والنظام في مواجهة داعش.
ويبدو أن حذق رجل السياسة المسنّ، قد جافاه هذه المرة. فالنصرة وداعش وحركة أحرار الشام، لاسيما بعد مقتل قادتها الخمسين، هي وجوه لنفس المشروع. ولا يعدو الاختلاف بينها أن يكون اختلافاً في توقيت زمن التمكين في فقه هذه الجماعات. وسرعان ما ستتحول جبهة النصرة إلى داعش، لتحل محلها حركة أحرار الشام على يسار داعش مؤقتاً قبل أن تتحول إلى داعش هي الأخرى. ومن المتعذر على هذه القوى أن تمثل الشركاء على الجانب الآخر من الطاولة.
والحال هذه، لا يجد الرجل من يتكلم معه في الشمال، ومن باب أولى في الشرق الداعشي أيضاً. وعلى دي ميستورا أن يفكر بإلقاء فكرة “حلب أولاً” في سلة المهملات، وأن يتجه سريعاً إلى مكان آخر. وعلى الأغلب لم يبق سوى الجنوب السوري، الذي استبق توجه المبادرة الأممية إلى بدائل جغرافية أخرى. وقد أعلن ثوار درعا رفضها منذ أيام. ومن المتوقع ألا يجد حامل المبادرة من يتحدث معه في الجنوب المشغول هذه الأيام بمبادرته الخاصة.
فمعاهدة الدفاع المشترك التي وقعتها تشكيلات المعارضة الوطنية في الجبهة الجنوبية، تبشر بولادة نواة موحدة للجيش الحر في الأيام المقبلة. ويرجح مقربون من الجبهة الجنوبية أن الخطوات المقبلة ستكون ثورة ثانية تنطلق من حوران أيضاً. وأن المبعوث الأممي لن يكون على جدول مواعيدها أبداً.
وفيما يشهد السوريون موت السياسة، وسقوط أشخاصها في مستنقع العجز. يتجه دي ميستورا إلى شراكة أشباح المعارضة السورية في الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق، في محاولة لسرقتهم من حضن بوغدانوف الجليدي ويراهن عليهم كشركاء محتملين، رغم عدم شرعيتهم في الأرض السورية.
ليس لدى دي ميستورا من يحادثه، وليس لديه قصة ناجحة أيضاً. ربما تصلح الجملة كعنوان لرواية يكتبها خالد خليفة يوماً ما عن مبعوث أممي يشارك الوهم فقط.
كاتب سوري
المدن
ثلاث عقبات سياسية وميدانية تعترض طريق دي ميستورا/ نائل حريري
من الواضح أن لدى المبعوث الأممي المشترك الخاص بسورية السيد ستيفان دي ميستورا ما يريد العمل عليه وما يريد قوله، ولم يقله بعد. وما زالت «مبادرة دي ميستورا» مجرد فرقعة إعلامية. أفكار تتطاير هنا وهناك بانتظار ردود الفعل عليها. في الجوار أيضاً ثمة مبادرة روسية ليست مبادرة، وبينهما خيط رفيع لا يمكن أن يعرف حتى تظهر المبادرات الحقيقية التي لا تزال طي الكتمان في الأروقة السياسية. تلك عناصر توحي بالجدية والرغبة في الخروج بشيء، إلا أنها لا تكفي للحكم عليها.
لكن أياً كانت تلك المبادرة التي يصنعها مبعوث الأمم المتحدة، فهي لا بد تستند إلى أسباب فشل المهمات السابقة، وتحاول تجاوزها. ولا يعني ذلك بالضرورة أن الفشل المزدوج السابق يعود إلى عجز كوفي أنان والأخضر الابراهيمي عن إنجاز مهمتيهما، بل هو أقرب إلى أن يكون مرتبطاً بالمهمتين ذاتيهما.
أمام دي ميستورا مهمة أولى وأساسية لإقناع المجتمع الدولي بأنه يحتاج مهمة مختلفة تماماً لتجاوز العقبات التي لا تزال ماثلة. وبغض النظر عن تفاصيل التهدئة المحلية و«تجميد النزاع»، تكمن العقبة الأولى والأكبر في ضمانات هذه التهدئة، وتفعيل قوة مراقبة تابعة للأمم المتحدة تشرف على الهدن والاتفاقات وتتأكد من تطبيقها. كان المبعوث الأسبق كوفي أنان قد حظي بترف امتلاك قوة مراقبة كهذه، إلا أن الظروف كانت أكثر ضبابية، وفشلت قوة المراقبة تلك في أن تحصي أطرافاً بعينها يمكن الاتفاق معها إذ لم يكن على الأرض سوى مجموعات متفرقة ومتنافرة. اليوم يبدو أن مهمة كهذه ستكون أسهل بكثير مع وجود قوى كبرى على الأرض قادرة على إنجاز اتفاقات أشمل وأوضح، كجيش الإسلام أو لواء التوحيد أو جيش المجاهدين، حتى في ظل حتمية استبعاد «جبهة النصرة» و «داعش» لأسباب تتعلق بتوجهات المجتمع الدولي فقط. لكن، استطراداً، علينا ألا ننسى أن «النصرة» و «داعش» لم يجدا حرجاً في إبرام صفقات تهدئة مع النظام السوري كذلك.
تتبدى العقبة الثانية في ضرورة مراقبة خطوط وقف إطلاق النار وتثبيتها، وهو أمر يختلف تماماً عن مراقبة إبرام الاتفاقات وصيانتها إلى آليات تنفيذها، مما يتجاوز الحاجة إلى مراقبين ذوي طبيعة مدنية إلى ضرورة وجود قوى حفظ سلام إضافية ذات طبيعة عسكرية. وهذا أيضاً رهن باقتناع المجتمع الدولي بمنح مهمة دي ميستورا هذه الصلاحية، أي الموافقة على وجود مثل هذه القوة باتفاق خماسي في مجلس الأمن.
لكن حتى مع تجاوز هاتين العقبتين، وإمكانية مراقبة وضمان إبرام اتفاقات التهدئة وصيانتها، ثمة احتمال كبير ألا تختلف هذه الاتفاقات عما يقوم به النظام من «مصالحات وطنية» يدعيها. إذ إن النظام حتى اللحظة لا يقابل أي عرض للهدن بالرفض، وأقصى ما يقوم به هو ليّ أذرع المفاوضين للوصول إلى شروط أكثر إجحافاً بحقهم. وعلينا الاعتراف أن كثيراً من «مصالحاته» لا تعاني مشاكل حقيقية في ضمان سير الاتفاق وتثبيت خطوط تماسه، بقدر ما تعاني مشكلة جمود حياة هذه المناطق وتحويلها مجرد مناطق «مستسلمة» لا تحظى بحياة طبيعية، ومساحة من حرية الحركة والإدارة تؤدي إلى سلام حقيقي وعدالة انتقالية لاحقة.
هنا تبرز ضرورة مراقبة المناطق الهادئة بعيداً عن خطوط تماسها، بمعنى المناطق التي يسيطر عليها النظام والمناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة والتي قد يستمر التضييق فيها وتتضاعف الممارسات القمعية ضمنها بما يحتّم الانفجار اللاحق وفشل أي محاولات للتهدئة، بل ربما عاد الوضع إلى أسوأ مما كان عليه سابقاً. ثمة مثال حي وواضح يمثله معبر بستان القصر في حلب، والذي بقي مفتوحاً أشهراً طويلة في إطار اتفاق ضمني غير موثق، في شكل لم ينتج عنه سوى مزيد من الاستقطاب على كلا الجانبين أدى إلى مزيد من الاختناق والتوتر بعد إغلاقه.
لا يمكن إيجاد حل رقابي تنفيذي ملزم لهذه العقبة إلا عبر حل سياسي أوسع يتضمن حكومة وحدة وطنية في المركز وإدارات محلية مستقلة في المحيط. وهو أمر لا تستطيع مهمة دي ميستورا إنجازه إلا بعد سلسلة طويلة من العمل على حلقات أخرى مضنية. إلا أن ثمة حلاً غير تنفيذي وغير ملزم قد يفيد في ممارسة الضغط على كلا الجبهتين لتوفير ظروف أكثر ملاءمة لعملية السلام الجارية، ألا وهو دخول لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة إلى الأراضي السورية. صحيح أن هذه اللجنة لا تملك أي صلاحية تنفيذية، إلا أنها كفيلة بتحريك المياه الراكدة التي تخص الوضع الإنساني والأمني وأوضاع الحريات في تلك المناطق التي أصبحت خاضعة للتهدئة، مما يشكل ضغطاً على تلك الأطراف لتبييض صورتها السياسية والإعلامية، والتأكيد على أنها حقاً «تريد السلام»، بدلاً من ممارساتها اليومية التي تقوم بها في الظلام من تنكيل وهيمنة واعتقال وتعذيب وحجز للحريات، من دون وجود جهة قادرة على إظهار ما يحدث حقاً. ومن المؤسف أن لجنة تشكلت بموافقة المجتمع الدولي غير قادرة على الدخول إلى الأراضي السورية بسبب تعنت النظام ورفضه التعاون مع جهة تابعة للأمم المتحدة، ولو كانـت مستقلة وغير تنفيذية.
تلك العقبات الثلاث كفيلة بهدم المهمة من الداخل قبل الحديث عما يحيط بها من ظروف خارجية. وإذا كان دي ميستورا جدياً وراغباً في إنجاز حقيقي يكسر عطالة الأزمة السورية، فمن الضروري أن يحظى بمهمة قادرة على الفعل، قبل النقاش في تفاصيل الفعل ذاته.
* كاتب سوري
الحياة