رستم محمودصفحات الناس

مباراة الجزائر من باريس ثلاث صور عن حيوات شقية/ رستم محمود

 

(إلى ديانا إسماعيل…سنرجع يوماً)

مقهى صغير في وسط باريس، يضم قرابة خمسين متفرجاً على مباراة الجزائر وألمانيا، في الدور الثاني من مونديال كأس العالم. متفرجون فرنسيون وألمان وسوريون وجزائريون. جدالات وأجواء حامية، ثرثرات وأنصاف أحاديث حول السياسة والثقافة والمجتمعات والماضي، كلها متمركزة حول كرة القدم وذكرياتها.

من صور ذلك المكان الصغير:

ـ1ـ

شابة ألمانيا في أوائل الثلاثينات من عمرها، تتحدث العربية بلهجة مصرية، فهي تعد رسالة دكتورا حول «التعليم والدروس الخصوصية» في مصر، وعاشت هناك أكثر من عامين، جالسة بهدوء مع صديقها المصري «القبطي»، القادم بدوره منذ فترة وجيزة من مصر، ويعيش حالياً في المانيا. الشابة الألمانية لا تظهر تقريباً مشاعرها المؤيدة لمنتخبها «الوطني»، لا يصدر عنها انفعال حسي أو جسدي مبالغ فيه، توزع الابتسامات بهدوء على الحاضرين، وتصحح لهم معلوماتهم المغلوطة عن المنتخب الألماني، تغرق في الضحك كلما لفظ المعلق اسم اللاعب «شفاينستايغر» وحين يسألها أحدهم عن سبب هذا الضحك، ترد بأن الاسم يعني بالألمانية «قائد الخنازير» وهي تتخيل الفريق الألماني مجموعة من الخنازير السمينة، واللطيفة، حينما يلفظ المعلق اسم هذا اللاعب.

صديقها المصري على عكسها تماما، يبالغ تماما في انفعالاته الجسدية والحسية تجاه المباراة، يُظهر حجما ضخما من «الحُب والولاء» للمنتخب الألماني، يكاد أن يقول بين الفينة والأخرى «نحن» قاصداً الألمان، وهو الذي لم يمضِ على عيشه في بلاد الألمان سوى شهور قليلة. أكثر ما كان يثير بال المتفرج المصري و»سخريته» كانت هيئة حارس المنتخب الجزائري، ذكر الجالسين أكثر من عشر مرات بأن هذا الحارس سلفي، أنه ينتمي لداعش وأنه إرهابي. وكلما عبر أحد الحاضرين عن إعجابه بأداء هذا الحارس، فإن الشاب المصري كان يقلب شفته السفلى كتعبير عن الامتعاض. لم يكن يتوقف عن التذكير بأن اللاعبين صائمون من دون شك، وأن الجزائريين محافظون ومتعصبون. ما كان المنتخب والأداء الجزائري ما لا يطيقه الشاب المصري وحسب، بل الجزائر والجزائريين بذاتهم. تقريباً لم يكن يشاهد مباراة لكرة القدم، بل مبارزة سياسية-دينية.

ـ 2 ـ

لاجئان سوريان يتبادلان أطراف الحديث أثناء المباراة، أحدهم كان قادما من ألمانيا لزيارة أخيه في باريس، يذكر جليسه بأنه لا يطيق كرة القدم بتاتا، لكن الألمان استقبلوني ومنحوني احتراما فائقا، لذا ليس لي إلا أن اشجع منتخبهم الوطني. ويبدأ بالتفاعل مع الفريق الألماني باطراد كلما دخلت المباراة لحظاتها الحاسمة. خصوصاً حينما كان يتبادل أطراف الحديث باللغة الألمانية مع الضيفة الألمانية.

كلما كان يزداد تفاعله، كانت البسمات تعلو محيا جليسه السور (اللاجئ أيضاً في فرنسا) قائلاً: «لك والله معك حق، لمونا وسترونا هالأجانب، والله بينحبوا من القلب يا خايّ، أنا من شوي كنت بشجع الفريق الفرنسي، رغم أنو بحياتي ما كنت بحب غير الفريق الأرجنتيني، بس بعدما عشت هون سنتين، وما لقيت غير كل الاحترام هون بفرنسا، مافيني غير شجع الفريق الفرنسي».

يرد السوري الآخر:«لك كلو ماشي، بس الأهم أنو ما نشجع الجزائر، هدول فظيعين، عم بيأيدوا النظام، وفظيعين مع اللاجئين السوريين بالجزائر!».

يتبادل الضيفان أحاديث حول المسؤول المباشر عن هذه العلاقة القلقة بين الجزائر وثورة الشعب السوري، الشعب أم النظام…الخ. تتصاعد أحداث المباراة، الفرنسيون يتحدثون بهدوء عما يجري، ويتمنون بصمت فوز ألمانيا، حتى لا تتواجه فرنسا مع الجزائر في نصف النهائي، كي لا تغرق المدن الفرنسية في أعمال عنف بعيد تلك المباراة، أيا كانت النتيجة. الجزائريون يزدادون صخباً لتحسن أداء منتخبهم، ولنجومية حارسهم. الألمان يزيدون من شرب البيرة، وترديد أغانيهم الرياضية الشعبية الكثيرة، أناس عابرون يقفون للحظة لمعرفة النتيجة، وما يلبثوا إلى أن يتحولوا لمتفرجين دائمين مع باقي الجالسين.، بائع الورد يضع بضاعته جانبا ويتحول الى متابع عازف الكمان الشهير كذلك…الخ.

أما الجليسان السوريان، وكما كل مرة، ما أن تبدأ أحاديث السوريين عن أي شيء كان، حتى تنتقل لمقارنتها بنظيرتها في البلاد، ثم تغرق الرواية في السرد عن البلاد وتفاصيلها، البلاد التي كانت.

ـ 3 ـ

قبل المباراة بساعات كثيرة، تدفق آلاف الشباب الجزائري من ضواحي المدينة. شباب في العقد الثاني أو الثالث من العمر، عبر ملابسهم الصيفية تظهر العشرات من الرموز المنقوشة على أجسادهم، رموز دينية و«وطنية« جزائرية. أغلبهم لم يعش في الجزائر قط، وكثيرهم ينتمي للجيل الرابع من المهاجرين، لا يتقنون العربية، ولا يعرفون عن الجزائر سوى المنتخب الوطني، وبعض مغني الراب المحليين. لكن بالرغم من كل ذلك، فأنهم يصدرون سيل من المشاعر الجياشة تجاه المباراة، التي سوف تجري، وكأنها سوف تحدد مصائرهم.

أكثر ما يلفت الانتباه في الحراك الجماعي للمشجعين الجزائريين في باريس، أمران متشابكان. فجميع المشجعين، هم وذكور وحسب، على عكس معظم مشجعي الجاليات الأخرى الكثيرة. هذه «الذكورة» الفائضة ليست مجرد هوية في جندر المشجعين فقط. فهي أيضاً طبيعة في سلوك التشجيع، الكثير الكثير من الصراخ بلا داع. استعراض للجمهرة وبالاجساد شبه العارية، نظرات قاسية للعابرين، خصوصا لمشجعي الفريق المقابل.

الأمر الآخر في «سيمياء» المشجعين الجزائريين، القادمين من الضواحي الباريسية القصية، هو محاولتهم «احتلال» أماكن مركزية وحيوية في المدينة، ولو للحظات. يعبرون ببطء إشارة المرور، يظهرون للسائقين حضورهم وقدرتهم على إيقاف السيّر. يتقصدون الوقوف في الزوايا المزدحمة، ووسط تجمعات المشجعين في الساحات العامة.

في خبيئة وعي هؤلاء المشجعين الجزائريين، تعبير عن القدوم من الأطراف المهمشة اجتماعياً وسياسياً، والمهشمة اقتصادياً وتعليمياً، نحو مركز المدينة الأكثر حيوية وحضوراً. تلك الأحياء وسكانها المغتربون عن المتن «الوطني» تماما، لم يعرفوا سوى نجوم الرياضة والموسيقى كتعبيرات حديثة عن مشاركتهم الفقيرة في هذا المتن.

الشيء الآخر في بيان هؤلاء، كامن بتوقهم في البحث عن توازن ما في هويتهم. فهم جزائريون لم يعيشوا أو ربما لم يزوروا الجزائر قط، فرنسيون محيدون ومنبوذون من الحياة الوطنية، عرب لا يتكلمون العربية، مسلمون لا يستطيعون التماهي مع الهوية «التقليدية» للمسلمين، أبناء مدينة عريقة وبالغة المدنية، لكنهم أفقر سكانها وأسوأهم تعليماً وانتاجا. كل ذلك يحول حملهم للعلم الجزائري من مجرد سلوك لمشجعي كرة القدم، إلى سبيل لتحقيق معنى كامل في رمزية جماعية ما، ولو لبضع ساعات كل عام.

خرجت الجزائر من البطولة بعيد المباراة، طوى الجميع العلم الجزائري، وعادوا خفافا نحو أحيائهم الطرفية الكثيرة، المليئة بآلاف عناصر حفظ الأمن المدججين. عادوا ويماهم شعور الطفل الحزين الذي فقد والدته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى