“مترو حلب”.. ألفة الأمكنة وذعر المنافي/ هيثم حسين
ما يمكن توصيفه بخلل المنافي هو ما يحرك بطلات الروائية السورية مها حسن في روايتها الجديدة “مترو حلب” التي تتأرجح فيها بين باريس وحلب، وتنتقل بأحلام شخصياتها وحياتها بين المكانين في وقت واحد، يكون للصحو زمنه عندها، وللنوم زمنه، وكأن الشخصيات تنسلخ عن منافيها في النوم لتستعيد بهجة حضورها في حلب التي تظل مرادها الدائم.
تنسج مها، المقيمة في فرنسا، روايتها (التنوير، بيروت 2016) وفق حبكة قوامها الأحلام والكوابيس واليوميات والرسائل، تتأسس على تفاصيل الحياة السورية الراهنة التي يتقاطع فيها التشرد والاغتراب والتشتت والنفي واللجوء والانتظار.
سارة بطلة الرواية تجد نفسها في مهب تغييرات عاصفة تجتاح حياتها، لا بسبب الحرب المستعرة في مدينتها حلب فقط، بل بتأثير حروب عائلية خفية سابقة يتوجب عليها دفع ضريبتها، والمساهمة بقسطها الواعي فيها، بعد أن كانت ضحية تلك الحروب والتوترات.
معابر للوطن:
تسعى صاحبة “حبل سري” المولودة في حلب عام 1966 للتعبير عن مختلف وجهات نظر السوريين بعد مرور أكثر من خمس سنوات على انطلاق الثورة السورية، وحالة الاحتراب التي ازدادت استعارا وتدميرا للمدن وتشريدا لأهلها، وكيف انتشرت على هامش الثورة ظواهر سلبية أفرزت حالات متباينة من الاستغلال والمتاجرة بتضحيات الشهداء والثوار ومآسي الناس.
تتفاجأ سارة بطلب والديها منها ضرورة تلبية رغبة خالتها “أمينة” التي لم تسمع بها من قبل، والمريضة بالسرطان، للسفر إليها في باريس. تتكشف خيوط الحبكة رويدا رويدا، يتسارع إيقاع السرد وتكثر الأحداث وتتشابك، تسعى سارة إلى تفريغ أحاديث أمينة التي سجلتها على أشرطة من أجلها تحكي فيها حكايتها وتعترف بكثير من التفاصيل، تصدمها باعترافها أنها أمها الحقيقية وليست خالتها، وأن أمها المفترضة هدهد هي خالتها، وهي التي تقمصت دورها وشخصيتها بعد هروبها من زوجها وأمومتها وأسرتها، وضحت بكل شيء من أجل فنها وشغفها، وتوجهت صوب المنفى الاختياري.
بعد تعرف سارة إلى التفاصيل والأسرار تسعى لخوض مغامرة العودة إلى حلب، تقرر مرافقة صحفي فرنسي ينوي دخول سوريا، وتكون فرصة لها للتخلص من أعباء أحلامها وكوابيسها، والتصالح مع عالمها، والرجوع إلى مدينتها الأثيرة، حيث تعيش شخصيات الرواية هوسا لا يرتوي وتعلقا لافتا بها. مترو باريس يكاد يكون في خيال الراوية وأحلامها عابرا لأحياء حلب وضواحيها.
هناك شخصيات رجالية تكون متحركة في ظلال النساء، منقادة لطيشها وجنونها تارة، ومتحكمة بمصائرها بغرابة وجنون تارة أخرى. من تلك الشخصيات وليد وعادل وكلاهما فقد حبيبته ووجد نفسه أمام خيار القبول بالأمر الواقع، وهناك طارق الثوري اللاجئ في باريس الذي يكون سندا لسارة، كما أن هناك ماتيو الفرنسي الذي يحاول الانتقام من النساء في شخص أمينة، لأنه رأى فيها صورة أمه التي تركته وهو صغير وهاجرت بعيداً عنه.
وفاء للأم الراحلة
في تصريح خاص للجزيرة نت تذكر الروائية مها حسن أنها أثناء كتابة روايتها التي أهدتها لأمها – التي تجهل سبب إطلاق اسمها “أمينة” على إحدى الشخصيات الأساسية في الرواية – فجعت بموت أمها.
وتشير إلى أنها منذ لحظة الإهداء، كانت تستبق موت أمها، فتقدّم لها شيئا ما من عالمها الذي تحب، برهان ولاء وانتماء، لا لها فقط، بوصفها أما ومعلمة لها في السرد، بل ولحلب التي تشبثت بها أمها، ورفضت أن تغادرها، مفضلة الموت تحت القصف، بدلا من ترف المنفى. تقول حسن بأسى: “كانت أمي تخاف من المنفى، تخاف من التشريد والضياع. لهذا ماتت أمي”.
تؤكد صاحبة “طبول الحب” أنها كانت تكتب هذه الرواية والجبهات مشتعلة في حلب، حيث كل طفولتها وصباها وبيت أهلها وحارتها وأمها.. وأنه كان عليها أيضا التحرر من الرواية، لتتفرغ لأمها، لتحاول إخراجها من جبهة الحرب في حلب. خاصة بعد سقوط بيتها، وتشير إلى أنها صارت تلهث صوب مسؤولياتها الكثيفة.
تتحدث مها عن ألفة الأمكنة، وتشبه المنفى بالتأرجح بين الوجود واللاوجود، كما تصفه بأنه كائن افتراضي، غير مكتمل.. وتقول إنها تحب أن تشرح هذه النقطة، تدعوها بينها وبين نفسها بخط السير. لهذا اشتغلت على تفصيل المنفى الجديد على السوريين، هذا المنفى الكبير، حيث يكاد يكون وطنا بديلا، بشروط مختلفة عن الوطن في الأرض الأولى، عن الأرض البديلة.
تتحدث مها عن المصادفات بين الرواية والحياة، وتتساءل ما إن كانت في اللحظة التي أنهت فيها حياة هدهد في الرواية، كانت نهاية أمها تُكتب هناك. وتقول إن لهذه الرواية مكانة غامضة في داخلها، مكانة تنوس بين الحب والخوف، بين شعورها بأنها قدمت لأمها شيئا ما، وشعورها بأنها أنهت حياتها بطريقة ما، وهي تتخلص من الرواية، وتقتل أم ساره، بل كأنها تنقذ أمها أيضا من ذعر المنفى، الذي كان سيكون عبئا عليها إن عاشته.
تراها تتساءل أيضا “هل تقتل الرواية الأبطال الحقيقيين في الحياة، لتخلدهم على الورق أحيانا؟”. وتؤكد أن هذا ما تشتغل عليه الآن.
الجزيرة نت