صفحات العالم

متى تسمح إسرائيل بإطاحة النظام؟


مطاع صفدي

بعد أن شارك بشار الأسد وزوجته في عملية الاستفتاء علس دستور، تلفظ بما يشبه الحكمة، معلقاً على مصير معركته مع الثورة والثوار، أقرّ أولاً بأن إعلامهم يتفوق في الفضاء على إعلامه، لكنه هو أو هم يتفوقون على الأرض، وقريباً سيمتلكون الفضاء والواقع معاً. فالرجل يعتقد أنه أصبح قائداً عسكرياً مصمماً على ربح معركته ضد أعدائه، لكن هؤلاء الأعداد إنما يحاربونه بالألفاظ، وهو يرد بالوقائع. ذلك المرض اسمه البارانويا في الطب النفسي، إنه المرض الذي يعكس الواقع بالوهم. فما دام تفوق هذا الرئيس بأسلحة القمع وحدها، فهو القادر على ارتكاب ما شاء له من جرائم الإبادة الجماعية لمعظم الشعب المنتفض إن استطاع، ذلك أن الطاغية يعتقد أنه ما دام متملكاً من آلة القمع فله مطلق الحرية في استخدامها إلى حدودها القصوى، ليس ثمة صلة ما بين إرادة القتل وأية منظومة من القيم أو الأهداف العامة سوى أن الممعن في الجريمة يغدو أسيراً لمنطقها، لا خلاصَ له من مسؤوليتها إلا في إيهامه لذاته بإمكانه القضاء على الشعب الضحية، قبل أن يقضي هو عليه.

أعجب الأمور أن الرئيس المهدد بالزوال بين صدفة سياسية أو ثورية وأخرى، يخطط عبر دستوره ليحكم سورية حتى عام 2028، وما بعدها بفضل تعديل جديد للدستور، وما بعد هذا البعد، متنازلاً أو مورِّثاً لأحد أبنائه، فالعائلة الأسدية أبدية بثلاثة أجيال وما يليها إلى مستقبل سورية كله. ولكن ما الذي يجعل الأسد واثقاً بوهم الأبدية هذه، إلى حد الهلوسة المرضية. فهو الرئيس الذي لم يتبق له من رصيد سوى قدرته على التعايش مع قتلاه ليلاً نهاراً، هل لا يزال مؤمناً بنصيحة والده المركزية أنه لا صديق للسلطة الأحادية إلا سيفُها، مشرّعاً من غِمْده دائماً، يقطر دماً لا يجف من نصْله، ويتقاطر أرواحاً ذبيحة، لا يشفع لها أحد إلا ويأتي دوره بعدها.

ليست الدولة الإرهابية إختراعاً عربياً يُنمذِج شكلَ التسلّط الديكتاتوري الحديث. فالتاريخ السياسي العالمي يعج بأمثالها المرعبة. لكن الجديد في النموذج العربي أن دولته الإرهابية لم تأت ظرفاً طارئاً في قصة التطور السياسي لهذه الأمة أو سواها، وخاصة في سياق الحداثة الغربية… هذه الحداثة التي لم تنتج حضارتها إلا بعد أن وضعت حداً لسلطان المقدس الغيبي، مثلث الرؤوس بالبابوية (المؤسسة الدينية) في قمة الهرم السلطوي، ويتبعها الحكم المطلق (الملكية الوراثية)، وتتبعها تحتها طبقة من النبلاء (الإقطاع الاقتصادي الاجتماعي والإداري). أما الدولة الإرهابية العربية، فقد ولدت كنقيض مُخْتَطِفٍ لعصر الحداثة، من لحظته التأسيسية، عبر النقلة النوعية الحاسمة من نهضة ثقافية تبشيرية في ظل استعمار تركي، ثم غربي أوروبي، إلى نهضة سياسية في مرحلة اكتساب الأمة لعشرين دولة مستقلة. ذلك الحدث الموصوف أنطولوجياً، فهو الذي كان من المفترض أن يعيد الحرية العامة إلى الأمة العربية بعد افتقادها ألف سنة وأكثر.

السؤال البنيوي في فجر الوعي المدني المتصاعد راهنياً شعبياً ونخبوياً معاً، هو سؤال ذو صفحتين؛ الأولى متجهة نحو الماضي غير البعيد، والآخر نحو المستقبل المصنوع من وقائع الحاضر الصاخب، ويمكن صياغته كما يلي: إلى أي مدى يمكن لفكر التفاؤل العقلاني الثقةُ بقدرة الثورة الربيعية على إحداث القطيعة الموصوفة بالثقافية والاجتماعية مع واقع الدولة الإرهابية المستمرة منذ عقود على الأقل، والشروع في استعادة صيغة عصرية للمجتمع المدني كقاعدة لدولة المواطنة الحرة العادلة، تلك الصيغة التي كان الاستقلال السياسي شرطاً لنشوئها، ووعداً مستقبلياً بنموها وازدهارها. لكن كيف الاطمئنان لهذا الغد المنتظر دون ذاكرة الأمس المظلم. ما الضمانة حقاً الاّ تتكرّر ظاهرةُ العدوان، أجنبيةً أو أهلوية أو هما معاً غالباً، على الاستقلال الوطني، كما كان الأمر حتى الأمس القريب؛ ثم على ثورة الحرية والكرامة اليوم وغداً. ما يُعبر عنه فلسفياً بالظاهرة الحقيقية، وطمْسها بظاهرة الشِبْه الزائفة.

أولم يخضع تاريخ نهضة الاستقلال في مجمل أحداثه الفاصلة الكبرى لجدلية الأصل والشبه، وكثيراً ما انتصر الأشباه على الاصلاء، كبشر وأحداث ومؤسسات، وكثيراً ما كانت (الوطنيات) هي البضائع الأسهل، المسروقة من شعوبها الغافلة أو المغفَّلة غالباً؛ لقد عانت النهضة العربية المغدورة، عبر فعالياتها الثلاث الرئيسية، في السياسة والاقتصاد والثقافة، أخطر التمارين المشؤومة المتناسلة من بعضها، من صولات وجولات عاتية لجدلية الأصل والشبه، بحيث كانت الغلبة غالباً لهذا الحد الثاني على غريمه الأول، الحقيقي ولكنه الأضعف وإن مرحلياً.

الربيع العربي ليس ثورة منقطعة الجذور، إنه الرد التاريخي على عصر الانحطاط العربي المعاصر الذي كان هو المحصلة الموضوعية لسقوط ثورة الوحدة القومية التي كانت بدورها هي الرد على محاولة عودة الاستعمار بالغزو الصهيوني الاستيطاني، بعْد وخلالَ تحققِ الاستقلالات الوطنية، ونشأة الكيانات الدولاتية الحديثة بدءاً من جغرافية المشرق المُقسَّمة مسبقاً؛ فاستقلال أقطار المشرق بعد جلاء احتلالات الاستعمار الأوربي، أطلق سراح الجماهير العربية للمرة الأولى منذ عشرة قرون، كانوا قضوها في ظلمة التبعيات الأجنبية معطوفة على استفحال عوامل الانحلال الذاتية. فقد فهمت الجماهير آنذاك أن تحررها السياسي سيظلّ مشروطاً باستكمال الاستقلال الوطني، لأنه هو المدخل التاريخي نحو الاستقلال القومي، لكن الغرب كان هو الأسرع في إدراك هذه الحقيقة والمبادرة الذكية إلى سياسة تأبيد مستقبلي لخارطة سايكس-بيكو، فكان اختراع (الدفرسوار) الإسرائيلي، كاختراق عضوي مسموم يشق جسد الوطن العربي في خاصرته، هكذا ولدت العقبة الكأداء العظمى في نقطة المركز من كل مسارات النهضة الموعودة، لكي تنقلب إلى أضدادها، لكي تتكسّر أحلامُ الأجيال الصاعدة على بعضها، لكي ينشغل العرب بحروب أو تناقضات دولهم الكرتونية فيما بينها، بحيث يتم اختراعُ أنظمة الاستعمار الداخلي كوكيل أو رديف لاستعمار (المتربول) الشمالي، ثم يكون على هذه الأنظمة أن تُفرّخ الحرب الأهلية بأشكالها المختلفة، من طبقية إلى طائفية، إلى المذهبية الراهنية، وأخيراً يتم نسيان أو تناسي العدو الإقليمي المركزي، وصنوه الدولي الأكبر.

كأن ستين عاماً من مآثر النهضة المغدورة تستحضر دروسها الماضية من خلال ثورات الربيع العربي، وعليها أن تكافح التلوّث بالأيدي القذرة المتكالبة على تشويه براءتها، على طمس معالمها. وتحريف أهدافها العفوية المباشرة، حتى في أعين بعض طلائعها، النابعة منها أو المفروضة عليها أو الفاعلة من وراء ظهرها.

ثورات الربيع العربي هي جماهيرية، منبعثة ذاتياً من دون قيادات حزبية أو فردية؛ من هنا يأتي امتيازُها الأصلي، كونها من تدبير التاريخ وحده، ليس ميتافيزيقياً أو تجريدياً، ولكن بقدر ما يُراكم المجتمع من ظروفه الموضوعية السلبية الدافعة لانفجار الاحتجاجات الجماعية. لكن هذا الامتياز يشكو من علة فقدان القيادة المؤسسة، إذ يظل ظهر الثورة مكشوفاً ليقفز فوقه كلُّ من هبّ ودبّ. ليس من قبل الأفراد الأدعياء، أو الأحزاب القديمة الفاقدة لفعاليتها السياسية، ولقواعدها الشعبية فحسب، بل يُغري الحدثُ التاريخي الجماهيري الكبير القوى الدوليةَ اللاعبةَ في المنطقة، باختطاف ما أمكنها من حصص الاحتياز على الحدث، وارتهانه واحتكاره لمصالحها الجيواستراتيجية، ضداً على منافسيها. ولقد كانت سورية هي قاطرة المنعطفات الفاصلة في صيرورة النهضة الاستقلالية، فكرياً وأيديولوجياً، والمؤثرة في متغيرات مسيرتها المحورية، سياسياً وحدثياً. يكفي التذكير فقط بالبعض من علامات التقاطع المفصلية بين (صيرورة) التاريخ النهضوي الفكرية و(مسيرته) الحَدَثية، تلك التي لعبت سورية خلالها أدواراً ريادية في توجهات المصير القومي لذاتها وغالبية أشكالها، سواء كانت وجهتها هذه مجْلبة لتقدم حقيقي أو لأشباهه، أو أضداده المرتدّة.

افتتحت سورية مسلسل حركات التحرر العربي الحديث، كانت الطاردةَ الأولى للاستعمار الغربي، مُفْسحةً المجال لاستقلال ، توأمِها المجتمعي والثقافي المباشر، فكرّت سبحة الجلاءات العسكرية الأجنبية عن معظم أقطار العرب التي أصبحت دولاً متمتعة بالسيادة الدستورية، متفاوتة من واحدة إلى الأخرى. سورية كانت الناهضة بالحركة الاستقلالية العربية إلى مستوى الثقافة القومية التي بدورها شكّلت واحدة من طلائع حركات التحرر العالمية، هذا المصطلح التاريخي العظيم الذي كان له أن يسهم في الإجهاز على خارطة الاستعمار الغربي القديم في القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. وكان له أن يؤسس وينشئ مصطلح العالم الثالث ضداً على الحرب الباردة، والمقسِّمة لعالم النصف الثاني من القرن العشرين إلى معسكريْه الشرقي الشيوعي، والرأسمالي الغربي، ويُقِرّ المؤرخون المنصفون أنه لولا الصراعات الجانبية التي وفرتها ساحات العالم الثالث، في تنفيس احتقانات الحرب الباردة وأزماتها الرتيبة، كان يمكن لإنسانية القرن العشرين أن تسعى إلى حتفها بظِلْفها، وتضع نهاية المعمورة ومن عليها.

ثمّ كان على الغرب المنتصر على شيوعية الاتحاد السوفيتي من دون عناء أن يرث مستقبل العالم الثالث، أنْ يحتكر خيراته، بإزاحة حركات تحرره، بعزل جماهيره الصاعدة عن قمم القرارات المصيرية الكبرى لنهضاتها المنتظرة. لكن كان تحرر الوطن العربي في مطلع فتوته عندما فُرض عليه الصراع مع إسرائيل، كأعلى حاكم لسياسة أقطاره المتحركة وفي طليعتها سورية، كعاصمة مركزية لقيادة هذا الصراع. تحمّلت منه أثقل أعبائه العسكرية والسياسية والإنسانية، إلى حين شاركتها مصر العربية مسؤوليةَ الوعي الجذري بضرورة التعبئة النهضوية الشاملة لإمكانيات الأمة وراء وحدة الهدف في التحرر المتكامل، وذلك في إطار دولة ‘الجمهورية العربية المتحدة’.. إلى هذا الحد كانت السياسة شأناً جماهيرياً خالصاً، لا تمييز فيه بين زعامة ورعية، لم يكن عبد الناصر مختصِراً أمةٌ في رجل إلا بقدر ما كان عبد الناصر ممثلاً في فكره وممارسته، لكل إرادة فردية أو جماعية لمعظم الطلائع العربية وجماهيرها، ومعها طلائع المحيط الإسلامي والعالمثالثي.

ذلك العصر لم يكن مثالياً بطولياً، وبالتالي وهمياً، ولكنه بكل بساطة كان عصر الشعوب السائرة نحو حكم نفسها بنفسها؛ كان ذلك التحول الاستراتيجي الكوني، هو الخطر الأكبر على أعداء الشعوب، عندما فازت هذه ببدايات استقلال بنيوي وسياسي، فلو تُركت لحركات صيرورتها الذاتية لما صار عالم مابعد الحرب الباردة مجرد قرية أمريكية، بل مصرفية صهيونية، الذي انتهى راهنياً إلى عالم الأزمة الاقتصادية المالية المستديمة غربياً.

لقد حدث منذ أربعة عقود أن استطاع الغرب مصادرة القرارات المصيرية لمعظم شعوب العالم الثالث، وفي مقدمتها شعوب أمتنا، ومن مدخل دولها القائدة لحركة تحررها الوطني، لمشروعها النهضوي الواحد المشترك. كانت ‘معاهدة كمب ديفيد’ فاصلة بين عهدين، ما قبلها ساد عصر المشاركة المتقاربة بين قمة الهرم الاجتماعي وقاعدته، ما جعل فكر الصيرورة متحكماً في وقائع المسيرة، وما بعدها جرى اختفاء هرم المجتمع كلياً لصالح ذروته فحسب: قبل كمب ديفيد كان المشروع النهضوي محاصِراً للمشروع الصهيوني بإرادة شعوب الأمة العربية جمعاء. بعد المعاهدة المشؤومة انقلب الوضع عكسياً تماماً، أضحى المشروع النهضوي مرتهناً لمتاحف التاريخ، باتت شعوب الأمة مرتهنة لسجون تحرسها الديكتاتوريات الأُحادية، ومعها أغنياؤها الطفيليون.

الربيع العربي يحطم أبواب هذه السجون واحداً بعد الآخر. هذا هو خطره الأعظم ليس على أعدائه وحراسه المحليين وحدهم، بل على سادة هؤلاء الحراس الوكلاء، إقليمياً وإلى ماوراء البحار. من هنا ينبغي فهم الصعوبات الكأداء في مواجهة مصر الثورة ما بعد إطاحة الفرعون، وثورة سورية الممنوعة حتى الآن من الإطاحة بجلاديها؛ ذلك أن ثورة مصر، غير الحاكمة حتى الآن، لا يمكنها أن تطيح بعلة العلل، معاهدة السجان الإسرائيلي الأمريكي إلا عندما تتم إطاحة الثورة السورية، بحارس المعاهدة الثاني، بل الأدهى، حامل (أسرار) مفاتيح ما كان يسمى بالجبهة الشرقية في دمشق. جرائم الجلادين لن تؤخر صيرورة التاريخ إلى مالا نهاية.

ولكن، هل يجازف الغرب بإطلاق مارد القمقم السوري. فما نفع إسرائيل بعده إذن؟

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى