مثقفون كُرد: عن الاستفتاء وأوجلان وتقرير المصير/ عماد الدين موسى
ثمّة تغيّرات دراماتيكيّة حصلت في الآونة الأخيرة، وتحديداً بُعَيْد الإعلان عن نتائج استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان العراق، جعلتْ الكُرد في حيرةٍ. التعاون في وضح النهار بين ألدّ الأعداء، ولا سيما تركيا وإيران، بالإضافة إلى الصمت أميركا حليف الكُرد كما يُظنّ، حيال ما جرى، عدا عن التغيّر المفاجئ لحكومة بغداد ومخاطبتها لقيادة الإقليم من مبدأ القوّة، القوّة وحدها. رغم ذلك لم يقدم الكُرد على استخدام القوّة، عكس التوقعات.
بالمقابل أثار رفع صور عبد الله أوجلان في الرقة حفيظة سوريين وجرى الحديثُ عن إلحاق المدينة بالإدارة الذاتية، بعد تحريرها.
في ظلّ كل ما جرى ويجري، ماذا عن مستقبل المناطق الكردية، سواء بعد التداعيات الكارثية للاستفتاء في كردستان العراق والتخلي الدولي عن مسعود بارزاني. هل حقّاً، كما يبدو للعيان، أنّ الكُرد يخوضون دائماً معارك خاسرة في سبيل قضيّة مُحقة، ولا يبقى لهم كما قال البارزاني، مُحقّاً، سوى الجبال.
هنا آراء لمجموعة من الكتاب والمثقفين الكُرد حول مجمل الأفكار المطروحة:
-سامي داود: جوهر السياسة غير اخلاقي
لا يجوز تخمين الموقف الأميركي على أسس أخلاقية. كان ماكس فيبر يكرر أن السياسة جوهرها غير أخلاقي. اعتقدت شخصيات في القيادة الكردية أن ظهور مؤسسات دولية خاصة بحقوق الإنسان سيرفد السياسة بقيم حقوقية. غير أن تاريخ العلاقات الدولية يؤكد لا حقوقية المواقف المتعلقة بقضايا حقوقية. وقد تجسد ذلك في المشهد المتعلق بسقوط كركوك. مليشيات طائفية. تديرها شخصيات مصنفة في قوائم الإرهاب الأميركية وتستخدم سلاحا أميركيا لضرب الحليف الوحيد لأميركا في العراق. مشهد ماكر لا يمكن تصوره. وليس له أية شرعية. فقد استخدم رئيس الوزراء العراقي عبارات مزيفة عن بسط القانون. أي قانون. لا توجد إحالة لأية مادة قانونية لأن الحدث يتجاوز الدستور والسيادة العراقية. تنظر أيران إلى البارزاني على أنه حجر عثرة أمام تحقق الهلال الشيعي. ومنذ رفض البارزاني منح إيران معبرا لها إلى سورية، بات الواقع أكثر تعقيدا في الداخل الكردي بسبب الضغط الإيراني.
الاعتقاد السعودي الأميركي المتعلق بإمكانية إزاحة السطوة الإيرانية عن بغداد اعتقاد خاطئ. وإضعاف الكرد على حساب تقوية العبادي خطأ أكبر. العراق مُنتدب إيرانيا والعامل الطائفي يوفر لهذا الانتداب كتلة سكانية كبيرة خارجة من المظلومية إلى الثأرية. وديمقراطية الأغلبيات تعيد صياغة العراق على أساس طائفي وبأدوات قانونية. لكنها أدوات بلا شرعية. فالشرعية تستمد من الحق المحض.
ما حدث في الرقة مفتاح لأبواب كثيرة: صورة أوجلان رفعت لعدة ساعات واستدركت الإدارة ذلك فأزالتها. لكن تركيا التي لا تحتاج إلى تعليل لعدائها للكرد. فهي تعادي الكرد لأنها تعادي وحسب. ظهر أردوغان ليعلن أن القوات التي حررت الرقة من داعش تتبع لأوجلان. فيما بعد ظهر الموقف التركي للائتلاف السوري. لم تظهر كلمة تكرم الدم الكردي الذي أريق لتحرير مدينة عربية من داعش. لكن من سيكرم هذه التضحية ولماذا أقدمت هذه القوات على تحرير الرقة. الآن يطالب كل من البعث والائتلاف المتناظرين بفرض سيطرته على الرقة. لماذا لم يحرروها أو يساندوا تحريرها. لا يجوز أن تلحق الرقة بالإدارة الذاتية. الموقف معقد لأن أي طرف يضع يده على الرقة سيحارب من طرف آخر. حرر الكرد الرقة من داعش. يقول البعث إنه سيحررها من الكرد. ويدعي الائتلاف أنه سيحررها من البعث. هذه الحلقة المفرغة من التحرير/ الاحتلال. لا يدمر المكان فحسب، بل وإنما يدمر معابر الناس إلى بعضها.
– شورش درويش: الشعور بفائض القوة
يبدو أن الكرد شعروا بفائض قوة في كردستان العراق وآمنوا بأن سياسة الأمر الواقع قد تؤتي بنتائج “سحرية”، لم ينكث الغرب بوعوده مع كردستان العراق فقد طالبت كبريات الدول ومراكز القرار إرجاء الاستفتاء الاستقلالي إلى وقت آخر، ودار الحديث مكاشفةً حول عدم قدرة الغرب وأميركا دعم الكرد في مثل هذه الخطوة، التي من شأنها أن تضعف الجهود الدولية لمحاربة داعش، إن لم نقل تضعف تحالفات تلك الدول بالعراق ككل، إلا أن الإصرار الكردي في هذا الاتجاه كان مزيجاً من فرض سياسة الأمر الواقع واستقطاب الجماهير الكردستانية المنقسمة، وفوق هذا وذاك كان سبباً للتهرب من الاستحقاقات الديمقراطية التي تنتظر أبناء الإقليم، يمكننا الحديث عن “تخلٍّ دولي” في المعارك التي دارت رحاها في المناطق المتنازع عليها، وهذا أمر مؤسف ويظهر طباع الدول واستراتيجياتها القائمة على المنفعة المحضة، أما القول إن “لا أصدقاء سوى الجبال” فهو قول على إنشائيته ويأسه يمثل تهرّباً من مواجهة الواقع وفشل الطبقة السياسية الكردية من فهم السياسة الخارجية ودائرة المصالح التي تحكمها وليس العبارات اليائسة والعدميّة، وبالتالي لا بد من العمل على التخلّص من هذه المقولة المشؤومة.
رفع صور أوجلان محاولة رمزية من جماعته الحزبية والإيديولوجية الإيحاء للعالم بأن من قام بـ”تحرير” الرقة هم رفاقه الحزبيون ومعتنقو أفكاره، هذه الرسالة وصلت إلى العالم برأيي، إلا أنها آذت حزب الاتحاد الديمقراطي في الداخل وستؤذيه في المدى البعيد إذ إن الإصرار يجب أن يكون على مدى “سوريّة” هذا التنظيم وقدرته أن يكون حزباً سورياً غير قافز على الحدود، فالتحديات الإقليمية والداخلية التي تنتظر تجربة هذا الحزب في الحكم الذاتي لن تمر بسهولة وستواجه مشكلات تفوق تلك التي في كردستان العراق، لكن لا يمكن القول أن كرد سورية سيخسرون كما حصل في كردستان العراق نظراً لطبيعة المطالب وشكل العلاقة الدولية غير المبالغ فيها بين الطرفين (الكردي الأميركي)، والأهم الاستفادة من توزع مراكز القوى الدولية داخل سورية، أي روسيا وأميركا، وحاجة الأخيرة إلى حليف مستقر بمطالب مقبولة داخل سورية، ليبقى الخيار المطروح على الاتحاد الديمقراطي وشركائه هو قدرتهم التخفيف من الحمولة الإيديولوجية التي يتشدّقون بها، والتحوّل إلى حزب سياسي معاصر بأهداف واضحة، وهذا هو الامتحان الكردي الجديد في سورية.
– عبدو شيخو: فشل في الدفاع عن الاستقلال
ما جرى في كردستان العراق مرتبطٌ بالسياسة التحجيمية التي تنتهجها الدول المتقاسمة لأرض كردستان ضد الكرد وتطلعاتهم. العراق لا يتعامل مع مواطنيه الكُرد كجزء من كُل، بل كجزء منفصلٍ عن الجسد الوطني ينبغي إعادته إلى بيت الطاعة باستخدام كل وسيلة ممكنة، أي أن رغبة الكُرد في الاستقلال تحصيلٌ للسياسية التي انتهجتها الأنظمة العراقية المتعاقبة تجاه الكُرد، وتحالفهم الدائم مع الدول الأخرى المتقاسمة لأرض كردستان. البارحة كانت “اتفاقية الجزائر” واليوم رأينا كيف تحالفت الحكومة العراقية مع تركيا وإيران سياسياً وعسكرياً لقمع مطالب شعب يمثل جزءًا من الهوية العراقية التي تدّعي الحكومة الاتحادية الحفاظ عليها. ما حصل هو كسر إرادة الشعب الكردي بالقوة وبالتحالف مع دولتين تعاديان إرادة جزء من الشعب العراقي.
كردستانياً، ما حدث هو الفشل في الدفاع عن الاستقلال. من حيث المبدأ، لشعب كردستان كامل الحرية في تقرير مصيره، لكن السياسة لا تسير وفقاً لرغبات ذاتية منفصلة عن فهم المحيط وقراءته والبناء عليه. شعب كردستان صوَّت لاستقلاله، وهو حق تكفله كل الشرائع والقوانين، لكن الانقسام السياسي-العسكري التقليدي في كردستان العراق كارثي وسيبقى مصدراً لخيبات متواصلة.
في ما يخص الرقة، أعتقد أن رفع صور السيد أوجلان رسالة سياسية ووجدانية. الجانب السياسي يتعلق بإعلان انتصار فكر أوجلان والجانب الوجداني يتعلق بالتضامن مع العزلة التي يعيشها في معتقله والغموض الذي يلف وضعه الصحي. المهم أن تعهد قوات سورية الديمقراطية وممثلوها السياسيون بإدارة الرقة إلى أبنائها وأن يكون فكر أوجلان الذي يدعو إلى التعايش ونبذ التسلطية ثابتاً قبل صورته.
مُستقبل الكرد في كردستان العراق يتطلب قبل كل شيء الوحدة الكردستانية الداخلية سياسياً وعسكرياً والبناء على نتائج الاستفتاء التي غدت حقاً مكتسباً لا تلغيه القرارات السياسية والهجمات العسكرية. أما في روجآفا (شمال سورية)، فالمستقبل مرتبط بالبناء على تعايش الكرد التاريخي مع العرب والسريان والآشوريين للخروج بتحالفات سياسية ومجتمعية تؤسس لهوية وطنية تحترم مكوناتها، وكذلك إشراك المجتمع الكردي والكتل السياسية الأخرى التي تعمل خارج الإدارة الذاتية ضمن مشروع فيدرالية روجآفا/ شمال سورية بمواجهة المشروع الإقصائي للنظام السوري والفوضى التي تمثلها الجماعات الأصولية والإرهابية.
الكُرد لا يخوضون معارك خاسرة بقدر ما يخوضون معارك تغيير جذرية. رسالة الكُرد ضمن هذا المحيط من الأنظمة والتنظيمات الطائفية والشوفينية تحتمل الانكسار والخيبة كما علّمنا تاريخ الكفاح الكردي. كردستان مستعمرة ومقسمة بين دول تحكمها أنظمة رجعية وفاشية لا تحترم الإنسان وحقوقه، وباعتقادي هذا هو جوهر خسارة الكردي؛ الخسارة التي طالما دفعته للجوء إلى الجبال.
– غولاي ظاظا: حاجة للمراجعة وليس للتراجع
وقفت الغالبية العظمى من المثقفين الكرد مع إجراء الاستفتاء في إقليم كردستان كون العملية استحقاق كردستاني حظي بالإجماع رغم الخلافات الحزبية. بعد انتكاسة الاستفتاء وفقدان الإقليم مساحات كبيرة لصالح بغداد هناك دعوات للمراجعة وليس التراجع. مراجعة المشهد السياسي العام إقليميا ودولياً لتفادي الوقوع في خطأ الحسابات مستقبلا. أي أن كبوة ما بعد الاستفتاء لم ينتج عنها التراجع عن صيغة الحقوق الكردية في الاستقلال. وموضوع التخلي عن الكرد من قبل الغرب ما زال غير واضح المعالم، صحيح أن خسارة كركوك كبيرة لكن ليست هذه المرة الأولى التي يخسر فيها الكرد مكاسبهم القومية ولا أعتقد أن الغرب تخلى عن الكرد. الأقرب للواقع أنهم لا يريدون الصيغة التي طرحها بارزاني، وكذلك توقيت الطرح.
بالنسبة لرفع صورة السيد أوجلان في الرقة، فإن الحدث يمكن النظر إليه رمزياً، بمعنى أنها مرتبطة بلحظة التحرير وليس بمستقبل المدينة بأنها باتت مدينة لأنصار أوجلان. في العموم هناك مجلس مدني في الرقة، وقبلها رأينا أداء المجالس المحلية في منبج والطبقة والشدادي ولم تظهر مشكلات من هذا النوع هناك. أعتقد أن مستقبل المدينة سيتم تحديده بما يضمن مصلحة أهل المدينة وكذلك القوى المحررة لها، فالرقة تحظى باهتمام استثنائي من قبل التحالف الدولي وستدار تحت إشراف التحالف.
– إبراهيم خليل: هل يتقبلون أفكار أوجلان
أعتقد، في ما يتعلق أولاً بقضية الاستفتاء الذي أجري مؤخراً في إقليم كردستان، أن استفتاء أي شعب على تقرير مصيره حق غير قابل للنقاش، ولكن ما حدث هو أن الكرد والقيادة الكردية قد سلكوا سلوك الفرسان في عصر تغلبت فيه الأنانية والمصلحة الذاتية على القيم والأخلاق وهذا ما أضاف خيبة جديدة إلى سلسلة الخيبات التي تلقاها الكرد خلال تاريخهم المعاصر. يبقى الاستفتاء ورقة رابحة ووثيقة شعبية وتاريخية غير قابلة للطعن ولكن على طلاب الدولة انتظار نضوج الظرف الدولي وانقضاء هذا العقد الرافض لقيام دول جديدة حتى يتمكنوا من النهوض ثانية.
بالنسبة لشعب مصمم على نيل حريته وتحرير أرضه ليس هناك ما يسمى بالتداعيات أو النهايات الكارثية، هناك جولات وإذا كان الحشد الشعبي العراقي قد استولى- باستغلال التناقضات الداخلية- على كركوك وبعض المناطق الكردستانية الأخرى وبشكل تجاوز فيه على الدستور العراقي ذاته الذي أوكل تطبيع الأوضاع في كركوك إلى المادة 140 فهو قد جعل من نفسه بذلك قوة احتلال تعتمد على محض القوة. أعتقد أن الأيام القادمة ستتمخض عن تغيرات دولية وعراقية داخلية في صالح الكرد الذين يترتب عليهم التأهب لذلك منذ الآن بحل خلافاتهم البينية ورص جبهتهم الداخلية.
بالنسبة للحرب التي تخوضها قوات سورية الديمقراطية ضد تنظيم داعش الإرهابي يمكن القول إنها ضريبة دم تدفعها الإدارة الذاتية الديمقراطية من أجل شرعنة نفسها في الشمال السوري ودخول هذه القوات إلى مدن الرقة ودير الزور وحتى إدلب لا يتناقض مع المبادئ التي قامت عليها وتحارب لأجلها، وقضية رفع صور السيد أوجلان في الرقة أو غيرها تفصيل ثانوي لا يغير من الأمر شيئاً. الجوهري في الموضوع هو هل يتقبل أهالي تلك المدن والمناطق قوات “قسد” كمحررين وفكر وفلسفة السيد أوجلان كنمط حياة أم لا؟ أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال تعتمد على مقارنة هذا الخيار بالخيارين الآخرين (داعش والنظام السوري).
– باسم الرسام: ترتيب مصالح
نكسة كركوك جعلتنا في نزوع مميت. حدث ادعى أنه يحدث باسم الدستور فقام باختراقه. والمفارقة أن الدولة التي أدارت الحدث هي إيران التي كانت- لأجل مصلحتها طبعا- ترسل صور مجزرة حلبجة إلى العالم لإدانة النظام العراقي حينذاك. اليوم لا تكترث بمن يدينها. طرفا نقيض يتفقان على تدمير حق الكرد في الحياة الكريمة.
كركوك أساسا هي مدينة منكوبة والآن باتت منتكسة أيضا. وأميركا كما إيران تعملان على ترتيب مصالحهما في المنطقة بغض النظر عن العامل الإنساني. لا يندرج الإنسان في مصلحة هاتين الدولتين. الخطأ من لدننا أن نتصور وجود قيم في علاقة هذه الدول بنا. لكن نحن الكرد ما الذي كنا نفعله طيلة هذه السنين.
تحرير الرقة ملتبس. البهجة التي رفعتنا إلى السماء في كوباني لم تترجم حسيا في حالة الرقة. لم يختلف دمار الرقة عن دمار كوباني أو حلب. لكن تسيير الحرب فيها ووجود أميركا في السماء وضعانا في حالة حرجة، وليس كأننا سنموت بموتها كما حدث في كوباني. وتأسس سؤال يتعلق بموقع هذه المدينة بين القوى المتصارعة في سورية. المدينة عربية محتلة من قبل داعش والكرد يحررونها ويسلمونها لمجلس محلي. هذه الترتيبات غير مفهومة. وصورة أوجلان التي رفعت لساعات فيها تحولت إلى مرآة لماهية القوى المحيطة بالكرد. إذ يبتدعون الحجج لشيطنة الكرد وتحليل إبادتهم. الصورة سؤال أخلاقي في جميع الاتجاهات.
– إبراهيم اليوسف: راية أبي بكر البغدادي
يمضي السؤال- هنا- إلى حصر الإجابة في النتيجة التي تمخض عنها بعض الوقائع المريرة، إذ يتم التركيز على أمرين، أحدهما: ما جرى في كردستان العراق، سواء ضمن خريطتها المعترف بها، أو ضمن ما سمي منها زوراً بـ”المناطق المتنازع عليها”، ولا نزعة أو نزاع إلا في عقل مستكثرها على الكردي، وهي بالتالي مؤشر على نزعة استحواذ الآخر، وإلغائه، من قبل العقل الشمولي الذي طالما عانى ويعاني منه الكردي وهو يعيش فوق ترابه. وثانيهما، ما يطبق على الموقف من الصنو، الكردي، في الطرف الآخر.. حيث تعرض كل من الطرفين لمحاولات التهميش، والمحو على مدى عقود، أو قل: قرون، من قبل العقل الإقصائي هنا وهناك، إلا أن الأمر، هو في الأصل على خلاف ذلك، إذ علينا أن نسأل: كيف أن أبناء شعب عريق، منتم إلى المكان، قرر إجراء استفتاء حول تقرير مصيره، ووقف جيرانه، وشركاؤه، وكل من تعرضت منافعهم للضرر في العالم في وجه إرادته؟، بل وكيف أن العالم برمته تواطأ أمام قيام ثلاث دول بغزو مكان- جزء من شعب- بل جزء من هذا الجزء- وحرق المئات من أطفالهم مع ذويهم في بيوتهم بعد احتلال مكانهم، بعد تهجيرهم الثاني، مستخدمين أسلحة دولة تعد نفسها العظمى، أو راعية الكون..!
أما في ما جرى من رفع لصور الزعيم عبدالله أوجلان- فك الله أسره- وأنا لست مع الجهة الكردية التي زجت بشبابنا في معارك مدن أخرى خارج المكان الكردي، لا يقول أحد من أبنائها لهم: شكراً، بالرغم من أنهم دحروا تنظيم داعش، في مكانهم، ولم يحتج أحد منهم لا على راية أبي بكر البغدادي الخفاقة في سمائهم حولاً بعد حول، ولا على تماثيل الأسدين الأب والابن، في مكانهم، عقداً وراء عقد، وإنما اعترضوا على رفع بعضهم في مجموعة صغيرة، وفي لقطة تم تداولها على وسائل الاجتماعي، صورة قائد أسير، لم اكن يوماً ما مع كل سياساته وحزبه، ولن أكون، كما أنني لست مع رفع مثل هاتيك الصور، لا هناك ولا في أية مدينة كردية في سورية، لأن من اعتقلته هي: تركيا…
إنها أزمة عقل شوفيني محدد!
– مريم تمر: أحداث قضَّ مضاجع
من حق الكُردي الآن الخوف في فترة تعتبر تاريخية لنيل حقوقه التي حلم بها منذ مئات السنين، إذ جاء الاستفتاء في إقليم كردستان الحلم الأجمل في خطوة ساندها الشعب الكردي بشكل كبير ولكن ما حصل بعد ذلك كان مخيباً للآمال، وتحديداً بعد تسليم كركوك.
من جهة أخرى جاءت انتصارات “قوات سورية الديمقراطية” في الرقة وكذلك الاستفتاء في إقليم كردستان الكابوس التي قض مضجع دول كإيران وتركيا وتصريحات أردوغان النارية من تهديد ووعيد، والذي ما انفك يخشى من كل تقدم كردي وجل ما يظهره هي محاربة ذلك بأي شكل من الأشكال، ليثبت أن ابتسامة مقاتل كردي تخيفه فكيف بصورة لثائر كردي في وسط مدينة الرقة المحررة من السواد والذي يعتبره في الصف الأول لأعدائه.
نعم لي الحق أن أخاف على بسمة أطفالي الكُرد، المشي في جنازة الشهداء صار مرعباً، في مدننا هناك مقابر خاصة للشهداء، كل يوم يزداد عددهم، من “كانوا يحلمون بالحرية ويتوقون لوطنٍ يسمى كردستان”.
إن كان التاريخ خائنا وللقوى الكبرى مشاريعها التي تتبع مصالحها، وإن كنا أبناء الجبال وليس لنا سواها، اليقين الذي لا أشك فيه أننا باقون بقاء الجبال التي تحتضننا.
– حسين حبش: قيادات تتقاسم السلطة
بعد سقوط نظام صدام حسين، كنت أتساءل لماذا لا تبادر القيادة السياسية في جنوب كردستان إلى إعلان الاستقلال رغم أن الظروف كانت مواتية لمرات عديدة؟! لكن هذه القيادة كانت مشغولة بتقاسم السلطة والنفوذ مع بغداد، ولم تبادر إلى تحقيق طموحات شعبها في الاستقلال. حتى وصلنا إلى عام 2017 حيث أعلن السيد مسعود البارزاني بالاتفاق مع القوى السياسية الأخرى عن إجراء استفتاء الاستقلال في 25 من سبتمبر. باركنا هذه الخطوة وانتظرنا ذلك اليوم بفارغ الصبر. وتم الاستفتاء في التوقيت المحدد رغم اعتراض العالم أجمع عليه! ونجح نجاحاً باهراً بعد أن صوَّت مواطنو الإقليم بنسبة تجاوزت الـ 92 من الأصوات لصالح الاستقلال. كان يوماً عظيماً حقاً. لكن الذي حصل، بدأت التهديدات تتقاطر على كردستان من كل حدب وصوب. وبدأت طبول الحرب تقرع في بغداد! لكن كل هذا لم يخف شعب كردستان الذي عبر عن إرادته بحرية تامة، وبالتالي كان على استعداد تام لتحمل النتائج والدفاع عن الاستحقاق الذي نتج عن الاستفتاء. زحف الجيش العراقي والحشد الشعبي تحت إمرة قاسم سليماني على كركوك! وكنا نتوقع مقاومة باسلة من قبل قوات البشمركة التي لا نشك ببسالتها على الإطلاق. لكن ما حصل أنه تم تسليم المدينة دون مقاومة تذكر! لقد حصل ما كنا نخاف منه، أي الغدر والطعن في الظهر من قبل بعض الساسة الكرد والقادة الميدانيين التابعين لهم، وسلموا المدينة على طبق من ذهب للحشد الشعبي والجيش العراقي. وبدأت بعد ذلك سلسلة تسليم الكثير من المدن والقصبات والقرى الكردية التي أريقت من أجلها الكثير من الدماء الزكية.
أما بخصوص رفع صور السيد أوجلان في الرقة، فأعتقد أن الضجة التي افتعلتها بعض الجهات السورية، وخاصة بعض الجهات التابعة للمعارضة كانت مقصودة وموجهة، وذلك لتأجيج العداء للقوات الكردية التي حررت المدينة لصالح بعض الجهات التي يسجدون لها ويأتمرون بأمرها! أو ربما كان هؤلاء يفضلون بقاء المدينة تحت نير تنظيم داعش على أن تتحرر على يد القوات الكردية! ومن المعلوم أن أغلب الذين حرروا الرقة من تنظيم داعش الإرهابي يستمدون عزيمتهم من فكر عبد الله أوجلان، وبالتالي يرفعون صورته أينما كانوا. المعارضة السورية ترفع صور أردوغان وترحب بالاحتلال التركي دون أن يفتح أحد فمه. النظام يرفع صور حسن نصر الله وغيره، ولا أحد يفتح فمه. لكن أن ترفع القوات الكردية صور أوجلان فلا بد أن تثور ثائرة الغربان وتنعق ناتفة ريشها.
– عماد مصطفى: ما جرى للكرد يتكرر
اعتقد أن مستقبل المناطق الكردية مرهون بمدى ظهور التحولات الديمقراطية في الثقافة السياسية الكردية، فالكرد معرضون لضغوطات كبيرة في الفترة القادمة بسبب تنامي الصراع الهوياتي في كامل المنطقة، والأحداث الأخيرة أثبتت أن هناك حاجة عضوية وفعلية إلى الديمقراطية والشفافية، وإدخالهما في منظومة العمل والثقافة السياسية الكردية التقليدية، حتى تتجاوز نفسها، وهي التي تمت بجذورها وقيمها، وأساليبها وفضاءاتها إلى ذات المنظومة التي تنتجها الدول الفاشلة والمستبدة في المنطقة.
الواضح أن ما جرى مع الكرد في العراق- وربما نرى فصلا مشابها له في سورية ما بعد الحرب على داعش- يشبه إلى حد بعيد ما تعرض له الكرد بعامة قبل قرن كامل، حين انتهت الحرب العالمية الأولى بنتائج ودلالات مهمة؛ انتصار الدول والقوى البرجوازية الناشئة على الإمبراطوريات الإقطاعية العجوز، والتي كان الكرد ببناهم الاجتماعية والاقتصادية يشكلون الجزء الأساس في إحداها، وهي الإمبراطورية العثمانية. واليوم علينا الوقوف، وبمسؤولية أمام الأسئلة الملحة حول البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في كردستان عامة وعدم الاكتفاء بمقولة “لا أصدقاء سوى الجبال”. لأنها وببساطة مقولة “مازوشية”، تحاول الحفاظ على مستوى التوتر والتحفيز والتشنج الأيديولوجي، والبقاء في دور الضحية الخالد، والتهرب من المسؤولية لما حصل ويحصل. وقد لمسنا ذلك بشكل واضح في انتكاسة “كركوك” إذ لم تتعامل القوى السياسية المؤثرة بشفافية مع الموضوع الذي بقي رهين العصبوية الحزبية.
ربما من الأجدى تحرير المنظومة الأيديولوجية الكردية، في علاقاتها مع نفسها والمحيط الإقليمي والدولي، من عقدة المظلومية والاضطهاد التي تحتل مكان الصدارة والمركز في الوعي الكردي. ذلك أن عنوان فشل كرد العراق، في تأسيس كيان سياسي موحد خلال فترة تتجاوز الربع قرن، من استقلالهم شبه الكامل، لا يتضمن في متنه عقدة المظلومية بالشكل والأسلوب المتداول في الذهنية الكردية. علينا التحرر من دور الضحية، ومن الثقافة المسكونة بهواجس الموات والزوال ورعب الإبادات.
– جوان نبي: التوقيتُ كُرديٌّ في هذا الزمن
التوقيتُ كُرديٌّ في هذا الزمن. ذلك ما لا شك فيه، نحن الكرد نشغل العالم اليوم بعد أن حاولت الأنظمة التي تتقاسم أرضنا، لسنواتٍ طويلة إقصاءنا، حتى في نشرات الأخبار. نحن نمضي إلى حلمنا اليوم، ندرك صعوبة تحقيقه ونحن محاصرون بين “الوحوش”. هذا ما حدث في إقليم كردستان العراق، لكن ذلك لا يعني أننا لا نملك من الأخطاء، التي كانت من المقدمات الرئيسية، التي أدت إلى ما حدث. الفوضى، التي تعم البيت السياسي الكردي تأتي في البداية وهي تركة سنوات، لا بد أن تنتهي، دون ذلك يستحيل على الكرد في جنوب كردستان تحقيق حقهم في وطن مستقل، كانت إرادة شعبه، في الاستفتاء قد قررته. هذه الفوضى هي كردية، توجد أينما يوجد الكرد، الذين لا يتفقون، للأسف إلا على بعضهم بعضا، في سورية أيضاً المسألة لا تختلف، الأحزاب السياسية الكردية مختلفة فيما بينها، لا تنصت إلى صوت الشعب، الذي يطالبها بمواقف محددة ومتحدة، دونها لن يجد الكرد مكانهم، الحق في الخريطة السورية في المستقبل، الإدارة الذاتية مثلاً حققت الأمن والكثير للشعب وقدمت من التضحيات ما ننحني لها، لكن ينقصها أن تتقبل المختلفين معها وينقص المختلفين معها الاعتراف بما حققت. هنا ما يجب العمل عليه، لا أعتقد أن ما حدث في إقليم كردستان العراق، نتيجة الاستفتاء المشروع له من التأثير الكبير، الذي يخشى منه على المناطق الكردية في سورية، لا نرى ما نخشى منه في إقليم كردستان العراق أيضاً، رغم أن الوحوش ما زالت ذاتها وأنيابها غدت أشرس، التاريخ يملك لغة أخرى هذه المرة والكرد يملكون في العراق وسورية ما يستطيعون التفاوض عليه وتحقيق ما يسعون إليه، لكن تبقى مسألة التوافق السياسي العقدة، التي تواجه الكردي نحو قضيته المحقة والتي لأجلها يخوض أقسى المعارك، التي لم يسعَ إليها يوماً ويقدم كل التضحيات في سبيلها.
ضفة ثالثة