مثقفو سوريا وثورتها
فايز سارة
لعله لا يحتاج إلى تذكير أن هدف الثورة السورية الجوهري هو تغيير حياة السوريين، ونقلها من وقائع خلفها الاستبداد المتواصل منذ نحو 50 عاما إلى مسارات تأخذ السوريين إلى الحرية والكرامة وإلى أشكال من التنظيم المجتمعي، يمكن أن تجسده دولة ديمقراطية تعددية، تكرس العدالة والمساواة والمشاركة لكل السوريين دون تمييز من أي نوع.
وهدف ثورة سوريا الجوهري صدحت به وببعض شعاراته التفصيلية أصوات المتظاهرين أو جرى رفعه في لافتات المظاهرات والاحتجاجات التي سارت في شوارع عشرات المدن والقرى في الأشهر التسعة الماضية، وفيها سقط آلاف الشهداء واعتقل وجرح عشرات الآلاف، ولحقت بالسوريين عذابات كثيرة وخسائر مادية من الصعب حصرها.
وهدف الثورة في جوهره، وفي شعاراته التفصيلية، جاء ثمرة جهود بذلها سوريون على مدى عقود مواجهة الاستبداد، وكان في صلب هؤلاء مئات من المثقفين المستقلين أو ممن كانوا أعضاء في الجماعات السياسية بكل تلاوينها الآيديولوجية والسياسية، وفي كل الأحوال دفع هؤلاء من أجل التغيير سنوات من أعمارهم في السجون والمعتقلات، وبعضهم مات فيها أو خرج في اللحظات الأخيرة ليموت بعيدا عن مسؤولية السلطة وأجهزتها، بينما عانى غيرهم الملاحقات وحياة المنافي وما يصاحبهما من معاناة لا يمكن تصور تفاصيل كثير في تجاربها.
وعلى الرغم من مرارة المعاناة الجمعية والفردية التي أصابت المثقفين على أيدي النظام بسبب عدم انخراطهم في دهاليزه وعملهم في دائرة تفكيره وتنظيره وممارساته، ومعاندتهم إياه في الفكر والممارسة أو في بعض منها، فإن الأهم في ما أصاب المثقفين، تجاوز الأضرار السابقة والمعروفة إلى أضرار أصابت مكانة المثقفين ومؤسساتهم ودورهم في الحياة العامة، هو الجوهري في السياسة الرسمية التي جرى تطبيقها على مدار العقود الماضية في الجانب الثقافي، وكان بين تعبيرات هذه السياسة تهميش مكانة الثقافة والمثقفين في المجتمع وفي الحياة العامة، ومنع المثقفين من التعبير عن أنفسهم فرديا وجماعيا، خاصة لجهة الحد من حق القول والنشر، وخلق مؤسسات تابعة للنظام على ما هو حال اتحادي الكتاب والصحافيين.
من وسط تلك الظروف رسم المثقفون ملامح الأمل السوري المقبل على نحو ما بدا الأمر في مثاله الواضح أيام «ربيع دمشق» 2000 – 2001 وما تبعه لاحقا، تماما على نحو ما فعل الحراك الشعبي في مارس (آذار) الماضي، عندما أطلق ثورته من أجل تغيير حياة السوريين ومستقبل سوريا، ساعيا بصورة عملية ومباشرة لتحقيق هدف الانتقال من النظام الأمني الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي التعددي.
وعلى الرغم من أهمية ما بدا من دور «مخصص» للمثقفين وللحراك الشعبي في الحياة السورية ومجرياتها الراهنة، فإن دور كل منهما متشابك مع الآخر، ونشاطهما المشترك في إطار نشاط عام هو الذي يرسم الصورة الظاهرة للواقع القائم؛ بحيث إن تناغم الطرفين وتعاونهما سيجعلان الوضع أفضل، والعكس يمكن أن يحصل في حال تناكفهما أو انكفاء أحدهما أو عزلته وعزله عن الطرف الآخر، وهناك كثير من الأمثلة في الواقع السوري تمتد من البعيد إلى اللحظة الراهنة.
إن من الحق أن يفسح المثقفون السوريون للحراك الشعبي كامل المساحة في التعبير عن مواقفه وآرائه حيال كل القضايا والأحداث والتطورات الجارية، ليس فقط لأنه الطرف المباشر الذي يدفع فاتورة تلك المواقف والآراء، بل لأنه أيضا يملك كل الحق في التجربة والتعلم اللذين حرم منهما في عقود الاستبداد الطويل، وصار من حقه أن يجرب وأن يتعلم في لحظات الحرية التي يدفع ثمنها من دمه ومعاناته، كما أن من الحق القول بضرورة أن يعطي الحراك الشعبي المثقفين مساحة كافية للتعبير عن آرائهم ومواقفهم إزاء ما يحصل ويتم طرحه من سياسات ومواقف، ليس بحكم تجربة ومعرفة هؤلاء والدور المنوط بهم، وجميعها حيثيات مهمة، بل من أجل أن يكون للمثقفين دور في استقراء المستقبل وتقدير احتمالاته ومقاربتها، وهي أمور لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة للسوريين وللحراك الشعبي بشكل خاص.
وسط تلك الحقوق المطلوبة والظروف المتشابكة، تبدو مسارات العلاقة المعقدة بين المثقفين السوريين والحراك الشعبي مع الثورة السورية، التي لا تخلو من انتقادات متبادلة، هي في أحد وجوهها استمرار لما ترسخ في عهود الاستبداد من حط لمكانة المثقف في الحياة العامة ومن بعد للمثقف عن تحمل المسؤولية والمعاناة من أجل بلده وشعبه وكرامته، ومن البديهي القول إنه آن الأوان لتغيير تلك العلاقة، ورسم علاقة جديدة، تتجاوز قاعدة الاتهامات إلى قاعدة حق القول وحريته مقرونة بالمسؤولية، مسؤولية تتجاوز حدود المسؤولية القانونية، وتتركز في عمق المسؤولية الوطنية والأخلاقية، التي ينبغي أن تحكم قاعدة علاقة السوريين بما يعيشونه، وما يمكن أن يصير إليه وطنهم.
الشرق الأوسط