مثقفو سوريا ونداءات الداخل والخارج
يوسف ضمرة
على عكس ما حدث في مصر خلال ثورة 25 يناير، حين وقف مثقفون وفنانون كبار إلى جانب الشعب وانحازوا إلى الثورة، لم يفعل الكتاب والفنانون والمثقفون السوريون ذلك باستثناء قلة، ولذلك لم يكن غريبا أن نسمع نداءات يومية إلى كتاب سوريا وفنانيها ومثقفيها، لاتخاذ موقف واضح مما يجري في بلدهم، والمقصود بالطبع هنا هو الالتحاق بركب المعارضة.
وهذه الدعوات حق لأصحابها، والدعوات المعاكسة حق لأصحابها أيضا، لأنها في النهاية مطالبة بالتعبير عن الرأي، ولكن هذه النداءات ليست مجانية أو عابرة، وإنما هي نتيجة معرفة قبْلية بأهمية المثقف ودوره في مثل هذه المفاصل التاريخية.
فقد أشار كتاب “الحرب الباردة الثقافية” لفرانسيس ستونر سوندرز إلى الدور الهائل الذي لعبته الثقافة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين صدر العديد من المجلات، وأقيمت المعارض الفنية والحفلات والمؤتمرات، ودعمت المشروعات الثقافية تحت شعار “الحرية”، في محاولة لاستقطاب كتاب أوروبا الشرقية والغربية وإبعادهم عن الشيوعية، إضافة إلى محاولة الوقوف في وجه المد الشيوعي في أميركا نفسها، إلى الحد الذي ظهرت فيه المكارثية ومُنحت صلاحيات واسعة في التضييق والملاحقة والسجن.
ولكن السؤال الملح هو: هل الكتاب السوريون أقل ثورية من الكتاب المصريين؟ بالتأكيد لا. فكثير من الكتاب السوريين حملوا السلاح يوما ما في لبنان، وقاتلوا في صفوف حركة المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وكانوا مستعدين للموت في سبيل قضية يدافعون عنها.
لكن ما يحدث الآن أمر مختلف تماما. فلا أحد ينكر أن للشعب السوري حقوقا في الحرية والعدالة والكرامة. ولا أحد ينكر أن النظام السوري قد هرم على مستوى الدستور والقوانين، وقد آن الأوان لبناء جديد حديث، يقوم على احترام حقوق الإنسان، ويحفظ حريته في التعبير والانتماء والمشاركة السياسية، من دون إذن أو تدخل من الأجهزة الأمنية، التي تحولت خلال عقود إلى أجهزة تكاد تكون مستقلة عن الحزب الحاكم نفسه، مما أدى إلى إضعافه وفقدانه هيبته التي كان يتمتع بها.
كان من الطبيعي أن تتململ الجماهير بعد عقود من التهميش والمهانة، وهذا حق للجماهير لا ينازعها فيه أحد، ولكن ما حدث بعد ذلك، اتخذ منحى آخر بعيدا من المنحى الصحيح الذي يمكن لأي متبصر أن ينحاز إليه.
فلم يكن التخريب أكذوبة أو فبركة رسمية. ولم يكن السلاح بدعة رسمية سورية. ولم تكن الضحايا من العسكريين كما يشاع، مجرد عقوبات يوقعها النظام على بعض رافضي الأوامر.
وقد بينت الصور والوقائع، أن هنالك جماعات مسلحة بحق -بصرف النظر عن حجمها وعددها- بل وهنالك اعترافات دولية بوجود هذه الجماعات المسلحة التي لم تعد تخفي نفسها، سواء كانت تحت مسمى الجيش السوري الحر أو أي مسميات أخرى.
يدرك الكتاب والفنانون والمثقفون السوريون أنهم يشكلون رموزا في ذاكرة الناس، الذين يود كل واحد أن يكون مثله الأعلى مؤيدا وجهة نظره ورؤيته لما يحدث. أي أن هنالك مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتق هؤلاء الكتاب والفنانين والمثقفين.
والمسؤولية هنا تتطلب تدقيقا وتمحيصا وروية في اتخاذ القرار، فلا يكفي أن ينحاز المثقف أو الفنان إلى جهة ما، فقط إرضاء لقطاع عريض من جمهوره ومحبيه، كما لا يحق له إدارة الظهر لهؤلاء الناس ومطالبهم، وكأن كل ما توجه به إليهم من قبل كان مجرد شعارات استهلاكية لا أكثر.
وأمام هذه المعضلة، يحتاج موقف المثقف إلى ميزان الذهب. فلا يحق لـ”شعبوية” عمياء أن تقوده، ولا يصح لامتيازات مهما علا شأنها أن تكون وراء القرار.
وربما على هذا الأساس انحازت أغلبية من الكتاب والفنانين والمثقفين السوريين إلى مطالب الإصلاح والتطوير والتحديث والتطهير والعمل على بناء دولة مدنية حديثة، ولكن بالحوار. أي أن هذه الشريحة منحت نفسها والنظام فرصة لتنفيذ ما يريده الناس من جهة، وما وعدت السلطة بتلبيته من جهة أخرى.
ولأن أهل مكة أدرى بشعابها، فإن هذه الشريحة تعرف أكثر من غيرها في العالم العربي حقيقة ما يحدث في سوريا، وعلى امتداد مساحتها الجغرافية طولا وعرضا. وهي ليست مضطرة مثلنا للاعتماد على صور هاتفية غامضة، وشهود عيان تفننوا في خلق انشقاقات في الجيش السوري.
كما أنها ليست مضطرة لتصديق أي كذبة يقترفها النظام، طالما كانت تعرف الحقيقة من مصادر عدة، وشخصية ومباشرة في أغلب الأحيان..، ولكن هل هذا يكفي حقا؟ بالتأكيد لا.
فقد أخبرني كاتب سوري أن الأمن في درعا كانوا يشقون الرضيع إلى نصفين!! وحين سألته عن مصدر المعلومات، أخبرني أن الناس كلهم يعرفون ذلك!!!
مثل هذا الكلام لا يستقيم، ولا “يركب على قوس قزح” كما يقول اللبنانيون.
لم يعد ثمة شك في وجود جماعات مسلحة. ربما تكون صغيرة أو كبيرة، وربما تكون منظمة أو عشوائية. المهم أنها موجودة. وحكاية أن قوى الأمن تقوم بقتل الجنود والضباط في الشوارع بسبب رفضهم الأوامر لم تعد مقنعة. فهنالك الآلاف من العسكريين. ولو تمرد هؤلاء لشكلوا قوة عسكرية مدربة ومسلحة لا يستهان بها، وتستطيع أن تستنزف الأمن وقتا طويلا.
يدرك المثقفون السوريون والعرب أن سوريا مستهدفة منذ عقود. وهي في حال من الشد والجذب حتى اليوم.
وبعيدا عن حكاية الممانعة التي حولها المعارضون وأنصارهم إلى أكذوبة، فإن الدولة السورية لم تضع بيضها كله -كغيرها- في السلة الأميركية. فلا هي استجابت للمطالب الأميركية في المنطقة، ولا هي قابلة لتوقيع اتفاقية سلام مع العدو الصهيوني إلا بشروطها هي. كما أنها لم تستجب للمناشدات الأميركية الداعية إلى وقف تسليح حزب الله، لأنها تدرك ما معنى إضعاف هذا الحزب أو القضاء عليه.
اللافت في الموضوع السوري هو هذا الاصطفاف المصمت ضد السلطة، بصرف النظر عن كل ما تواجهه وما يدبر للدولة كلها. واللافت أيضا هو أن المثقفين العرب -وأخص الساحة الأردنية- وصلوا إلى مرحلة من الانزلاق الذي يؤدي إلى الكسر، فلا يحق لأي كان أن يشتم خصمه بأبشع الكلمات وأكثرها بذاءة. ولا نجد تفسيرا لهؤلاء سوى خيبتهم التي تستمر شهرا بعد آخر، بعد أن وعدوا بأن السقوط على مرمى هتاف واحد!!
تحية لمثقفي سوريا وفنانيها الكبار، لأنهم يفكرون بروية وأناة، ولا يندفعون لأكثر من سبب. ونحن على يقين من أنهم برويتهم وهدوئهم، سيكونون أكثر حكمة وتبصرا بواقع بلدهم ومستقبلها، وبالخطوات الأكثر قوة للتغلب على هذه المحنة القاتمة.
كاتب وقاص من الأردن
الجزيرة نت