مثقفو سورية.. الاستبداد والثورة/ محمد محمود
يعلم الجميع أن الدور الأكبر في ترسيخ وتكريس ثقافة الاستبداد والتخلف والتصفيق الأعمى في سورية هو النظام، مع التسليم بأن إنتاج هذه الثقافة لم يكن بين عشية وضحاها. ولكن مع الزمن، تنشأ هذه الثقافة داخل نفسية المواطن، والملاحظ حالياً في كل منطقة من سورية أن غالبية الناس تصفق للأقوى، ولو مع الاختلاف معه فكرياً. ومعلوم أن قرارات النظام وجعل حافظ الأسد (الأب القائد)، جعل كل شيء في يده، وجعل حزب البعث مجرد حصان طروادة للتغطية على ما يقوم به من الجرائم بحق البلاد والعباد، فقد أسس، منذ البداية، حكمه معتمداً على الأجهزة الأمنية والجيش العقائدي والحزب القائد عند الضرورة.
وزرعت ثقافة الاستبداد التي عمل عليها النظام الأسدي كراهية وحقداً في نفوس السوريين، وتحولت إلى أخطبوط مدمر لقيم المحبة والوئام الاجتماعي الذي كان قائماً، في السابق، بين أبناء الوطن الواحد. وعملت هذه الثقافة على تنمية روح الكراهية والحقد والجهل والتخلف والضعف وروجت ثقافة السلبية والخنوع لدى المواطن، كما عملت على تعطيل التفكير في المقاومة السلمية للفساد والاستبداد، وتراكمت الاحتقانات حتى ينفجر بركان الكراهية والغضب في مظاهر منفلتة، حتى يدخل المجتمع في دوامة دوائر الصراع المغلقة بين ثقافة الاستبداد وثقافة الكراهية. وعمل الاستبداد الأسدي على تغذية نزعات الكراهية باستخدام سياسة التفرقة بين مكونات المجتمع السوري. ولذا، ثقافة الاستبداد أصل الداء ومصدر البلاء وسبب إصابات كثيرة فادحة وأخطاء قاتلة وشرور قائمة.
“زرعت ثقافة الاستبداد التي عمل عليها النظام الأسدي كراهية وحقداً في نفوس السوريين، وتحولت إلى أخطبوط مدمر لقيم المحبة والوئام الاجتماعي الذي كان قائماً، في السابق، بين أبناء الوطن الواحد”
كان حافظ الأسد ماهراً في زرع هذا كله، لأنه على علم بأنه لا يمكن إنشاء النظام الاستبدادي والشمولي، من دون وجود حاضنة شعبية لثقافة الاستبداد، فحارب القوميات والدين والمذاهب، وأشاع الكره والحقد، لأنه يعلم ضرورة أن تسود في المجتمع هذه الثقافة الفاسدة، أو لدى نسبة لا بأس بها، فوجود ثقافة التعصب الديني والقومي والمذهبي وعدم قبول الآخر والاعتراف بحقوق الجميع في الاختلاف بالرأي والتفكير لا يمكن للمستبد أن يسيطر على المجتمع، إلا من خلال هذه الثغرات. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن المثقف الذي لم يرضخ لثقافة الانتهازية والفساد للسلطة الحاكمة، ولم يندمج في عالم الاستبداد والشمولية، عاش حالة اغتراب عن الواقع. وأمام هذه الحالة، كان الباب مفتوحاً على عدة خيارات، إما أن يبقى المثقف محتفظاً برسالته الثقافية الإنسانية النبيلة، وما كان عليه إلا أن يعيش (ثقافة الصمت) والعيش على الرف، وينتظر حدوث معجزة للتغيير، أو أن يلملم حقائبه ويهاجر طوعاً أو قسراً، أو يندمج في عالم السلطة، لتتحول رسالته من مهام المثقف الإنساني إلى مهام المثقف المدافع عن ثقافة الفساد والانتهازية والاستبداد، وتبرير سياسة السلطة الحاكمة القمعية.
ونجحت، إلى حد ما، النخبة الحاكمة، وطوال العقود الماضية، في استنبات أنواع شتى من المثقفين الموالين لها، وتسخير منتوجاتهم الفكرية والثقافية، لتثبيت ركائزها وسياساتها الاستبدادية والشمولية، وضمان تأييد الناس لها وقبولهم بها. وكانت هذه الفئة الأسوأ، عندما اندمجت في عالم النظام ومفاتنه، وصارت مهمتها الرئيسية تبرير سياسات النظام وتسويغ ممارساته القمعية والاستبدادية والدفاع عن بطشه وجبروته وظلمه، ليضمحل دور المثقف النقدي، ولتتصدر اللوحة وجوه اتقنت ترويج الوضع القائم وأسسه السيادية، وثلة من المنحازين للنظام أو الأتباع، أو لنقل ما يشبه الأبواق أو الببغاء تدافع عن سياساتها ومواقفها.
أما الفئة الصامتة والتزام الحياد تجاه القسوة التي مرّ بها مجتمعنا ومعاناته المريرة، فقد ساهمت في نشر روح الخوف والخنوع طلبا للسلامة، وبحسب غيفارا، فإن المثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر خرابا من النظام الديكتاتوري القمعي الذي يمارس القتل والعنف ضد أبناء شعبه. أما الفئة المثقفة التي ناضلت ضد الظلم والقمع فكان مصيرها الاعتقال التعسفي، أو إيداعها في المصحات النفسية، أو الاختطاف أو الهجرة القسرية، لأنه وكما قال وزير نازي: كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي.
وفي أثناء هذا كله، يتم نبذ المثقف الحقيقي في مجتمعنا واضطهاده، ليس فقط من النظام السياسي المستبد فقط، وإنما أيضاً من المجتمع المستبد نفسه، من غالبية أبناء الشعب الذين نشأوا على ثقافة الاستبداد والانتهازية والأنا الضيقة، لأن هؤلاء مشحونون بالحقد والكراهية التي عمل عليها النظام.
المثقف الحقيقي جزء من الناس، يدافع عن مظالمهم واضطهادهم وحقوقهم المسلوبة والمغتصبة، على يد أولي الأمر والطغاة ورجال الدين المتنفذين في بلاط النظام والسلطان، هو المنتمي إلى شعب، لا إلى أقلية مافيوية أمنية، على رأسها حاكم بأمر الله يدفع الدولارات والدنانير الباهظة لمثقفٍ، يكيل له على شاشات القنوات الفضائية ووسائط الإعلام المكتوبة والمسموعة، المديح والإطراء والتحية على ما فعله بالبلد والشعب.
“في زمن الثورة، كل شيء قابل للتغيير، فهي، بحد ذاتها، تمثل اختباراً نفسياً وأخلاقيا وعقلياً للأطراف المنخرطة فيها، في حين يظل المثقف الحقيقي يمثل ضمير الشعب وصوت الجماهير المسحوقة، ويجسد قيمهم ويتمسك بها من دون مساومة أو انفراط”
في زمن الثورة، كل شيء قابل للتغيير، فهي، بحد ذاتها، تمثل اختباراً نفسياً وأخلاقيا وعقلياً للأطراف المنخرطة فيها، في حين يظل المثقف الحقيقي يمثل ضمير الشعب وصوت الجماهير المسحوقة، ويجسد قيمهم ويتمسك بها من دون مساومة أو انفراط. ولقد تخلى المثقف السوري عن عالم الأفكار، ونزل إلى الشارع مطالبا بالحرية، ومدافعا عن حقوق الشعب، لتحقيق انتقال في المجتمع، تسوده الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لكن القمع السلطوي من خلال الاعتقال التعسفي والقتل الجماعي والاختطاف، وآليات اشتغال الأطراف الدولية والإقليمية لتوظيف الثورة السورية في بازاراتها السياسية والاقتصادية، لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة، وكذلك الوعي المشوه الذي اشتغل عليه النظام من خلال النعرات الطائفية والمذهبية، ونجح إلى حد ما في ذلك. وقد كان لذلك كله الدور الأساسي في إخراج هؤلاء من الفعالية الجماهيرية، وحصل شرخ بين الشارع وهؤلاء المثقفين الذين تزامن إخراجهم من الساحات والميادين مع دخول الجماعات التكفيرية والإرهابية والتي تقاطعت أيديولوجيتها وآليات اشتغالها مع إيديولوجيا النظام الأسدي السياسية الأحادية، وقد شكل هذا التحول بداية اختفاء دور المثقف المدني السلمي.
ولعل ميزة الثورة السورية أنها رسمت الخط الفاصل بين ثقافة الاستبداد وثقافة الحرية، فعلى الرغم من تعقيداتها الكبيرة والتدخلات الإقليمية والعالمية وأنها أصبحت ساحة للبازار، فإنها أعطت درساً في زيف المعرفة الكلية التي تحولت إلى ببغاء، يردد الكلمات نفسها، ويبرر ويتماشى مع المجرمين والظالمين. ولكن، ظهرت شريحة من المثقفين، وغيرت مسار الحراك الثوري عن أهدافه الحقيقية والأساسية، عندما نصبوا أنفسهم قادة له، وأوصياء عليه، وأصبحوا (قادة بالمصادفة)، قطفوا على سطحها بعض الموتورين، ومن قدم مصالحه الذاتية الضيقة، ومصالح أولياء نعمته على مصالح الشعب العامة. ويتحمل هؤلاء المثقفون الذين وسموا أنفسهم معارضة، مع رموز النظام الاستبدادي، مسؤولية الإجهاز على الحراك المدني السلمي وإفراغه من مضامينه، وتحويله إلى احتفاليات موت مجاني، يؤديها متطرفون ووافدون، يتشدقون للقاء حور العين. ومن ناحية أخرى، تحول بعض المثقفين، بسبب خيبة أملهم من أداء القوى السياسية والثورية التي لم تستطع تحقيق التغيير الضروري في بنية الدولة العميقة، أو نتيجة اختلافاتهم أو تناقضاتهم الفكرية والأيديولوجية البنيوية، والتي امتدت إلى علاقاتهم مع الإسلاميين المتطرفين، وهذا ما يثير القلق، لمجرد فقدانهم الأمل في التغيير، فينتقلون من موقع التغيير الديمقراطي إلى حقل السلطة، أو إلى حقل الإسلاميين الأكثر تشدداً.
ومن ناحية أخرى، ظهرت فئات من المثقفين تدعي الدفاع عن النظام من بوابة الحفاظ على الدولة والوطن، لكن هدفهم الأساسي ليس النظام والوطن، وإنما لأن الحرب التي أعلنها النظام على الشعب كانت بالنسبة لهم فرصة ذهبية لتحقيق مصالحهم الذاتية الضيقة والدنيئة، حتى لو كانت نتائجها سفك مزيد من الدماء من أرواح الأبرياء، وهؤلاء عار على المجتمع والوطن والشعب، وهم بهذا يدافعون، بكل ما أوتوا من قوة ومؤامرات، من أجل استمرار هذا الصراع الدموي بحق الشعب.
وظهر، من جهة أخرى، من تلحف من المثقفين براية التطرف الإسلامي، سبيلاً وحيداً للتغيير متذرعا بطائفية النظام، ومتناسيا أن المجتمع السوري يتميز بالتنوع النابذ أي فكر طائفي، أو مذهبي.
وهناك المثقف الذي ناضل طويلاً تحت لافتة تعزيز قيم العصر الثقافية، كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، إذ به يسقط في أول اختبار واقعي بعد الثورة السورية، ويكشف بمدى إيمانه بتنظيرات نضالاته تلك، كالديمقراطية التي ناضل من أجلها طويلاً، ها هو اليوم يقف ضد كل أفكاره ومبادئه، ويظهر كل استبداده الذاتي وعنصريته القمعية، ما دام أنه قد يخسر جزءاً من مصالحه الذاتية.
العربي الجديد