مثقف بريطاني يصف العاصمة السورية على حافة الحرب/ سوزانا طربوش
خلال إدارته المجلس الثقافي البريطاني في سورية بين عامي 1992 و1997، كتب الدكتور بيتر كلارك، حامل وسام الإمبراطورية البريطانية، يومياته، وقد نشرها «دار جلجامش» في لندن في 393 صفحة، تحت عنوان «يوميات دمشق: الحياة في ظل أسرة الأسد»، واليوميات هذه مادةً مثيرة للاهتمام ومسلية في بعض الأحيان. تولى كلارك إدارة المجلس الثقافي البريطاني في سورية في حقبة مهمة ودقيقة من تاريخ العلاقات بين البلدين، وقد استُعيدت العلاقات الديبلوماسية في خريف العام 1991، أي بعد مرور خمس سنوات على قطعها من طرف بريطانيا بسبب تورّط السفارة السورية في لندن في محاولة الفلسطيني نزار هنداوي تفجير طائرة شركة العال الإسرائيلية في العام 1986.
من هذا المنطلق، كان لإعادة إرساء الروابط الثقافية والتعليمية من خلال المجلس الثقافي البريطاني دور أساسي في تحسين العلاقات بين سورية والمملكة المتحدة. تكشف «يوميات دمشق» عن طبيعة حياة كلارك أثناء سعيه إلى استعادة نشاطات المجلس وإطلاق برنامج تعليم اللغة الإنكليزية وتطوير التبادل التعليمي والثقافي. وتعكس يومياته صورةً واضحة عن اللقاءات والأحاديث والولائم والحفلات مع النخبة الفنية والأدبية والسياسية والعسكرية، كما مع الشعب السوري «العادي». وهو يصف بإمعان رحلاته في قلب سورية، أكان بالسيارة أو سيراً على الأقدام.
يهدي كلارك الكتاب إلى ثلاثة من زملائه في المجلس الثقافي البريطاني هم: معتز هدايا من دمشق، وفاندا حرمانه وهي سيدة أردنية مسيحية، وأيوب غريري وهو لاجئ فلسطيني عاش في دمشق منذ العام 1948.
وفي مقدّمة «يوميات دمشق» التي كتبها سير أندرو غرين، الذي أصبح السفير البريطاني في العام 1991، يثني هذا الأخير على التحية التي يؤديها كلارك إلى سورية. يقول: «إن إنجازاته كلّها عظيمة، لا سيما أنه في هذه الحقبة في دمشق، كان السوريون تحت قبضة قمعية تستخدم الأجهزة الاستخبارية السرية لتتجسس على العلاقات بين السوريين والسفارات الغربية».
في اليوميات، يستعين كلارك بحس المراقبة الذي يتّسم به الروائيوّن، إلا أن شغفه الأساسي يبقى ترجمة الأدب العربي. وفي سورية، غالباً ما كان يلتقي مؤلفين سوريين على غرار عبد السلام العجيلي وحنا مينا وهاني الراهب ويقرأ أعمالهم.
ترجم روايتين من تأليف ألفة عمر باشا الإدلبي، التي كانت آنذاك في الثمانينات من عمرها، وصدرتا بالإنكليزيّة عن دار «كوارتيت بوكس» في لندن. وفي نيسان (أبريل) 1997، عُرِضت ترجمته الإنكليزيّة لمسرحيّتي «الفيل يا ملك الزمان» لسعد الله ونّوس، و «القناع» لممدوح عدوان في «معهد الموسيقى والدراما».
يتكلّم كلارك اللغة العربيّة بطلاقة، بعد أن درسها في بلدة شملان اللبنانيّة في عامي 1971 و1972، وبقي يعمل طوال 25 عاماً مع المجلس الثقافي البريطاني في الأردن ولبنان والسودان واليمن وتونس والإمارات العربية المتحدة، قبل أن ينتقل إلى سورية. إلاّ أنّ لسورية مكانة خاصّة في قلب كلارك. يقول عنها: «أغرمتُ بهذه الدولة منذ زيارتي الأولى لها في العام 1962»، وقد عاد إليها مراراً.
وحتّى بعد رحيله عنها في العام 1997، عاد إليها مراراً كمرافق لمجموعات سياحيّة بريطانيّة وأميركيّة. وكانت آخر زيارة له مطلع العام 2011، في مطلع الأزمة الراهنة. يقول: «منذ ذلك الحين، انهارت البلاد، وارتُكبَت فيها أعمال وحشيّة تفوق أيّ وصف، وتهجّر ملايين الناس، وأصيبت سورية الدافئة والودّية التي وصفتها بخلل شامل». وقد قرّر وهب جميع حقوق المؤلّف عن الكتاب لبرنامج الإغاثة السوريّة الذي أطلقته «مؤسسة سعيد للتنمية»، التي «تبذل جهوداً مذهلة لمساعدة السوريّين خلال الأزمة».
يتّضح في يوميات كلارك أنّه كان بحاجة إلى البراعة والصبر لتمرير خطط مشاريعه التربوية والثقافية في مجلس الثقافة البريطاني عبر دهاليز حزب البعث، وآل الأسد، ونفوذ بعض العلويّين. وغالباً ما أعرب عن امتعاضه من النظام السياسي السوري، وفي بعض الأحيان من السفارة البريطانيّة وأرباب عمله في المجلس الثقافي البريطاني في لندن. وتمثَّلَ أحد أهم إنجازاته في الحث على وضع أوبرا «ديدو وإينياس» باللغة العربيّة في العام 1995. وقد حضر الحفلة الافتتاحية في «فندق إيبلا الشام» في دمشق تسعة وزراء سوريّين، إلى جانب رئيس الأركان، العماد أوّل حكمت الشهابي، ووزير الثقافة اللبناني (ميشال إده). ويكتب كلارك: «يسود الحضور شعور بالرهبة، فنحن نقدّم الامتياز، واللون، والحركة، والغناء، علماً أنّ الممثّلين في معظمهم سوريّون!».
بعد ذلك، عُرضت الأوبرا في تدمر، وعلى مسرح بصرى الروماني.
يتّسم كلارك بطابعه الاجتماعي إلى أقصى الحدود، ويكتب قائلاً: «أنا ممتنّ لكوني صديقاً لمئات السوريّين». وبالفعل، ترد في فهرست يوميّاته أسماء نحو 800 شخص، معظمهم من السوريّين، إلى جانب إحالات على بعض البريطانيّين، مثل كينيث كراغ الذي زار سورية في آب (أغسطس) 1995، وكان كلارك اصطحب الأسقف للقاء المفتي أحمد كفتارو، «وسرعان ما تبادلا أطراف حديث ودّي… وسارا معاً، يداً بيد، نحو الباب».
* صحافية بريطانية
الحياة