مثل ‘سوشي’ الأسد: ليس بالـ’هوت دوغ’ وحده يحيا نظام البشير/ صبحي حديدي
إذا قرأ أدونيس، الشاعر السوري/اللبناني/الفرنسي الأشهر من نار على علم، بعض الشعارات المركزية التي يهتدي بها شباب الانتفاضة الشعبية، الجنينية ولكن المتعاظمة، في السودان؛ فليس من المستبعد أنه سوف يتطيّر شرّاً، ولعلّه سيهمهم، مهموماً: ‘تظاهرات أخرى، في بلد عربي آخر، تخرج من المساجد؟ يا لبؤس هذه الثقافة السياسية العربية!’… فكيف إذا كانت شعارات مثل هذه، تحضّ على الخروج من المساجد أسوة بالشوارع والأحياء، تتصدّر الصفحات الشبابية تحديداً، على مواقع التواصل الاجتماعي (وبينها صفحة ‘قرفنا’، على الفيسبوك، مثلاً)؟ وكيف إذا ذكّر أدونيس نفسه (فقد يحدث أن يتناسى) أنّ هذا بلد الشيخ حسن الترابي، ومستقرّ الشيخ أسامة بن لادن قبيل ارتحاله إلى الجهاد الأفغاني، والأمّة التي دستورها ‘سيعتمد على الشريعة الإسلامية بنسبة مئة في المئة’ كما هدّد الفريق عمر البشير، طاغية السودان؟
وكما سارت الأسطوانة المشروخة، قبلئذ، في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية، يعلن وزير داخلية النظام السوداني إبراهيم محمود حامد، محاطاً بوزير الإعلام أحمد بلال عثمان، وبوالي الخرطوم عبد الرحمن خضر؛ أنّ ‘أعمال الشغب’ يمارسها ‘مخرّبون’، ولن يطول به الوقت حتى يقتبس مفردات النظام السوري فيتحدث عن ‘مندسين’ و’عصابات’ و’إرهابيين’. وإذْ تؤكد أبواق السلطة براءة الشرطة السودانية من دم أيّ متظاهر، فإنّ أسماء الشهداء تتعاقب، وتتكاثر؛ نساءً ورجالاً، شيوخاً وأطفالاً، من مهن شتى تتراوح بين كاتبة القصة القصيرة، والطالب، والتلميذ، والعامل؛ وتتضاعف أعداد المعتقلين، وتغصّ المشافي بالجرحى، وتُقطع خدمات الإنترنت، ويسارع ضباط الأجهزة الأمنية إلى تهديد رؤساء تحرير الصحف والمواقع الإلكترونية، تزامناً مع إطلاق قطعان ‘الرباطة’ بوصفهم زملاء ‘بلطجية’ مصر و’شبيحة’ سورية…
والحال أنّ ما يشهده السودان ليس الفصل الأحدث من سلسلة الانتفاضات الشعبية العربية، فحسب؛ بل هو تتمة أحداث شهر تموز (يوليو) 2012، حين رفعت السلطة أسعار المحروقات أيضاً، فتواصلت موجات الاحتجاج طيلة أسابيع، ودشنت طرازاً جديداً من الاختمار الشعبي المعارض: يستلهم حاضر انتفاضات العرب، ويقتدي بقسط وافر من منطق اندلاعها؛ لكنه، أيضاً، يستعيد روح انتفاضات الشعب السوداني في الماضي، القريب أو البعيد، وعقب انقلاب 1989 بصفة عامة. الفارق، هذه المرّة، أنّ الاحتجاجات الشعبية بدأت من بلدة ود مدني، وسط السودان، اعتراضاً على رفع الدعم عن المحروقات؛ لكنها انتقلت إلى مدينة أم درمان، حيث جرى على الألسن شعار ‘إسقاط النظام’ للمرّة الأولى. ولقد اقتدى البشير بزميله في الاستبداد، وابن أخيه، بشار الأسد؛ فمنّن الشعب ـ على غرار ما فعل الأخير مع السوريين، في حكاية الزيتون والـ’سوشي’ ـ بأنّ حكومته هي التي عرّفت الزول السوداني على… الـ’هوت دوغ’!
غير أنّ هذا الزول نفسه، وقبل خضوعه لأي نمط من معجزات ‘الاستقرار’ التي يمكن أن تنجزها شطيرة الـ’هوت دوغ’، ينتمي أوّلاً إلى بلد تصحّ فيه صفة الدولة ـ الأمّة؛ حتى بعد انفصاله، نتيجة استفتاء شعبي، في تموز (يوليو) 2011، إلى دولتَي شمال وجنوب: سكّانه (أكثر من 39 مليون نسمة، بينهم نحو ثمانية ملايين من أهل الجنوب) يتكلمون أكثر من مئة لغة، ويتوزعون في عشرات المجموعات الإثنية، وينشطرون وفقاً لخطوط ولاء قبلية وجغرافية ليس أقلها انقسام الشمال بثقافته العربية، والجنوب بثقافته الأفريقية أو الوثنية. إلى هذا، ثمة مفتاح حاسم لفهم التاريخ السوداني، هو أنّ الفتح الإسلامي عرّب مصر بعد أقل من عقد على وفاة الرسول، ولكنه توقّف عند حدود السودان، ويمّمت الجيوش شطر الغرب لنشر الإسلام في شمال أفريقيا، ونحو إسبانيا.
وسينتظر السودان، الوثني عموماً والمسيحيّ نسبياً، ألف عام أخرى على تخوم الإسلام قبل أن يصل العرب، لا على هيئة مجاهدين في سبيل إعلاء كلمة الله، بل كرجال دين وتجّار ذهب وعاج ورقيق، قدموا من مصر وبغداد وجزيرة العرب وشمال أفريقيا، واستخدموا القرآن واللغة العربية والطرق الصوفية لتقويض النظام القبلي الناجز، وتفكيك العقائد الوثنية والمسيحية. وفي عام 1885 وضعت انتفاضة المهدي خاتمة دامية للوجود المصري على أرض السودان، فكانت تمهّد الأرض للوجود الاستعماري البريطاني. هؤلاء هم ‘عرب الحدود’، التعبير الذي اعتاد الترابي استخدامه في وصف عواقب الفاصل الزمني الطويل الذي جعل ولادة الهوية العربية في السودان قيصرية بالمعاني السيكولوجية والسياسية والجغرافية، وسهّل لجوء الإدارة الاستعمارية إلى سياسة الباب المغلق، المعاكسة تماماً للسياسة التي اعتمدها الروّاد العرب.
وحين أحرز السودان استقلاله عن التاج البريطاني، عام 1956، كان الجنوب يسترجع لتوّه ذاكرة الرقّ وإرث الطريقتَيْن الصوفيتين ـ السياسيتين (‘الأنصار’ و’الختمية’)؛ ويستعد للأسوأ، عن حقّ أو عن باطل. ولم يطل الانتظار، في الواقع، إذْ قاد الفريق إبراهيم عبود الإنقلاب العسكري الأوّل، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1958، وسارع إلى تعطيل الدستور وحلّ البرلمان وحظر نشاط الأحزاب السياسية، بمباركة من زعماء الطريقتين، عبد الرحمن المهدي عن ‘الأنصار’، وعلي الميرغني عن ‘الختمية’. كذلك لن يطول الزمن حتى يقود العقيد جعفر النميري الانقلاب العسكري الثاني، في سنة 1969، بعد الإجهاز على انتفاضة 1964 التي أنهت دكتاتورية عبود.
ومن المفارقات أنّ ‘الاستبداد العلماني’، كما يصف الكاتب الأمريكي ملتون فيورست أسلوب حكم النميري، حظي بدعم مبدئي من الشيوعيين، وبمعارضة من الترابي الذي بقي رهن الاعتقال طيلة سبع سنوات. ثم انقلبت الأقدار سريعاً، فأعدم النميري عشرات القادة الشيوعيين، قبل أن يهتدي إلى فضائل الشريعة في قوانين أيلول (سبتمبر) 1983، فلا يكتفي بالإفراج عن الترابي، بل يعيّنه وزيراً للعدل! المفارقة الأخرى أنّ ظهور النفط في حياة السودان كان الكاشف الحاسم لاختبار سلسلة القوانين الاستبدادية، وطرح ورقة انفصال الجنوب، ولعلّه كان أحد محرّكات انقلاب 1989 الذي وضع البشير في سدّة الحكم، على رأس تحالفات شتى، تقلبت وتبدلت دون أن تمسّ جوهر الاستبداد؛ ذاته، بأعرافه ومواضعاته، التي تنتفض ضدّها شرائح واسعة من أبناء السودان اليوم.
وقبل سنوات، حين كان حزقيال كوجوك، رئيس مجلس كنائس السودان، يرى أن سياسات الحكومة معادية للمسيحية في الشكل والمحتوى؛ كان غازي صلاح الدين (الذي شغل منصب مستشار الرئاسة السودانية لشؤون السلام، وظلّ طويلاً رجل الترابي في السلطة كما تهامس السودانيون)، يرى أن القوانين تطبّق على المواطنين بالتساوي ودون النظر إلى الدين أو اللون أو العرق. كلّ ما في الأمر، ساجل صاحبنا، أنّ بعض أحكام الشريعة لا يطبّق في المناطق غير المسلمة، و’العرف القبلي’ يؤخذ بعين الاعتبار كمصدر للتشريع في المناطق القبلية، فيأخذ العرف صفة المسلّمة القانونية شبه المقدّسة. ثابت، مع ذلك، أنّ السلطة المركزية، ليس دون هذا المقدار أو ذاك من مسؤولية الأحزاب والقوى في الجنوب، تكفلت بإشعال حربَيْن أهليتين في البلد، حين كان الأكبر على نطاق القارّة الأفريقية، بين أعوام 1955 إلى 1972 و1983 إلى 2005؛ سقط ضحيتها قرابة مليونَيْ قتيل، وشُرّد 4 ملايين آخرين عن بيوتهم وقراهم وبلداتهم.
ثابت، أيضاً، في الباطن الأعمق من هذه المعادلة، اعتبارات أخرى أشدّ تعقيداً من مسائل الثروة النفطية (الذي يحتضن الجنوب 70 بالمئة من احتياطيه السوداني، وهو تفصيل تنظمه اتفاقية السلام لسنة 2005، في كلّ حال)؛ أو الانشطار الديني بين الإسلام والمسيحية (إذْ لا يدين بالأخيرة إلا 17 بالمئة من أهل الجنوب، مقابل 18 بالمئة من المسلمين، و65 بالمئة لأتباع عقائد وثنية شتى)؛ أو التوزّع الجغرافي (ثمة قرابة مليونَين من اهل الجنوب، يقطنون بصفة دائمة في الشمال)؛ أو الخريطة القبائلية (هنالك نحو 30 قبيلة في الجنوب وحده، بينها بينها ثلاث قبائل كبرى كانت تمسك بزمام السلطة عملياً، كما تحتكر الحقائب الوزارية والغالبية العظمى من مواقع القرار في الجنوب).
هنالك، أيضاً، ذلك النزاع في إقليم دارفور، الذي يستقطب من أنماط الاتجار الدولي، ومثله النفاق والكيل بعشرات المكاييل، ما يفوق بكثير جوهره الفعلي، الطبيعي بالمعنى السوسيولوجي للتنازع بين قبائل رعوية مترحّلة (معظم ‘عرب’ دارفور)، وقبائل زراعية مستوطنة (معظم ‘أفارقة’ الإقليم)؛ وهو ليس أمراً طارئاً، لأنه ببساطة يدور حول الماء والمرعى والكلأ، خصوصاً في منطقة صحراوية قفر وجرداء. ولا ريب في أنّ ما تعرّض له الإقليم من إهمال الحكومة المركزية، وهذه أو تلك من السياسات التمييزية أو العنصرية التي تحابي ‘عرب’ الإقليم، كانت في طليعة الأسباب التي زادت من حدّة التنازع. هنالك، في المقابل، براهين متعددة على اندماج أهل دارفور في صلب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السودانية منذ مئات السنين: هذا الإقليم قلعة حصينة للحركة المهدية ولحزب ‘الأمّة’، قبل أن يخترقه الإسلاميون وحزب ‘المؤتمر الشعبي’، على يد الشيخ حسن الترابي شخصياً؛ وفئات كبيرة من أهل دارفور تنتمي إلى طائفة ‘الأنصار’، التي لا يُعرف عنها العداء للعرب والعروبة، أياً كان المعنى المراد من هذَين المصطلحين.
وثمة، بالطبع، فلسفة ‘الحكم الإسلامي’، التي لا تختفي من النقاش الشعبي حتى تطلّ مجدداً، أكثر سطوة وإغواءً؛ يسهر على إذكاء شعلتها مهندسها المخضرم، ومنظّرها الأذكى، الشيخ الترابي. ‘النموذج بالغ الوضوح، أمّا أفق الحكم فهو محدود، والقانون ليس توكيلاً للرقابة الاجتماعية لأنّ المعايير الأخلاقية والضمير الفردي شديدة الأهمية، وهي مستقلة بذاتها. لن نلجأ إلى ضبط المواقف الفكرية من الإسلام، أو قنونتها، ونحن نثمّن ونضمن حرية البشر والحرية الدينية ليس لغير المسلمين فحسب، بل للمسلمين أنفسهم حين يحملون قناعات مختلفة’، يكتب الترابي. و’إنني شخصياً أعتنق آراءً تسير على النقيض تماماً من المدارس السلفية في التشريع حول مسائل مثل وضع المرأة، وشهادة غير المسلم في المحاكم، وحكم الكافر. البعض يردّد أنني متأثر بالغرب إلى حدّ اقتراف الكفر. ولكني لا أقبل الحكم على سلمان رشدي بالموت، ولو استفاق مسلم ذات صباح وقال إنه كفّ عن الإيمان، فهذا شأنه وحده’، يتابع الشيخ الأريب.
وأخيراً، وهو أوّل أيضاً، ثمة الاستبداد، والفساد، والجنرال/الدكتاتور، والنظام في حصيلته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعقائدية المركبة؛ إذْ ليس في كنف الـ’هوت دوغ’ يحيا السودانيون، راضين ساكتين مستسلمين؛ وليس في الشطيرة، تلك، منجاة نظام البشير، طال الزمان أم قصر.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس