مجتمعات ما بعد الاستعمار…إدخال الصدمة إلى نسيج الحكاية
كما هي الحال في مناطق الإنتاج العلمي العالمية الأخرى تركزت أبحاث الصدمة النفسية الحديثة حتى قبل وقت قليل على ضحايا »بِيض« وغربيين وانطلقت مثلما يفعل البحث السيكولوجي في العموم من الواقع الحياتي للمجتمعات الصناعية. لكن ما هي الصدمات التي تتشكل في المستعمرات أو مجتمعات ما بعد الاستعمار؟ الباحث الألماني شتيفان ميليش المتخصص في الأدب العربي الحديث يسلط الضوء على إدخال صدمات المستعمرات أو مجتمعات ما بعد الاستعمار في أنسجة الحكايات.
لو لم ينشغل منظرو الصدمة النفسية منذ البداية وفي الأغلب بضحايا »بيض« وبواقعهم الحياتي فقط، واهتموا بالبشر الذين تعرضوا لصدمات نفسية في ظل وضع استعماري أو تبعات هذا الوضع أيضا، لما ترسخت القناعة بضرورة إرجاع سبب الصدمة إلى حدث منفرد مرتبط بالسيرة الذاتية أو حدث تاريخي، سيؤثر لاحقا بشكل مضر أو مزعج على الكائن الحي وعلى الصورة الذاتية والاستعداد النفسي للشخص المعني، ولما كانت هذه القناعة بالذات هي النموذج الأساسي لعُصاب أو اضطراب الصدمة النفسية، كما هي الأساس أيضا لتشخيص اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة.
فانون كنقطة انطلاق
ثمة نص يعود إلى أوائل الستينيات، تشكل انطلاقا من مجتمع عربي مستعمَر، وكان من الممكن أن يلعب دورا مهما وكان بإمكانه أن يحدد توجها آخر لأوضاع عالمية ستصبح أكثر عدالة في المستقبل: إن الصفحات الثلاث الأولى من الفصل الخامس من كتاب فرانز فانون الكلاسيكي لمناهضة الاستعمار »معذبو الأرض« (١٩٦١) هي في الأساس محاولة مباشرة لاستيعاب خبرات وواقع الاستعمار الفرنسي في الجزائر بوصفها صدمة. لأن الاستعمار لم يكن بالنسبة لفانون فقط „مورِداً كبيراً للمصحات النفسية“ التي لم يكن بناؤها ممكنا لغاية يومنا هذا بسبب نقص الموارد ونقص الوعي، بل وخلف أيضا “جراحا لا شفاء منها، ألحقتها لعنة الأرض الاستعمارية بشعوبنا”. يعرف فانون سبب الصدمة في تأمله لـ »لاضطرابات النفسية« وما يليها من توصيف لحالات الجزائريين والفرنسيين الذين تعرضوا لصدمات نفسية، ليس كما هو معتاد اليوم، كحدث منفرد عنيف ومفاجئ، بل كـ “حصيلة لعوامل إثارة مضرة” تؤدي إلى “انهيار آليات الدفاع عن النفس لدى المستعمَرين” ووفقا لفانون يبدو أن “المسبب الأساسي هو الأجواء الدامية القاسية والانتشار العام لممارسات غير إنسانية والانطباع الذي لا يمكن طرده من الذهن بأن المرء يعيش نهاية عالم حقيقية”.
وصف مشابه للوضع يتناوله خوسيه برونر بعد خمسين عاما في دراسته الخاصة عن الصدمة بعنوان »سياسة الصدمة« عندما يكتب استنادا إلى علماء نفس فلسطينين ما يلي: “تحول الاحتلال نفسه إلى عامل فعال ودائم وشامل للإجهاد، وصار عنفه الذي لا يمكن تفاديه سببا لتعرض الفلسطينيين للصدمة النفسية بصورة دائمة”. في هذه الحالة سيصبح ما بعد الاستعماري مطابقا للاستعماري: عندما يتعرض عدد كبير من الأفراد (والعائلات) في مجتمع ما للصدمة النفسية، يمكن أن يقود ذلك في البداية إلى اضطرابات غير مرئية أو يتم تجاهلها، وإلى تغييرات في السلوك والمواقف تتحول إلى نمط وتحول لوقت طويل دون عودة المجتمع المعني إلى نوع من التوازن.( هكذا هو تعريفي للصدمة النفسية الجماعية).
رغم أن فرانز فانون في كتابه »معذبو الأرض« قد قام بأول تصنيف للإصابة بالصدمة النفسية في السياق العربي وحذر من الآثار الضارة للعنف الاستعماري طويل المدى، من خلال إشارته إلى أن العنف والإصابة بالصدمة في السياقات الاستعمارية قد أصبح أمرا عاديا، إلا أن ذلك لم يُلتقط بعد ذلك من علماء النفس الأوروبيين أو من المثقفين العرب على نحو يسمح بتناول التبعات المعقدة للاستعمار ذي الآثار الصادمة بدقة منهجية في المرحلة الحاسمة للاستقلال، كالديكتاتوريات وأنظمة القمع الجديدة التي سرعان ما تشكلت بعدها مثلما هي الحال في الجزائر أو مصر أو العراق أو سوريا.
حالة الطوارئ هي الوضع الطبيعي
وفيما يخص المجتمعات العربية وكثير من مجتمعات ما بعد الاستعمار، لا يزال إفشال هذه العودة إلى الذات عبر تدخلات ثقافية واقتصادية وسياسية من الخارج مستمرا. وبهذا لا يمكن اليوم اعتبار الصدمة النفسية حدثا منفردا، بل يمكن رؤيتها بالنظر إلى بعض مجتمعات الشرق الأوسط وأيضا بالنظر لمجتمعات مناطق أخرى باعتبارها حالة الطوارئ التي أصبحت طبيعية، والتي يتوجب إنهاؤها بكل الوسائل من أجل الخلاص والتقدم سعيا لإنهاء العنف في أفق الممكن، وهو »موتيفة« حاضرة في الأدب العربي المعاصر، وخصوصا في شعر المنفى العراقي والفلسطيني منذ التسعينيات. وهنا لا يقع على عاتق الأبحاث النفسية للصدمة والمنظورات السيكوــسوسيولوجية لها وحدها الاضطلاع بالواجب المهم لتسليط الضوء على الآليات الخفية التي يصعب كشفها وطرق التأثير وتبعات الإصابة بالصدمة النفسية وتعميق فهمنا للعمليات الاجتماعية وتطورها، بل يضطلع به أيضا الأدب العربي والدراسات الثقافية التي تسعى لتفسير الإصابة بالصدمة وفهمها.
رغم أن فرانز فانون في كتابه »معذبو الأرض« قد قام بأول تصنيف للإصابة بالصدمة النفسية في السياق العربي وحذر من الآثار الضارة للعنف الاستعماري طويل المدى، من خلال إشارته إلى أن العنف والإصابة بالصدمة في السياقات الاستعمارية قد أصبح أمرا عاديا، إلا أن ذلك لم يُلتقط بعد ذلك من علماء النفس الأوروبيين أو من المثقفين العرب على نحو يسمح بتناول التبعات المعقدة للاستعمار ذي الآثار الصادمة بدقة منهجية في المرحلة الحاسمة للاستقلال، كالديكتاتوريات وأنظمة القمع الجديدة التي سرعان ما تشكلت بعدها مثلما هي الحال في الجزائر أو مصر أو العراق أو سوريا. عوضا عن ذلك ظل توجه الأبحاث العالمية للصدمة مرتبطا، إلى جانب تبعات المحرقة اليهودية، على وجه الخصوص بصدمة الجنود الأمريكيين العائدين من فيتنام ومؤخرا صدمة الحادي عشر من سبتمبر(مع استثناء جنوب إفريقيا ورواندا كمراجع غير أوروبية يكثر ذكرها) وكأن صدمة »البيض« هي وحدها الجديرة بالدراسة والحديث عنها عالميا.
دور الأدب
تناول الأدب العربي المعاصر على الأقل اثنتين من قضايا فانون وهما: إشكالية الهوية المتفسخة نتيجة لتدخل خارجي وآليات نزع الإنسانية على يد الأنظمة السياسية القمعية، وكذلك إمكانات استعادة الإنسانية عبر التعبير الأدبي.
إلا أن الاهتمام المباشر بالصدمة النفسية في الأدب العربي يكاد يكون لحد الآن معدوما، على النقيض من الآداب والدراسات الأدبية الأوروبية والأمريكية والإسرائيلية، حتى بالرغم من أن بعض الأعمال الفنية في النصف الثاني من القرن العشرين قد عالجتها على نحو بارز وسردتها بأسلوب أدبي رفيع أو منحتها طابعا مجازيا مثلما هي الحال لدى محمود درويش (فلسطين) وسعدي يوسف (العراق) في الشعر أو لدى صنع الله إبراهيم (مصر) وغسان كنفاني (فلسطين) وإلياس خوري (لبنان). وقد تغير ذلك بوضوح تام في السنوات الأخيرة بالتأكيد مدفوعا بـ »انتعاش الذاكرة« (Memory-Boom) في الدراسات الثقافية العالمية، لكن أيضا بسبب الوضع المتفجر في المنطقة، كما في غزة مثلا.
وتماشيا مع التوجه الذي يربط بوعي بين التوثيق والخيال في الكتابة الأدبية يوجد منذ عقدين المزيد والمزيد من النصوص النثرية والقصائد والمسرحيات لكتاب من دول عربية مختلفة تلعب على الأحداث أو الظروف الصادمة وتعالجها سرديا بصورة مقنعة. (ويسري ذلك أيضا على سينما المؤلف العربية بأفلام مثل »أطلال« لغسان سلهب و »غير صالح للعرض« لعدي رشيد). يواصل أدب الصدمة النفسية العربي الجديد التأملات حول إمكانات الكتابة الأدبية أثناء الكوارث الإنسانية وبعدها والظروف الحياتية الصادمة (وصعوبة عرض هذه الظروف وسردها على نحو ملائم) على طريقته الخاصة ولا يطرح بذلك تساؤلات عن مرجعية النصوص الأدبية في جدلها مع الحداثة وأضرارها الجانبية فحسب، بل يتحدى في أثناء ذلك الموقف المهيمن لـلـ »غرب«.
أود في السطور التالية أن أقدم عن كثب رواية عربية حديثة، تُعالج فيها التشابكات بين الخاص والعام، بين المجال العائلي والمجال الاجتماعي السياسي وكذلك قضية »الجندر» ولكن أيضا التشابكات بين السرديات المتصارعة للتاريخ الوطني ومحاولة تفسير الأوضاع الاجتماعية في ظل الصدمة النفسية الفردية والجماعية. إلى حد علمي لم تعالج رواية عربية بشكل مباشر وصريح آثار ما بعد الصدمة وفقا لمنظور سيكولوجي فردي مثلما فعلت »حراس الهواء« ٢٠٠٩، وبذلك أضاءت أيضا البعد السياسي للإصابة بالصدمة النفسية، أي سياسة الصدمة النفسية.
مثال سوريا
يتركز اهتمام رواية »حراس الهواء« للكاتبة السورية روزا ياسين حسن (من مواليد دمشق عام ١٩٧٤) على عنات إسماعيل وهي سورية شابة تعمل لدى السفارة الكندية في دمشق كمترجمة فورية خلال المقابلات مع طالبي اللجوء من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
قبل سنوات تعرفت إلى المعارض اليساري جواد الذي ما كادا أن ارتبطا، حتى اعتقل واختفى لخمسة عشر عاما في غياهب السجون السورية وبعد إطلاق سراحه كان واضحا لكليهما أن فترة انفصالهما تركت آثارا عميقة. ولسوء الحظ لم يتمكن الزوجان من الحديث عن هذه التغيرات والحاجات الجديدة التي نشأت. انسحب جواد إلى ذاته أكثر فأكثر وقرر ذات يوم الهجرة إلى السويد ووضع زوجته أمام خيار صعب: إما أن تأتي معه إلى أوروبا وتصبح نفسها طالبة للجوء ــ أو تبقى وحدها. قررت عنات أن تبقى في بيت أبيها المريض بالقلب، وتحبل في ليلة سفر زوجها. خلال أشهر الحمل تتذكر عنات أحداثا محورية في حياتها وتحكي قصة عائلتها (خصوصا حكاية أبيها وأمها التي ماتت رغما عنها ميتة لا إنسانية في غرفة العناية المركزة بسبب مضاعفات مرض السرطان)، وكذا قصص أزواج من الأصدقاء فشلت علاقتهم أيضا بسبب العواقب اللامرئية للاعتقال السياسي والتعذيب الأكثر وحشية والانفصال لسنوات طوال. ومع ازدياد انسحابها عن العالم، يرى طفلها النور في اليوم الذي يصاب فيه أبوها بثالث نوبة قلبية. يبقى مصير والدها ومستقبل أبطال الرواية مفتوحا، وتنتهي الرواية بغوص الأم الشابة في سبات عميق وتركها كل الهموم والمخاوف جانبا إلى حين.
وكما هي الحال في نصوص نثرية عربية أخرى (مثلا في قصة حسن بلاسم »الأرشيف والواقع«) تظل حالة النوم المشابهة للموت وبالتالي النسيان القصير الأجل هي العلاج الوحيد المتبقي والطريق للخروج من الواقع المليء بالألم. تصبح عنات من خلال وظيفتها ـ مثل مديرها الكندي جوناثان الذي يقرر بشأن طلبات اللجوء ـ نقطة التقاء وشاهدة على الكثير من قصص المعاناة الفردية للاجئين من المشرق وشمال إفريقيا الذين صاروا ضحايا للديكتاتورية والحرب الأهلية والاغتصاب. تنجح الكاتبة بهذا البناء السردي في إدخال قصص الصدمة النفسية المختلفة في نسيج الحكاية والتذكير بلا مرئيتها و»كمونها«، ووصف عواقبها على الأشخاص المعنيين بقدر الإمكان بصورة ملموسة.
لكن سرعان ما تنشغل المترجمة الشابة كثيرا بقصصها الخاصة، فعبر حكايتها الشخصية والأحاسيس والمؤثرات التي أطلقتها فواجع الغرباء، لا تعود قادرة على مواجهة تحديات العمل. وتستشعر باضطراد تلاشي الحدود بين مصيرها ومصير اللاجئين وكيف أن صدمات الآخرين النفسية تتكرر في صدمتها النفسية “العالم تحول إلى غرفة تعذيب”.
خصوصا آخر استجوابات اللجوء المعروضة في الرواية مع فتحية العراقية الكردية الجذابة المعتزة بنفسها أطلق لدى المترجمة التي تواجه ضغوطا فوق طاقتها مزيجا لا يمكن فصله من الإعجاب والكراهية وعقد النقص، هو وما قد يسمى في علم النفس »الانتقال المعاكس«، وهو ما قاد أخيرا إلى اللحظة الفارقة ولاستقالة البطلة.
يقود هذا التأثر الثانوي بالصدمة إلى أن المعينين والمعينات أو الأشخاص في المواقف المشابهة لا يعودوا قادرين على التعامل مع أعبائهم الشخصية و”تنتقل” مشاعر الشخص المصدوم إليهم. هكذا يعترف جوناثان لمساعدته السورية مع قرب انتهاء الرواية: “قال إنه لن ينسى أبداً ما عاشه هنا، لن ينسى هذه التجربة المريرة، وربما سيضطر، طيلة ما تبقى من حياته، إلى التردد بشكل مواظب على طبيب نفساني، ربما يستطيع بعدها العودة للعيش بأمان مجدداً”.
تستخدم روزا ياسين حسن، وهو حسب علمي ما لم يحدث في أي رواية عربية أخرى، معرفتها بسيكولوجية الصدمة النفسية وتضفر ذلك ـ أحيانا بشكل منهجي ــ في قصتها. والمثير أن الكاتبة تتخلى عن إضفاء أعراض الصدمة النفسية بوضوح على شخوص الرواية السوريين. يتضح ذلك على نحو خاص في حكيها لقصص عائلتها والتي ورغم امتلائها بالقصص الصادمة (الزواج المبكر للأم جميلة والوفاة المبكرة للأخت سنية، وانتحار الابنة صباح) لا توصف على النقيض من قصص اللاجئين بأنها صادمة. مع ذلك فإن لهذه الأحداث في حياة أفراد العائلة تأثيرات سلبية مستمرة على المعنيين لكنها تظل خفية وغير مفهومة.
يتركز اهتمام رواية »حراس الهواء« للكاتبة السورية روزا ياسين حسن (من مواليد دمشق عام ١٩٧٤) على عنات إسماعيل وهي سورية شابة تعمل لدى السفارة الكندية في دمشق كمترجمة فورية خلال المقابلات مع طالبي اللجوء من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
انهيار العادي
لا تُقرأ رواية حراس الهواء على أنها مجرد كشف حساب مع ظروف الحياة المسببة للصدمة والناتجة عن الوضع السياسي ومع الحكم القمعي لحزب البعث فحسب. فنظرا لأن البطلة لم تعد قادرة على تجاوز مهمتها المتمثلة في ترجمة الصدمات النفسية للّاجئين العراقيين والسودانيين واللاجئين من بلدان أخرى ولأن الصدمات والأعباء في حياتها الشخصية قد تجاوزت حد التحمل، تنهار الخطوط الفاصلة ـ التي ظلت قائمة حتى نهاية الرواية حتى ولو كانت دقيقة جدا ـ بين الحياة “العادية” السورية للبطلة والأوضاع المأساوية الصادمة في مراكش وشمال إفريقيا. إذ يزداد وعي المترجمة أكثر فأكثر بأن جراح الروح غير المرئية لا تجد اعترافا رسميا، لا جراح زوجات المعتقلين السوريين ولا تلك التي للّاجئين المصدومين نفسيا، والذين يستطيعون إثبات أضرار جسدية مرئية بوضوح من الخارج، كي يحصلوا رسميا على حالة اللجوء.
“على كلٍ التقارير الطبية تبيّن دوماً التبعات الجسدية لما تعرّض له طالب اللجوء! التبعات الجسدية فحسب، وربما التبعات النفسية الواضحة، أي التي تحوّلت إلى أمراض عصبية مشخّصة جليّة، لكن ثمة الكثير من طالبي اللجوء شوّهوا، مُزقت دواخلهم وعطبت أرواحهم، دون أن يكون هناك علامات على أجسادهم!. كم كانت فرصة أولئك أقل! ذلك أن كل ما يقولونه كان يوضع في زاوية التشكيك”.
إن تلك الجروح غير المرئية هي ـ حسب تفسيري للرواية ـ ما تقود بحسم إلى انهيار العلاقات وإلى عدم قدرة البشر الذين تعرضوا لاعتداء على حياتهم أو كرامتهم على العودة إلى حياتهم بعد فترة السجن أو المرض، ,وأخيرا إلى الاصطدام بكافة التطورات الاجتماعية التي تؤدي إلى عنف جديد وأضرار أخرى. يحتاج الأمر لوقت حتى تشفى الجراح النفسية.
الرواية التي أُلفت عام ٢٠٠٩ تُقرأ مثل مقدمة قاتمة للأحداث التي انطلقت عام ٢٠١١ وقادت البلاد إلى الحرب وإلى كارثة لجوء بسبب التصعيد من قبل حزب البعث المستخدم للعنف. وتحول البلد من بلد مستقبل للاجئين إلى البلد ذي العدد الأكبر من اللاجئين في مختلف أنحاء العالم. وقد عالجت روزا ياسين حسن هذه الأحداث الراهنة في رواية صدرت في صيف ٢٠١٤ عن دار رياض الريس (بيروت) بعنوان »الذين مسهم السحر«. لا بد من فهم وتحليل أفضل للتأثيرات السلبية لديكتاتورية آل الأسد على مدى عقود والقمع الوحشي للثورة الثورية على المستوى الاجتماعي والفردي، وإلا فستكون ثمة تطورات اجتماعية جديدة وخيمة العواقب. هكذا صرحت الكاتبة في مقابلة مع ديما ونوس معبرة عن قلقها من أن الوضع الحالي يحمل بداخله الجرثومة المستقبلية لدمار جديد: “ما يفزعني حقاً هو أن يتحوّل الموت إلى فعل يومي اعتيادي وبالتالي مقبول ومبرّر! أي تسويغ الموت وتبريره تحت كافة المسميات. كل هذا الموت السوري زاد من حجم الأحقاد في الصدور إلى حدّ لم يعد من السهل تبديدها”.
هذا المقال صادر ضمن كتاب مشترك بعنوان (Commitment and Beyond) عن دار Reichert في عام 2015.