مجلس الأمن.. قاموس الجعفري اللغوي/ سلمان عربي
لن تستقيم موازين العدالة والدولية وسيادة القانون، بدون وضع حد للارهاب الدولي الذي يضرب سوريا. تلك كانت خلاصة سردية المندوب السوري الدائم في الأمم المتحدة بشار الجعفري، لمظلومية نظام رئيسه بشار الأسد.
كلمة المندوب السوري المطولة، بحدود 17 دقيقة، جاءت في جلسة مناقشة لمجلس الأمن، خصصت لمشروع قرار فرنسي، يقضي بإحالة الملف السوري، إلى محكمة الجنايات الدولية. وافتتح الجعفري مداخلته بشنّ هجوم لاذع ضد فرنسا صاحبة المشروع، وقدم لائحة طويلة بجرائمها ضد الشعب السوري إبان فترة الانتداب 1920-1946. ومن العجائب، أن مصادفات التاريخ وقفت إلى جانب المندوب السوري، وأسعفته في سوقه للـ”الحقائق”؛ وذلك حين تطابق موعد انعقاد الجلسة، يوم 22 أيار/مايو 2014، مع ذكرى مشاركة الوفد السوري في مؤتمر سان فرانسيسكو في العام 1945، والمخصص لصوغ ميثاق الأمم المتحدة. حينها تمكن الوفد السوري من ادخال المادة 78 إلى الميثاق، والتي ضمنت لسوريا عدم تحويلها لإقليم تحت الوصاية الفرنسية. مما دفع قوات الاحتلال الفرنسي بتاريخ 29 أيار/مايو 1945 لقصف البرلمان السوري وقتل حاميته.
الجعفري المتقد ذكاءً، سحب كلام السفير الفرنسي قبل لحظات، والقائل بأن جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم، وطالب بمساءلة الحكومة الفرنسية عن جرائمها، ليس فقط بحق السوريين، بل بحق الكثير من الشعوب التي احتلتها سابقاً. فإحقاق العدالة ضد جرائم الحرب المرتكبة منذ أكثر من نصف قرن، أكثر إلحاحاً في ذهن الجعفري من وقف مقتلة النظام الحالية للشعب السوري، وتفننه في تركيعهم. استحضاره للتاريخ، لم يغادر نهج نظام الأسد في إذلال السوريين، واستغباء المجتمع الدولي. كيف لا، وإجرام النظام محميٌ بفيتو مزدوج روسي-صيني للمرة الرابعة، باسم السيادة وعدم شرعة التدخل الخارجي في شؤون الدول.
الجعفري ذهب بعيداً حين طالب الحكومة الفرنسية بالاعتذار عن حقبتها الاستعمارية، ودفع تعويضات للشعب السوري. تحدث وكأنه وريث الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين 1925-1927، وحامل إرثها الوطني الكبير. ولكنه حين استعاد من التاريخ البعيد ما يناسبه، نسي حين تعلق الرئيس بشار الأسد، بأستار الإليزيه طلباً لفك العزلة الدولية المضروبة على نظامه، بعيد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
كما أن ذاكرة المندوب الدائم العروبية، لم تنسه سلخ فرنسا للواء الاسكندرون في العام 1939، وضمه إلى تركيا كرشوة لمنعها من دخول الحرب العالمية الثانية مع دول المحور. الجعفري ربط قضية لواء الاسكندرون، بشكل مغلوط باتفاقية سايكس بيكو، فالـ”الحقائق” يمكنها أن تستقيم كما يشاء ممثل نظام بشار الأسد.
لم يجانب الصواب الجعفري، حين أكد بأن الدول تتحمل المسؤولية الحصرية في المساءلة والعدل وانفاذ القانون على أراضيها، كركيزة أساسية للقانون الدولي. لكنه ربط ذلك بإجراءات حكومته لمساءلة المتورطين في الأحداث السورية، واتخاذها التدابير القانونية والقضائية بحقهم. فالقضاء السوري نظر في 30 ألف دعوى قضائية، أصدر فيها أحكاماً ضد المتورطين، وسوّى أوضاع البقية. الجعفري الانتقائي أغفل عمداً مقتل عشرات الآلاف تحت التعذيب في أقبية الأجهزة الأمنية، ممثلة الدولة السورية العميقة، ومُسيرة قضائها العادل. الجعفري كما فعل باستحضاره التلفيقي للتاريخ، استخدم القانون لذر الرماد في عيون العدالة. رافضاً محاولة أي جهة قضائية دولية ـالجنائية الدولية- منازعة القضاء السوري اختصاصه. لذلك سبب وجيه، فالأزمة السورية كشفت عمق المعايير المزدوجة لدى المؤسسات الدولية، ويتم “استخدامها لاستهداف دول بعينها في مناطق محددة في العالم باسم العدالة والقانون”.
المندوب الدائم وصف مشروع القرار الفرنسي بأنه: “نص سياسي تمييزي تدخلي بامتياز، يهدف للتشويش على الانتخابات الرئاسية في سوريا، وخلط الأوراق، وتأجيج الأزمة، وتحقيق أهداف إعلامية استعراضية، واقحام مجلس الأمن في هستيريا عداء بعض الدول لسوريا دولة وشعباً”. مشككاً في الأسانيد التي ساقتها الدول الراعية للمشروع، التي “ما هي إلا ادعاءات مختلقة، وأكاذيب مفبركة، وشهود زور تضمنتها تقارير مسيسة منحازة تجافي الصواب”. فاللجان التي قدمت تلك التقارير، تجاهلت عمداً مصداقية الحكومة السورية، وما قدمته لها من وثائق وأدلة دامغة و”قرائن وبراهين” على الحملة العدوانية التي تشنها دول كثيرة على سوريا.
الجعفري استخدم في كلمته كامل مفردات القاموس القانوني الدولي، وأكثر من استعمل مصطلح “العدالة الصرفة” لمواجهة الجريمة الأم “العدوان” التي تتعرض لها بلاده. عالم الجعفري اللغوي المتخيل، خلا من مفردة واحدة: الأخلاق.
المدن