مجلس الأمن وسوء الصيت المستحَق
نهلة الشهال
تدور واحدة من وجوه المعركة بخصوص سوريا اليوم حول اتخاذ مجلس الامن الدولي قراراً بشأنها، قرار إدانة بالطبع، يحول دونه حتى الآن تهديد روسي بحجبه عبر استخدام حق النقض أو الفيتو. يثير هذا الامر نقاطاً عدة، تعود الى المبدأ كما الى السياق المحدد. لعل أولاها يحتاج الى تذكير المدافعين عن تمكين مجلس الامن من هذه الخطوة، وبالتحديد منهم بعض رموز المعارضة السورية التي لا تنتمي الى دوائر ترعاها واشنطن سياسياً واستخبارياً أيضاً، بل الى تيارات يسارية، مناهضة للعولمة، وبهذا المعنى ثورية وغير محنطة. ولا بد من تسجيل هذا التحديد لأن خيانات اليسار الوطنية باتت أكثر من أن تحصى، وقد افتتحها بعض الحزب الشيوعي العراقي بالوصول الى بغداد على ظهر الدبابات الاميركية. ويقال اليوم إن بعض هذا البعض نادم، بعدما رأى الثورات العربية الناجــحة، ويقـول إنه ربما كان عليه إبداء ثقة أكبر بمجتمعه، عوضاً عن استعجال الخلاص من صدام حسين بهذه الطريقة البشعة: صح النوم!
على أية حال، ان المعارضين السوريين الصادقين والشرعيين تماماً بنظر مجتمعهم، يدافعون عن مثل هذا التدخل الدولي بحجة أنه لا يحتوي على بعد عسكري، وبحجة أنه يسمح بتعديل توازن القوى لمصلحة حركة الاحتجاج الشعبية الهائلة، مما قد يعجِّل في حمل النظام على إدراك استحالة استمراره في النهج البائس الذي يعتمده، ويجبره على الرضوخ للمطالب العامة.
وهم بذا يعودون الى ممارسة المنطق الانفصامي. وخاصية هذا أنه، لحظة ما يدخل في معركة سياسية كبرى، يتناسى كل تحليلاته التي أنتجها بعقل بارد وبعد دراسة وملاحظة وتفكير، ويروح يظن أن القوى الدولية تعمل في خدمة الشعوب وأن مجلس الامن هو نوع من الجمعية الخيرية. بينما كان هؤلاء المعارضين يدعون منذ برهة الى حل مجلس الامن كمؤسسة موروثة عن توازنات الحرب العالمية الثانية، والتي تؤبد وضعية انتهت أسسها، وهي لا تفعل غير تعزيز سطوة واشنطن والعواصم الغربية في وقت تغير فيه توازن القوى الفعلي على الأرض في العالم. وإن لم يكن حل مجلس الأمن، فتوسيعه وربط صلاحياته بالجمعية العامة للأمم المتحدة. وهذه الاخيرة، وللتذكير، تفتقد أي سلطة، وهذا أمر مجحف علاوة على كونه خطيراً.
ثمة ثانياً حاجة للتذكير بتاريخ مجلس الامن البالغ السوء، بخصوص الشؤون العربية كلها، وعلى رأسها المسألة الفلسطينية، وبمسلسل الفيتو الذي مارسته الولايات المتحدة ضد أي قرار إدانة بحق إسرائيل مهما كانت الفظاعات التي ترتكبها، وحتى حين تصوت لمصلحة مثل هذه الادانة تلك الجمعية العامة العتيدة. وأيضاً بتنظيم حصار العراق لأكثر من عقد من الزمن واستلحاق نفسه بإجازة الحروب عليه بعد شنها.
هل من حاجة لتعداد سائر الوقائع؟ مسبقاً، تهدد واشنطن اليوم بحجب إمكان قبول عضوية فلسطين كدولة في الامم المتحدة، ولو صوتت على قبولها الجمعية العامة في أيلول/سبتمبر المقبل، وذلك عبر استخدام الفيتو في مجلس الامن. لذا فمن المستغرب حقاً أن يستغرب السيد جوبيه، وزير الخارجية الفرنسي، خلال زيارته منذ بضعة أيام لروسيا، معارضة هذه الاخيرة قرار إدانة لسوريا في مجلس الامن. قال جوبيه في موسكو إن القيادة الفرنسية «لا تفهم الحجج والأسباب التي تكمن وراء موقف بعض الدول الرافض، بما فيها روسيا، لتبني مشروع قرار لا ينص على أي تدخل عسكري خارجي في سوريا». واعتبر أن «المجتمع الدولي لا يمكنه أن يتغاضى أكثر عما يجري في هذا البلد، لذا يجب على مجلس الأمن أن يتعاطى مع تطورات الأوضاع في سوريا بأسرع ما يمكن من خلال إصدار قرار بهذا الشأن». وهذه تصريحات معيبة لأنها تدّعي براءة مفضوحة الكذب.
بل انظروا اليوم الى التحرك الدولي الرسمي المدهش ضد أسطول الحرية الثاني العالق في الموانئ اليونانية، ممنوعاً بقرار يوناني رسمي من الإبحار باتجاه غزة! لقد ساد منطق غريب يقول بأن اسرائيل، ما دامت تهدد بمهاجمة السفن، فعلى هذه الاخيرة الامتناع عن استفزازها، ليس لأنها محقة بل لأنها قادرة على القتل! أليست تلك شرعنة رسمية لشريعة الغاب وتسييداً لها من هؤلاء السادة وحكوماتهم وسلطاتهم؟ مِن بان كي مون الى أوباما الى الرباعية أخيراً، لم تبق هيئة دولية إلا وناهضت… أسطول الحرية، وليس السلطات الاسرائيلية. كيف يستقيم هذا مع الصرامة حيال سوريا؟
أعلم أن وضع فلسطين دوماً في معادلة مع سائر ما يجري في العالم ليس «موقفاً بناء» كما يقال، ولكن لا بد من حد أدنى من المقاييس المتـشابهة، وإلا وقع هذا العالم في الافتقاد التام للعدالة، وهذه عبودية وليست ديموقراطية أو ما شابه.
أخيراً، علمتنا التجربة أن الامر يبدأ عادة بقرار إدانة من مجلس الامن وينتهي بمبادرة حربية منفردة أو متخذة من الناتو. قد لا يمكن شن حرب على سوريا اليوم لاعتبارات لا تتعلق حتماً بالأخلاق، بل مجــدداً بتـوازن القوى والتداعيات الخطيرة المحتملة لمثل هذا الامر. ولا بد، قطعاً، من القول إن مثل هذا العدوان العسكري مدان أياً كانت تبريراته، لأنه يتجاوز النظام السوري ـ المدان تماماً ـ الى تهديد سوريا كبلد ومجتمع. المثال العــراقي طرح كل تبعاته البشعة، والمثال الليبي سيفعل قريباً. وهذا لا يعني منح الانظمة الاستبدادية والاجرامية مساحة أو حصانة لارتكاب كل شيء، بل الإقرار بأنه لا يمكن مقاربة وضعيات معقدة بحلول مبسطة، وخصوصاً حين تكون هذه الاخيرة خبيثة!
السفير