محاكاة الحرب الكونية والموجة العربية الثالثة
سليمان تقي الدين
اعترض الأميركيون مبادرة الجامعة العربية في سوريا قبل أن يحدّد طرفا النزاع موقفهما منها. هم لا يريدون حتى هدنة إنسانية لعل وعسى تكون فرصة للمراجعة السياسية. يدهم الوقت الإدارة الأميركية في سعيها إلى نشر الفوضى حيث تفشل في بسط سيطرتها المباشرة. استطاع الأميركيون والتحالف الأوروبي الغربي تجويف الجبهة المقابلة لهم من وسطها في مسعى «لمنع تمدّد النفوذ الإيراني» كما قال نائب وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان.
ربما كان الأميركيون يعرفون صعوبة التغيير في سوريا وتداعياته. وربما استعجلوا ذلك بعد أن صارت مصر خارج السيطرة والعراق تحت النفوذ الإيراني. لكن الأكيد لا يزعجهم استنزاف سوريا دولة وشعباً ولا يأبهون لهذا المسلسل الدموي المستمر ولا يحصون ضحاياه إلا لاستثمارها.
دعا الأميركيون المعارضة السورية لكي «لا تلقي السلاح» وهم أنفسهم يتحدثون عن مخاطر الانزلاق في طريق الحرب الأهلية. أخرجوا سوريا من دور اللاعب الإقليمي إلى كونها دولة غارقة في مشكلاتها الداخلية وعبئاً على حلفائها. هم يقولون «إن التغيير في سوريا طويل وصعب» غير أن الأولوية في مشروعهم ليست الديموقراطية بل إزالة العوائق الجدية وغير الجدية من أمام صياغة نظام إقليمي يؤمّن ضمانات لمصالحهم في النفط وإسرائيل. أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون
صراحة استعدادها للتعاون مع «الإسلاميين» بعد أن كان الأميركيون يصفون الإسلام السياسي على أنه حركة مناهضة للتقدم والديموقراطية وبالفاشية أحياناً. وفي كل مكان يعيد الأميركيون التموضع داخل المؤسسات القديمة للأنظمة ويحتضنون المؤسسات الأمنية وهي تكبح حركة التغيير. يذهب البعض إلى القول إن الأميركيين يستسيغون «النموذج الباكستاني» لا «النموذج التركي» ليُستنسخ في العالم العربي. في باكستان السلطة هي للمؤسسة العسكرية المشبعة بالإيديولوجيا الإسلامية والمتورطة في فساد النظام المالي والأمني. يظهر أن المؤسسة العسكرية المصرية قد التقطت هذه الفكرة الأميركية فهي التي تدير التحوّلات في مصر لكي تظل هي مرجعية النظام.
هكذا تجد الحركة الديموقراطية المصرية نفسها بحاجة إلى «ثورة في الثورة» وتنزل مجدداً إلى الميدان لاعتراض سياسات الحكومة التي لم تغيّر النهج السابق خاصة في المسألة الاجتماعية. على أي حال ليس الأميركيون وحدهم الذين يصنعون الإطار العام للمنطقة. لقد ساهموا من دون شك قصداً أم بغير قصد في رفع منسوب المشاركة السياسية حين بدأوا يتصادمون مع حلفائهم القدامى الذين كانوا يتولّون كزعماء تقرير مصير شعوبهم ودولهم. دائماً كانت حركة التاريخ أكثر تشعباً وتعقيداً مما نتصور.
ففي ظل الحرب الإمبريالية بين الكبار ظهرت حركات التحرر الوطني والاستقلال. عشية الحرب العالمية الأولى خرجت الثورة العربية بقيادة تقليدية فكان مآل ذلك نشوء الكيانات العربية تحت الانتداب. وفي الحرب العالمية الثانية تجذّرت الحركة العربية وظهرت الحركات القومية المنظمة. ربما نحن الآن في الموجة العربية الثالثة التي تضع المسألة الديموقراطية في رأس أولوياتها. لكن ما يقلق أن المسار التاريخي هذا أدى إلى تحجيم العالم العربي مرة باقتطاع أجزاء مهمة منه لصالح دول إقليمية أو لصالح الاستيطان الصهيوني ومرة بجعله تحت أجنحة دول كبرى وحمايتها. وهذه المرة نذهب في اتجاه المزيد من التلاعب بالمكوّنات الوطنية في ما يُعرف الآن من استثارة للهويات الإثنية والمذهبية والجهوية. في واقع الأمر حارب الغرب «القومية العربية» ونجح في قطع الطريق على أي شكل من حركة الاندماج العربي.
منذ نصف قرن تضافرت أربع قوى إقليمية لإحباط المشروع العربي، إسرائيل، وإيران عهد الشاه ودوره كشرطي للخليج، وتركيا ودورها في حلف بغداد، والمملكة العربية السعودية ودورها في دعم السياسات المحافظة. تبدّلت سياسات هذه الدول كثيراً لكن ما زالت تشكّل رؤوس جسور في اتجاهات متعاكسة لنشوء كتلة عربية وازنة. خلال نصف قرن فشل النظام العربي في التوافق على أمنه القومي. القوى التي حملت فكرة العروبة كإطار جامع مارست أسوأ أشكال التنافر والنزاعات المستمدة من مصالح وسياسات ضاربة في أعماق القطرية. تحوّل الاستبداد السياسي إلى نموذج معمّم عربياً حيث قلّد الجمهوريون الملكيون وتفوّقوا عليهم في تجذير السلطة العائلية والاستئثار في موارد الدولة. عشية ظهور الربيع العربي كان النظام الرسمي العربي قد أنجز تصفية فكرة العروبة بعد سلسلة من تجارب التحالفات والتجمعات الإقليمية غير العربية.
تحوّل النظام الرسمي العربي إلى راعٍ أصيل لحركات الإسلام السياسي بأشكالها المختلفة. ذهب العراق في حربه مع إيران إلى استحضار التاريخ المزدوج القومي والمذهبي، ورعت سوريا حركات طائفية ومذهبية في الخارج وأسقطت من الحساب معركتها مع الإسلام السياسي الذي كان يتنامى تحت أجنحة نظامها المترهّل المثقل بإرث طويل من المشكلات والأزمات. صار حزب البعث أداة ثانوية في مشروع السلطة مستتبعاً لها وليس قائداً لها كما يشاع. خلال ثلاثة عقود من إدارة سورية للملف الفلسطيني واللبناني تنامت ثقافة الانعزال لدى هذه الشعوب أكثر بكثير مما صنعت سايكس ـ بيكو. وحين خرجت سوريا من لبنان بأسوأ ما يمكن أن يتوقعه عروبي الهوى وضع ما بقي من عروبيين في لبنان كل رصيدهم ليحجزوا المؤامرة عنها. وحين تجاوزت سوريا هذا القطوع الخطير بعد حرب تموز عادت أدراجها إلى الدفاتر القديمة والسياسات الإلحاقية خارج أي مشروع استراتيجي عربي.
لنفرض أن سوريا الآن اجتازت أزمتها الأمنية وصدّت الهجمة الغربية عليها، ولنفرض أن المعارضة المسلحة التي يتأكّد وجودها فعلاً، ومعارضة الخارج التي يتأكّد ارتباطها بالمشروع الغربي قد توقفت عن «التخريب» على سوريا فهل يستطيع النظام أن يبني نموذجاً وأي نموذج، وأن يستعيد «سياسته الممانعة» وأية ممانعة في ظل عالم تعصف به المشكلات من كل جانب؟ ولنفرض أن الإسلاميين جاؤوا إلى السلطة فلن يشكّل ذلك نهاية للمطاف في منطقة لديها أكثر من تحد واحد، تحديات الحريات السياسية والديموقراطية، وتصادم ثقافة الهويات المذهبية، والصراع التاريخي مع إسرائيل الذي ينفتح اليوم على استحالات التسويات السياسية، وتحديات الاقتصاد والاختلالات الكبرى في مجتمعات تعاني هذا الاستقطاب الحاد للثروة المتراكمة في جهة والمنعدمة في معظم فئات المجتمع. هكذا يشعر المرء وهو يواجه هذا السيل من التدخل الخارجي وكأنه يدافع عن ذاكرة إنجازات لا عن إنجازات محتملة. لقد انهارت آخر مواقع النظام الرسمي العربي بألوانها المختلفة وهي من استنبت لنا ظاهرة الإسلام السياسي الذي يهجس به العالم العربي الآن و«الإرهاب السياسي» الذي يتكوّن من العنف السياسي الممزوج بالفكر الديني المتشدد. إذا كانت هذه الاعتبارات قائمة فعلاً في المشهد العربي فهي أدعى للتفكير بما بعد هذا الزلزال العربي الذي ستكون له ارتدادات في كل مكان. ليس صحيحاً أن مصير العالم سيتوقف عند ما يجري في سوريا على أهمية ذلك في السياق الإقليمي والدولي، الأرجح دون الإفراط في التوقعات أن كل الملفات مفتوحة الآن على الطاولة، من إيران إلى الأزمة المالية العالمية إلى نفوذ الجبابرة أميركا وروسيا والصين، فهل تعالج هذه الملفات أم تجرجر أذيالها حتى الانتخابات الأميركية المقبلة؟
السفير