صفحات سوريةمازن كم الماز

محاولة طبقية لفهم احتمالات تطور الثورة السورية

 

    مازن كم الماز

بعد أن تمكن النظام السوري من احتواء أو سحق المعارضة النخبوية و معها آخر محاولات الشارع السوري لتنظيم حراك مجتمعي حر في ثمانينات القرن الماضي , لم يبق من السياسة في سوريا إلا الصورة الرسمية التي كانت ترعاها أجهزة الأمن بكل مشاهدها من “انتخابات” و “الجبهة الوطنية” و أحزابها و “نقابات” الخ .. بعد نجاح النظام في إقامة الدولة البوليسية تسارعت عملية برجزته و أخذ يفقد قاعدته الاجتماعية التقليدية في الريف لصالح قاعدة اجتماعية أضيق تمثلت في البرجوازية الوسطى المدينية .. عوض الأسد الأب ذلك بمهارته في اللعب على الانتماءات المناطقية و الطائفية و توزيع الامتيازات بين الطوائف و المناطق لربط جزء من قياداتها بنظامه .. لكن مع تزايد ثراء الطبقة الحاكمة و تزايد فقر الطبقات الكادحة كانت التناقضات الطبقية تتفاقم حتى وصلت مستويات غير مسبوقة مع السياسات النيوليبرالية لحكومات الرئيس الابن و تصاعد نهب العائلة الحاكمة للبلاد .. جاءت القوى الاجتماعية التي صنعت الثورة و شاركت فيها من مواقع طبقية متعددة , جاء أكبرها و أكثرها كفاحية من الريف و من مهمشي المدن , أو ريف المدن تحديدا , كان هناك أيضا ناشطون أقل عددا من الطبقة الوسطى و حتى من نخبة الطبقة العليا .. في نفس الوقت مثلت الثورة تجاوزا لكل الأشكال السياسية السابقة على قيامها , فجأة دخل جيل جديد من الشباب معترك السياسة من أوسع أبوابها من باب صنع و المشاركة في ثورة شعبية ضد الاستبداد و الاستغلال , جيل لم يعرف الأحزاب المؤدلجة و لا التنظيمات المغلقة للحركات السياسية القومية و اليسارية و الإسلامية و لا التنظيمات الليبرالية لفترتي الانتداب و بعده و التي تمحورت حول قيادات و شخصيات تقليدية نافذة .. هكذا و مع المواجهات الأولى أنتج هذا الجيل الشاب الثائر أشكالا تنظيمية جديدة غير مألوفة لا للسياسيين و لا للمثقفين السوريين , و لا المعارضة الليبرالية و لا الإسلامية , و لا للنظام السوري أيضا : التنسيقيات , ثم المجالس المحلية و أخيرا كتائب ( ميليشيات ) الجيش الحر .. مثلت هذه الأشكال ظاهرة جديدة تماما , و كانت أهم أهداف قمع النظام الدموي في محاولته سحق الثورة , لذلك ربما لم تتمكن هذه الأشكال الجديدة من مراكمة أو تطوير تجربتها , إلا في شقها العسكري المتمثل بكتائب المعارضة المسلحة .. كان موقف الخارج , لا سيما دول الخليج و أوروبا و أمريكا , مراقبا في الأشهر الأولى للثورة , احتفظت جميعها بعلاقات ما مع النظام أو حاولت الضغط عليه باتجاه تطبيق “إصلاحات” ما , لكن تصاعد الثورة الذي عبر عن تصميم الشعب السوري على مواصلة ثورته , إلى جانب حسابات سياسية إقليمية و دولية أخرى فعلت فعلها في تغيير هذا الموقف .. تعرف دول الخليج أنه ما أن تتمكن إيران من تطوير سلاحها النووي حتى يصبح من الصعب حتى على أمريكا حمايتها من تنمر الجار السمج الذي يزداد قوة و وقاحة , و لا شك أن خوفها من سلاحه النووي لا يقل عن خوف إسرائيل منه .. طبعا كانت الثورة السورية ضد الحليف الأبرز أو الوحيد لنظام ملالي طهران في المنطقة فرصة لا تفوت لإضعاف إيران على المستوى الإقليمي و حتى داخليا تحت وطأة التكلفة الباهظة لدعمها لنظام الأسد .. في تلك الفترة كانت القوى الإسلامية , إخوانية و سلفية و جهادية , قد بدأت تدخل هي أيضا إلى الساحة .. لا يعرف المقاتل الشاب في كتائب المعارضة المسلحة بما في ذلك الجهادية منها و لا الناشط الشاب غير المؤدلج أو ابن المناطق الثائرة , حقيقة معنى الدولة الدينية التي أصبح ينادي بها عدد كبير من هؤلاء , إنه يعرف أن النظام الذي قمعه و نهبه طوال عقود , الذي يجوعه و يرميه بالقنابل و براميل الت إن ت , هو عدوه الوحيد , و هو يستنتج من عداء هذا النظام للإسلاميين أنهم القوة التي تحمل مشروع خلاصه و أن تلك الدولة “الدينية” تعني كل ما هو نقيض النظام , القمعي و الفاسد .. صحيح أن الإسلاميين استخدموا أيضا الإمداد بالمال و السلاح لتقوية نفوذهم , لكن تأثير هذا لم يكن هو الحاسم على الأغلب في مكاسبها المهمة في الشارع , بل يمكن الزعم بأن محاولاتهم شراء الذمم و الولاءات و رشوة الثوار و الناشطين كانت جزئيا ذات مفعول عكسي ضد ما ينسبونه لأنفسهم من ممارسات أخلاقية و عقائدية تقع خارج الفساد المألوف في السياسة .. لقد وجد الإسلاميون أنفسهم في مقدمة حالة ثورية لم يفهموها و لم يكونوا مسؤولين عنها , بل إن كثيرا منهم , إن لم نقل أغلبهم , هم ضد قيامها من حيث المبدأ لالتزامهم بمبدأ تحريم الخروج على الحاكم الجائر أحد التعاليم الأساسية للإسلام السني المتأخر الذي كان قد أصبح الإيديولوجيا الرسمية للسلطة في الدولة العربية الإسلامية القروسطية .. مصدر الخطر في سرقة الثورة السورية من أصحابها ليست في الحقيقة في الفهم الشعبي المبهم لشعار الدولة الدينية و لا في التبني الشعبي الجزئي رغم أن هذين العاملين قد يسهلان سرقة الثورة السورية من الإسلاميين فعلا , المشكلة هي في رغبة القيادات الدينية في تحويل كل ذلك إلى أمر واقع , إلى هيمنتها على المجتمع , إلى سلطة واقعية , ستكون سلطة شمولية توليتارية غالبا .. حتى مع ذلك تبقى هذه الرغبة لوحدها قليلة الخطر , الذي يمنح هذه الرغبة أرجل و يدين , هي عملية البقرطة و البرجزة المتسارعة , باستخدام المال الخليجي , لقيادات الحراك الشعبي , خاصة العسكرية منها , و جزئيا , قيادات الحراك السلمي أيضا .. لقد ضعف الحراك الشعبي و أصبح مضطرا تحت ضغط حصار و قمع النظام و سياسات الأرض المحروقة التي ينتهجها ليبحث عن موارد لاستمرار الحياة و مواصلة الصمود و المقاومة , لكن هذا جاء لصالح قيادات هذا الحراك التي أصبحت هي من يتخذ القرارات المصيرية المتعلقة بالثورة دون مشاركة مؤثرة من الشارع و لا من قوى الحراك نفسها , هذا لأنها أصبحت تمتلك موارد مالية كبيرة في مقابل تزايد مريع في حاجة الشارع الثائر للمساعدات لكي يواجه النتائج الكارثية لعنف النظام .. سيكون التنافس غالبا في المرحلة اللاحقة على دمج هذه القيادات الآخذة بالانفصال السريع عن الجماهير إما في منظومة القيادات الإسلامية التي تحاول منذ فترة دمجها في تشكيلات و تنظيمات عسكرية تحت سيطرتها لكن دون أن تحقق نجاحا كاملا في هذا حتى الآن , أو في منظومة المعارضة السياسية التي تعول عليها كثيرا أمريكا و أوروبا , و ربما أيضا دول الخليج التي ذاقت الأمرين بعد كل موجة جهادية , سواء الجهاد الأفغاني أو العراقي , رغم أن هذه المعارضة أكثر عزلة و هامشية في التأثير على ما يجري على الأرض .. مع كل هذا , على الأغلب أن تظهر و تتشكل تيارات و حركات شبابية , سواء من الطبقة الأفقر أو الوسطى , مستقلة عن هذه المراكز ستبقى في الأغلب كممثلة أكثر التصاقا بالطبقات الأفقر وفية لشعارات الثورة الشعبية في الحرية و العدالة و الكرامة الإنسانية لتلك الطبقات بالتحدي , و قد تتمكن , بعد السقوط الوشيك أو شبه الحتمي للنظام , من تشكيل قوة ضغط حقيقية في اتجاه تحقيق شعارات الثورة السورية تلك أو معارضة شعبية مؤثرة للسلطة القادمة في سوريا .. عندها سيتوقف كل شيء على المزاج الشعبي بما في ذلك موقفه من التحقق الفعلي لشعار الدولة الدينية أو تزايد الطابع الديني للدولة , بشكل لن ينسجم لا مع تصوراته المسبقة عنها و لا مع مصالحه أو شعارات ثورته , أو أن ينحى مرة أخرى نحو اللا مبالاة و يبحث مرة أخرى عن حلول فردية لمشاكله الجماعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى