محاولة لإعادة الاعتبار لشعار الحرية
مازن كم الماز
أحيانا يكاد المرء ينسى وسط الخضم المتلاطم لهذا الصخب، المفيد مع ذلك، وحتى الجميل، نكاد ننسى لماذا قام السوريون بثورتهم. وسط هذا التخوين ووسط عبارات التكفير الدينية والعلمانية يجد المرء نفسه بينما يحاول أن يفكر ويقول رأيه بشيء من الحرية وقد شل عقله أو لسانه بسبب نوبة رهاب مشابه لرهابه المرضي القديم من رجل المخابرات. إن التخوين أو التكفير هو وسيلة إرهاب فكري وعقلي قبل أي شيء وهو اللغة الوحيدة التي تتقنها الديكتاتوريات والقوى السلطوية الشمولية، الشيء الوحيد الذي يحد من تأثيره المدمر على حرية التفكير والتعبير عند السوريين اليوم هو أن الجميع يمارسه على قدم المساواة ودون أن يدعمه إرهاب جسدي موازي. الغريب في الموضوع أن القوى التي تدبر في وضح النهار لسلب السوريين حريتهم إذا نجحت في الاستيلاء على ثورتهم هي التي تتمتع بأكبر قدر من الوقاحة في تكفير كل من يعترض على دعواتها العلنية الصريحة لفرض نير استبدادها على السوريين وتعتبر كل شكوى أو تردد أو نقد لمحاولتها هذه في أن تأخذ مكان النظام في استعباد السوريين ‘خيانة’ أو ‘كفر’ ليس فقط بمقدسها بل بالثورة نفسها، طعنة موجهة للثورة.
يجد البعض اليوم صعوبة بالغة حتى في لفظ كلمة الحرية. تماما كما كان عليه الحال في أيام الصمت المرة، ذلك الليل الطويل الذي فرضته الديكتاتورية على عقولنا وأجسادنا وأرواحنا طوال عقود. الحرية التي كان يفترض أن تكون أساس حياتنا القادمة بعد إسقاط النظام، التي مات من أجلها وعذب الآلاف، يحاول البعض أن يجعلها مرة أخرى كلمة سرية مطاردة، مجرد هرطقة. لا يجب هنا تبسيط المسائل واتهام الإسلاميين، رغم أن هذا الاتهام قد يكون مبررا فعلا، بأنهم وحدهم من يمارس عملية الترهيب هذه بشكل منهجي كمقدمة غالبا لسرقة الثورة من أصحابها. الحقيقة أنه لا يمكن اليوم التمييز بين خطابات أغلب علمانيي وإسلاميي المعارضة السورية كما يصفون أنفسهم إلا بشخوصهم، فممارسة العنف والإرهاب الفكري والروحي هي سمة مميزة لأغلب القيادات السياسية للمعارضة، وإلى حد ما أيضا لمن يمارس الفعل الثقافي وإن على استحياء أكبر .. بالنسبة للإسلاميين الموضوع ‘بسيط’ جدا، إنهم تجسيد المقدس على الأرض وهذا التماهي المزعوم بالمقدس يكفي لكي يتوجوا أنفسهم آلهة فعليين على هذه الأرض. بالمقابل أثبت علمانيو المعارضة أيضا أنه لا مشكلة لديهم لا في الخطابات الطائفية التي أتقنوها ومارسوها برطانة لا تقل عن الشيخ العرعور ولا في رفعهم الشعار الستاليني الناصري القديم والقمعي لأي حس نقدي وبالتالي لأي محاولة للتفكير المستقل ‘لا صوت يعلو على صوت المعركة’ أو في ممارساتهم الترهيبية الأخرى أو غير ذلك من نتاج وعيهم الشمولي. النخبة السورية العلمانية المعارضة لا تمانع اليوم، إن كان ذلك ضروريا، في تحول سوريا إلى دولة تقوم على محاصصات طائفية أو مناطقية، المهم أن تحكم هي تلك الدولة أو تشارك في حكمها. إنها براغماتية لدرجة أن تتبنى خطابا طائفيا لا يتمايز عن الإسلاميين إلا في عباراته الأكثر تهذيبا، رغم أنه يجب أن نعترف أيضا أنها قد تكون صادقة في خطابها الطائفي ولا تراه فقط كتكتيك شعبوي ضروري عابر. نحن مضطرون هنا لأن نميز بين موقف هذه النخب وبين موقف الشارع السني الثائر تحديدا، لأن قسما كبيرا من السنة أبناء حلب ودمشق حذرين من الثورة بنفس درجة حذر أكثرية الأقليات الطائفية منها. تعرض الشارع السني الثائر لعنف همجي واستثنائي منذ بداية الثورة عمل من خلاله النظام جاهدا على استدراجه إلى حرب أهلية مفتوحة قد يرى فيها طوق نجاته من مصيره على يد الثورة. حتى الملائكة لا يمكنها أن تتحمل كم الموت والإذلال الذي مارسه النظام، في كثير من الأحيان من خلال فقراء علويين ضد الفقراء المنتفضين من السنة. لكن إذا كان التطييف بما في ذلك العنف الطائفي رد فعل أكثر من منطقي من جانب الشارع الثائر السني تحديدا، فإن النخبة العلمانية المعارضة، التي تتشكل أساسا من كل الطوائف والأديان بنسب متقاربة إلى حد ما، والتي يفترض أنها لم تعرف يوما لا منطق المحاصصة الطائفية أو حتى المنطق الطائفي نفسه كضد لمفاهيمها اليسارية والقومية سابقا والليبرالية حاليا، والتي لم يقتل أولادها أو يسحلوا أو تغتصب بناتها أو تهدم بيوتها، لا يمكنها أن تختبئ وراء قمع النظام وعنفه الطائفي لتبرر تطييفها هي. لقد تحولت النخبة لأسباب نفعية أو بسبب قصور في فهمها للعلمنة، تحولت من الإيمان بالقومية كدين إلى الإيمان بالدين، أو الطائفة، كقومية. لكن يبدو أيضا أنه يجب أن نلتمس شيئا من العذر مع ذلك للجميع، فالفصام الإنساني الذي تنتجه المعاناة الإنسانية والتناقضات المستعصية في الأنظمة الشمولية والمجتمعات الطبقية المحصنة بمؤسسات قمعية عميقة الأثر بحيث أنها ما تزال صامدة وناجحة رغم آلاف السنين من عمر البشرية ونضالاتها المستمرة، هذا الفصام يصيب الجميع، وأصعب أعراضه هو أننا لا ندركه بسهولة. احتاجت البشرية إلى آلاف السنين لتدرك خطأ اعتقادها بدوران الشمس حول الأرض وإلى محارق وأضاحي بشرية أيضا، لكننا بفضل تلك الكتب المحترقة وذلك الدم واللحم المشوي نتمتع بحياة أفضل نسبيا من أسلافنا. الغريب هنا أن النظام البعثي ثم الأسدي أعاد إنتاج الطائفية وكل أشكال التمييز بين البشر على أساس انتماءاتهم الموروثة بينما كان يدعي إنتاج دولة وطنية جامعة، كان هذا ضروريا لحكمه. اليوم أيضا يمارس علمانيو المعارضة نفس الشيء: يتحدثون عن هوية وطنية جامعة لكنهم بخطابهم الطائفي الصريح أو المبطن، يشاركون بإعادة إنتاج كل ما هو طائفي وغيره من أشكال التمييز بين البشر حسب انتماءاتهم الموروثة كضرورة أيضا للوصول أو المشاركة في السلطة. إننا نبقى في نفس الدائرة الجهنمية المغلقة التي تعود بنا إلى نقطة الصفر دائما. ربما لأننا كعلمانيين لم نختر بعد أن نطلق العنان لعقولنا ووعينا لنفكر بحرية، أو بسخف أو رهافة أو استمتاع، لكي نكتشف أن شمسنا أيضا لا تدور حول أرضنا، وربما لأننا لسنا مستعدين لكي نتسلق المقاصل والمحارق في سبيل ذلك. دائما يبقى الخيار الآخر أفضل: أن تحكم، وتفشل، وتنجو، بينما يعاني أو يموت الآخرون من أن نموت وينجو الآخرون، وربما أن يعيشوا بحرية.
كاتب سوري
القدس العربي