صفحات الثقافة

«محكومون بالأمل»/ مصطفى زين

 

 

أثار إهداء عائلة المسرحي سعدالله ونوس مكتبته إلى الجامعة الأميركية في بيروت الكثير من اللغط بين مؤيد لذلك، لأن سورية لا تتسع لحلمه، ومعترض لأن نقل المكتبة إلى عهدة الجامعة خيانة لتراث الراحل ومواقفه الوطنية. لكن قلة ممن تناولوا الموضوع لم يلتفتوا إلى أعماله، أو أسئلته الكبرى المطروحة بإلحاح هذه الأيام.

كان سعدالله مولعاً بالتاريخ، يسقطه على الواقع، مجدداً في المسرح العربي، من خلال هدم الجدار الرابع، وإشراك المشاهدين في العمل، متحاشياً الإيهام والتغريب، من دون الإنجرار إلى الواقعية الفجة التي تقتل فنية العمل.

في مسرحية «رأس المملوك جابر»، مثلاً، يحاول الوزير، في عهد المنتصر بالله، الاستعانة بجيوش الأعداء لنصرته فيستغل المملوك وضعه الحرج ويقترح عليه أن يكتب الرسالة على رأسه لنقلها إلى هؤلاء الأعداء ثم ينطلق في مهمته، حالماً بمنصب رفيع وبالثراء والجواري (إقرأ الحور العين) بعد انتصار سيده، لكنه يكتشف بعد فوات الأوان أن الوزير طلب في رسالته قطع رأسه.

في «منمنمات عربية» يتناول ونوس واقعة المفاوضات التي أجراها إبن خلدون مع تيمورلنك، ممثلاً فريقاً من «العلماء» الانتهازيين الذين أفتوا بتسليم العاصمة الأموية إلى العدو، فيما أصر آخرون على المقاومة. المسرحية تجسد العلاقة الجدلية بين سلطة الثقافة والسلطة السياسية. وللمثقف تبريراته في الانتهازية والانحياز إلى السياسة. يقول مؤسس علم الاجتماع لتلميذه: «ألا تعلم يا شرف الدين أن صبغة الدين حالت. وأن عصبية العرب زالت وأن الجهاد لم يعد ممكناً». وحين يعترض تلميذه، مؤكداً أن عصبية أهل دمشق ظهرت بقوة أثناء تشييع أحد الشهداء وظهر استعدادهم لقتال المغول، يقول له «هذه ليست عصبية. تشدق الأحداث وهياج العامة والدهماء ليست من العصبية في شيء. الناس هنا أهل مدينة وحضارة بلغ فيهم الترف غايته. وسقطت عنهم العصبية بالجملة».

هل كان إبن خلدون يدافع عن نظريته أم عن موقفه المتخاذل؟ هل كان مجرد شاهد على الأحداث أم كان لديه طموح للسلطة؟ يسأله تلميذه: «أليس من مهمة العالم يا سيدي أن ينير للناس ضوءاً أو أن يهديهم إلى سبيل يخرج بهم من الانحطاط؟» فيجيبه بالنفي ويقول: «مهمة العالم أن يحلل الواقع كما هو، وأن يكشف كيفيات الأحداث وأسبابها العميقة». و «لكن ماذا سيقول عنك التاريخ يا سيدي؟» يسأله التلميذ. فيقول: «لن يذكر التاريخ إلا العلم الذي أبدعته، والكتاب الذي وضعته. أما هذه الأحداث والمواقف العابرة فلن يذكرها أو يهتم بها إلا موسوس مثلك، ومثل كاتب هذه الرواية».

ليست عابرة الأسئلة التي طرحها سعدالله ونوس. في «المنمنمات» وفي «رأس المملوك جابر» وغيرها من أعماله، فهي مطروحة منذ حوارية «السيد والعبد» البابلية قبل آلاف السنين، والإجابة، أو الإجابات عليها، لا تنتهي. هو يستعين بأحداث تاريخية ليضيء على واقعنا بحرفيته الدرامية العالية، وبحسه الإنساني العميق ووطنيته واستقلاليته، مستخدماً المسرح في تشخيص هذا الواقع، بشجاعته المعهودة، وعدم تخفيه وراء التاريخ ليقول الواقع.

كان سعدالله ونوس عصياً على المصادرة حياً. وها هم يصادرونه بعد موته. يتوهمون موقفه من الحروب في سورية وعليها. يتماهون مع بعض شخصيات مسرحه. يصورونه منحازاً إلى «داعش». يستعيدون بعضاً من رؤيته في مسرحية «رأس المملوك»، أو «المنمنمات» أو «سهرة مع أبو خليل القباني» ليبرروا هذه المصادرة. أو ليبرروا تواطؤهم وانحيازهم. فكم مملوكاً وكم رأساً قطع من دون أن يحمل أي رسالة سوى الحلم بنعيم السلطة… لكننا «محكومون بالأمل»، على ما قال في رسالة يوم المسرح العالمي عام 1996، وكان يصارع السرطان.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى